التصنيفات
مدونتي

كاليسكا.. كاف الأولى وكاف الثانية

يذكر فيليب دوفور حول فكر اللغة الروائي ، بأنه ليس مجموعة من المنطوقات التي يمكن تجميعها كفقرات الوصف أو رسم الشخصيات فقط ، وليس سلسلة من التأكيدات ومجموعة من الأقوال المأثورة أو الاستطرادات التي يقوم بها الراوي ، بل هو شكل الفكرة الجمالية التي تصبح محسوسة عبر اللغة وتظهر للعيان ، لكون الشكل هو المفكّر .

وتملك هذه الفكرة الجمالية علّة وجود تاريخية . يحمل الفكر الروائي تأريخية ما لأنه ينتج عن اتصاله بالتاريخ الذي يطالب به . تشكّل المعرفة الموجودة في الرواية حاجة وتنبع من القلق .

قد تتشكل اللغة ثانية بذاكرة مثقوبة ، في مكان يمتلك ثقوبا في هويات شخصياته ، وهذا ما يمكن أن نلحظه في رواية ( كاليسكا ) للروائي الكويتي الراحل ناصر الظفيري ، حيث تشكّل هذه الرواية حجر زاوية ثلاثية الجهراء التي بدأت السرد مع العمل السابق ( الصهد ) ، حيث شكل المكان ذاكرة وهوية لأبنائه المغتربين في مهجرهم أو منفاهم . تكمل كاليسكا الرواية سبر التاريخ الاجتماعي للبدون في الكويت ، ولكن في حكاية مختلفة ، قد تكون من أصل حكايات كثيرة يمكن أن تسرد عن هذه الفئة وهي في غربة المهجر . بطل العمل (العوّاد) الذي دفعته الظروف قسرا للهجرة لكندا بعد ابعاد إداري بحجة أنه بدون ولا يملك وثائق رسمية تمكنه من الإقامة القانونية في الكويت ، بسبب علاقة حب جمعته مع أخت أحد المتنفذين بالبلد .

الرواية تقع في 340 صفحة ، ولكن يهمنا الجزء الثاني منها الخاص في المهجر ، حيث جاءت اللغة كمحور حوار بين شخصيتي ( العواّد ) و ( ستيفاني ) ، وقد حمل الأول في المهجر اسم صاحبه الكويتي ( فهد غانم ) ، حيث يتم منحه الجنسية الكندية بعد هجرته . وهذا الحوار جرى بين شخصيتين عانتا من محاولات تهجير من الهوية الأصلية ، فستيفاني تمثل نسل الهنود الحمر في كندا ، الذي باتوا مواطنين من الدرجة الثانية في موطنهم . ولعل الحوار التالي يكشف نوع هذا التهجير :

( قالت له فجأة : ” لماذا تركت وطنك ؟ ” . ” لم أتركه ، هو تركني ” . ” ولماذا تركك ، آسفة لا أريد أن أجرحك ” . ” لن تجدي في جسدي مكانا لجرح جديد ” . قال وكأنها لاحظت دمعة سقطت مسرعة ، توقعت أنها سقطت في كأسه القريب من شفتيه ) . 

وفي حوار آخر بين الاثنين ، أدارته هذه المرة ستيفاني عن كندا في إحدى المستعمرات التي بقيت للهنود الحمر في الشمال ، وكيف أن الأمهات شكلن الأحلام كلغة جديدة للصغار :

( لا تتوقع أن هذه الأرض أكثر رحمة من أرضك ، كنا بسطاء نعيش لغتنا وديننا وإيماننا وزراعتنا وصيدنا وعاداتنا . كان والدي في السادسة في الفضاء الوحيد الذي دفعه إليه البيض ببنادقهم ، حين جاءت الشرطة بطائرات مروحية هبطت في الساحات وشاحنات شرطة وسيارات كطيور جارحة وضوار زاحفة جمعوا الأطفال فوق السادسة وأركبوهم الشاحنة التي انطلقت بهم إلى مكان لا يعرفه أحد . علموهم أن يتحولوا إلى سكان بيض مثلهم ولم يعد إلى أهله . تزوج امرأة بيضاء ونسي اللغة والدين وكل ما يمت لقبيلته بصلة . صنعوا منه إنسانا كما يصنعون منك . يجب أن تهرب من هنا . أن لا تتحول إلى نسخة من الجميع فلا تعرف من أنت ” ) . 

وفي مهجره ، تعرف هناك على رجل مثله مهاجر وصفه برجل يتكلم لهجته ، أي من المنطقة أو الكويت بالتحديد . حيث دارت بينهما مصلحة العمل رابطا غير اللغة الأصلية ، فمهما غدا المكان الأول ماضيا ، إلا أن له بصمته :

( هكذا تبدو بصمة المكان الأول هي البصمة الحقيقية الدائمة على المصائر . بصمة لا يمكن لعوالم أخرى أن تزيلها ، هكذا تبدو كوحمة الولادة تعرف بها الأمهات أطفالهن وخرافة أسبابها . ) 

نجد في الرواية أن اللغة الأم عندما تهاجر أو تهجّر ولو في موطنها الأصلي ، لا تغادر جسد أبنائها ولو في أحلك الظروف ، لكونها الذاكرة ، مهما ازدادت فيها الثقوب بفعل الزمن ، والندوب بفعل الإنسان ، ربما قد لا يكون الآخر ، ربما الأنا ذاتها ، عندما تحاول التخلص من الماضي المشكّل لحقيقة واقعها . كما شخصية العقيد عبدالرحمن اليزاز ، الذي رفض أي زواج شقيقته رشا و العوّاد أو أي شكل من أشكال العلاقة بحجة أنه أقل منهم اجتماعيا ، في حين الأصل الواحد يجمع الاثنان ، وحدها الصدفة التي فرّقت بينهما اجتماعيا في الكاف الأولى ، الكويت .

كذلك على الضفة الأخرى ، كاف أو الكف الثانية على وجه الهوية، كندا ، مهما صوّرت للجميع أنها الحلم للمنفيين لغة وهوية ، إلا أنها بالحقيقة فخ ، لو تم تجميله ببعض الخرافات أو الأساطير ، بفخ أحلام . ومع ذلك ، هي حلم افتراضي ، في ذكرة اللغة المنسية / الأصلية ، كما جاء في وصف الطبيعة هناك على لسان ستيفاني للآخر الذي معها من هناك ، العوّاد أو فهد غانم ، أيا كانا فهما واحد ولو أنه اسم لشخصين : ( كلما جئت هنا جلست لوحدي أصنع عالمي السابق والذي لم أعشه كاملا هنا أرى قبيلتي وأطفالها وأسمع لغتهم وأعتقد أنني أجيدها ، أرى جدي يدخل البايب كطقس ديني للخالق الذي منحنا الأرض ) .

يحسب للراحل ناصر الظفيري حيلته السردية في الفصول الخاصة بالطارئين على الحكاية، مما يمثل عمقا فنيا في التركيب الروائي، يجعل المتلقي في رباط مع النص. لنفتقد برحيل ناصر الظفيري قامة أدبية روائية، لها فكرها الخاص بلغة وفن الرواية.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

عولمة الدراما وتغييب المتلقي

لاشك أن الكثير من الأعمال الفنية الخالدة التي تلقاها الإنسان على مر عصور الابتكارات والمخترعات التي واكبت تقدمه ، بدءا من السينما والإذاعة والتلفزيون ، جاءت مكملة للفنون التي تأسست عليها الحضارة الإنسانية كالشعر والمسرح والرواية التي كان لاختراع المطبعة دور مهم في انتشارها ، عندما شكلت القصة أو الحكاية محور الحدث اليومي والاهتمام لدى المتلقي ، خاصة المعنية بجزء من حياته و ثقافته . فلولا ارتباط العمل الفني بخيط من نسيج المجتمع الحاضن له ، لما كان له الأثر والدور في استمراره لاحقا .

كانت السينما في بداياتها بحاجة ماسة لأرضية من الدراما المبنية على أسس قصصية ، تسرد بموجبها الحدث وتطور مجراه مما يثير فضول المتلقي ومتابعته ، لهذا نهلت السينما من الأعمال القصصية و الروائية والموروث الشعبي مادة خصبة للإنتاج السينمائي ، ومن ثم الإذاعي والتلفزيوني . ولعل لتصبح الشاشة الصغيرة بعدها النافذة اليومية والمهمة التي تطل هذه الأعمال برأسها على المتلقي في كل ساعات حياته وعلى مختلف فئاته العمرية .

لهذا اتخذت الدراما التلفزيونية مسارها المستقل في استقطاب المشاهدين ، مما جعلها منافسا رئيسيا لبقية الفنون عبر حرب الفضائيات ، ويشتد الاستحواذ من قبلها على المتلقي أكثر في ظل الإعلام الاجتماعي بعدما قطعت ثورة الاتصالات و المعلوماتية الكثير من مراحل التطوروالتقدم التقني ، لتكون قنوات اليوتيوب اليوم متاحة أكثر على الأجهزة اللوحية الذكية ، فيمكنك أن تشاهد أي عمل فني أو قناة عبر تطبيقاتها وروابطها المنتشرة في البرامج المرافقة لها .

من هنا ، فعندما يدخل أي عمل فني لدائرة الإنتاج الدرامي ، فهو محفوف بهذه العاصفة التي تشده بين أصابع المتابعين له . سابقا كان الرهان على الأعمال الدرامية التي يسبق فكرها القصصي و طرحها الفني في المعالجة الإنسانية توقعات المتلقي بكثير من التخييل والدهشة المنطلقين من الواقع المعاش. واليوم بات الرهان على أسماء المشاركين في العمل، فبات نجم الدراما النجم ليس محصورا بالفنان، بل شمل من دخلوا الفن من بوابة السوشيال الميديا ، وليس ضروريا أن يكون ملما بأي مفهوم ، ولو قدر ضئيل عن الفن!.

اليوم لا نتحدث عن شاشة قناة فضائية ، وإنما عن منظومة إعلامية متكاملة مواكبة لها في الدعم والإنتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي المروجة لها ، بشكل مسبق أو آني أو لاحق . اليوم بات الشكل متحكما أكثر من المضمون، وتغييب متعمد للمتلقي عن السياق الذي ينتمي إليه.

عندما كنا ناتبع الأعمال الدرامية الخالدة في رمضان في حقبة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين ، فإننا كنا أمام فكر قصصي في قوالب درامية تلفزيونية تعتمد الحوارات التي تفتح أبواب الفضول للمتابعة عبر سيناريو يحترم ذكاء المتلقي ، كان ذلك قبل دخول المنتج المقاول على الخط ، وعبثه بخيوط وخارطة الدراما والإنتاج الفني عموما ، وهو مايستلزم إعادة الثقة الواعية في اختيار الأعمال الروائية والقصصية لتحويلها دراميا تلفزيونيا أو إذاعيا والتي يمكن أن تؤسس لوعي أجيال قادمة ، قادرة على مواكبة العولمة المزدحمة بشتى صراعاتها ، بعدما أضحى العالم بنية واحدة ، وفي كف واحدة .

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الكتابة فرض كفاية

منذ عقود مضت، بدأت تتشكل تحديات جديدة في عالم الكتابة، وذلك بفضل متوالية جديدة ومتغيرات سريعة مرت وتمر على الساحة اليومية، لتفرض واقعا افتراضيا مختلفا بعدما كان واقعيا محضا، على كل من الكاتب والمتلقي، والناشر بينهما. حيث أصبحت العلاقة اليوم غير مرتبطة بهذه الأطراف الثلاث، وإنما دخلت أطراف أخرى تفرض معادلة مختلفة، عاملها المشترك في ذلك هو التطور المذهل في الثورة المعلوماتية التي أنجبت بشكل شرعي وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبحنا – نحن المرسلين / المستقبلين – جزءا من أدواتها في مجال التداول وحلبة التنافس.

ولأن التداولية باتت لغة العصر الجديدة لكونها تعني ” الفكاك من المنزع النرجسي للنخب المثقفة بفك وصايتها على القيم والحقوق والحريات” كما يرى المفكر علي حرب في كتابه (العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول) الذي جاء بأطروحات فكرية تثور على كل عوامل انشقاق العالم أكثر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فإن الحراك الاجتماعي الذي شهده المجتمع العربي في مطلع عام 2011 أو بما سمّي ب ” الربيع العربي ” كان نتيجة تلك الرغبة في تحقيق حضور “العقل التداولي” الذي يتعامل مع عالم شديد التنوع والتعقيد والتحول، ولذا لا يمكن حصره في صورة نهائية. كما أن العقل التداولي لا يخشى المتغيرات بل يراها فرصة لبدء علاقة جديدة مع الواقع. ولعل الشباب اليوم هم العنصر المحرك لكونهم الأكثر تمرسا لهذا العقل التداولي، في التعامل مع الواقع المتغير. فبات التغيير حياة مستمرة، ليتعلق غيرهم من الأجيال السابقة بكل طوق نجاة في محاولة مسايرة التغيير، لا خوفا إلا من النسيان نفسه في عالم يندفع سريعا نحو نظام جديد ما بين التكريس لأسماء دون غيرها، والتفاهة السطحية التي انتجتها سلطة المجتمع الاستهلاكية.

أجمل ما قرأته عن نظام التفاهة المسيطر على العالم اليوم، ما ذكرته الدكتورة مشاعل الهاجري في مقدمة الترجمة، بأنها تعودت الذهاب إلى الرفوف التي في جوانب وأطراف المكتبة، لأنه غالبا ما تتصدر واجهة المكتبة الكتب من هبة the best seller. لهذا أعتقد أن كثيرا من القائمين على المهرجانات والملتقيات يفكرون بعقلية the best seller، دون تجشم العناء في البحث عن كتب وأسماء أخرى يمكن أن تتفوق فنيا وفكريا، موجودة في أطراف الساحة وجوانبها.

فالتكريس الدائم لأسماء معينة دون غيرها في كثير من المهرجانات والملتقيات سببه أحد أمرين، إما جهل القائمين وكسلهم في البحث عن أسماء جديدة، أو لوجود مصلحة ما، وربما السببان معا.

ولكن السؤال، ما هو الجديد الذين سيقدمونه إذا كانت كتاباتهم تدور حول ذات المحاور التي بدأوا بها مشاريع الكتابة لديهم؟ أو بالأحرى ما هي الإضافة الجديدة التي سيضيفونها للمشهد الثقافي إذا كنا قد حفظنا ذات “المنيفيستو” الذي يقرأونه في كل صاعدة ونازلة؟

لهذا، فإن العقل التداولي كفيل بفك هذا التكريس وتحليل مستوى المتمترسين خلفه، ممن لا يملكون جديدا في الوعي الكتابي، ويستهلكون أو يعيدون إنتاج ما قرأوه لغيرهم أو إعادة تدوير ما كتبوه سابقا.

وعودة لكتاب نظام التفاهة لآلان دونو ، والذي تغلغل في نواحي الحياة المختلف، الفن، الأدب، السياسة، الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي وغيرها، توقفت طويلا عند جملة اقتبستها الدكتورة الهاجري في مقدمتها نقلا عن الكاتب السوري عبداللطيف الفرحان وأجدها أفضل ما يمكن أن يلخص واقع الكتابة اليوم:

“الكتابة عندي فرض كفاية، إذا كتب غيري وأجاد عن الموضوع فلا أجد كتاباتي إلا تكرارا. وبالتالي، فعزوفي عن الكتابة عنها ليس موقفا، بل إيمانًا بأنه ليس لدي ما أضيفه لقضية واضحة ومحسومة وصريحة. فالكتابة ليست إثبات موقف بل اضفاء قيمة معرفية” .

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

جنون الإبداع

سُئل مرة الكاتب الفرنسي أندريه موروا: هل جميع الروائيين مجانين أو عُصابيون؟

فأجاب موروا : «لا، الأصح أن نقول انهم كانوا سيصيرون جميعهم عُصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين. فالعُصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه». بموازاة ذلك، يقول الفيلسوف نيتشه: «دائما ما يوجد في الحب بعض الجنون، لكن دائما ما يوجد في الجنون منطق أيضا».

عند محاولة الوقوف أمام هذين القولين، نجد أن خيطا رفيعا يمتد بينهما، يتلون بحسب الظرف الكائن لكلا المبدع والمحب. فكلاهما، أو هو معا، يتشكل عبر فن ما، يكتسب وجوده في الحالة التي يمر بها الإنسان، بعدما أشبع بطاقة كونية هائلة، سرها ذرة صغيرة تفجرت في داخله مسببة هذا الانفجار الهائل من العاطفة والأحاسيس. فهل سبق ذلك دربة ما، أم أن الفطرة سلقت صاحبها منذ نعومة أظفاره؟

عرّف أحد الكتاب الانكليز الإبداع بأنه نتيجة التعب والجهد بنسبة 99 في المئة ونتيجة الإلهام بنسبة 1٪؜ في المئة فقط. فكل فنان في مجاله، غالبا ما يقف محتارا أمام بياض/ فراغ لوحة أو صفحة العمل المراد انتاجه وابداعه، ولا يمكن انجاز ما يريد إلا بعد وقت وجهد كبيرين.

يقول فلوبير في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه: «لقد داخ رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجوه ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها… إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب».

طرحنا في مناسبة سابقة، ما قاله الشاعر رامبو بأن الحب، كما نعلم، يجب أن يُبتكر من جديد. فكيف يُبتكر؟

بالفن نبتكر ذلك، حيث يحتوي لك الدفء، ويحمل لك الشمعة التي توقظ قناديل الطريق من تثاؤب الانتظار، ليستعبد الضياء قسوة الظلمة الموحشة في مكمن المشاعر ويحيلها جمرة شوق وشغف وشبق لا يستكين، والموجة التي تجرح كبرياء صخور النفـس العنيدة بجنـون. فوحده الجنون ما يكسر القيود، ويلغي حدود المعقول والمنطق، ولو كان ثمة منطق للجنون، كما ذكر نيتشه سابقا، فهو في الجنون ذاته كملاذ أخير للعبور للحياة أو منها.

فربما يكون الإبداع ضربا من الجنون، وقد يكون عُصابا يجد الشخص المريض به علاجه بالكتابة أو الفن حتى يستفرغ ما بداخله من أخطاء الماضي أو يهرب منها متخفيا بهالة الإعجاب من الآخرين حتى يجد ذاته ثانية، ويودعها الثقة من جديد.

وأختم بما قاله قاسم حداد:

سينال منك الجنون/ ما دام الأسلاف يرصدونك/ ويجمعون لك القرائن/ ليروك في الأخطاء./ جنونٌ تظن أنه نصـك الحصين/ فيما ترى نصلاً في الحنجرة/ والكتاب بيتك الأخير./ جنونٌ لك/ تناله و ينال منك.

أسلافٌ من الصـلد وفساد الروح/ لا تأمن ولا تأخذك غفلة عما يصفون./ جُنّ عليهم/ فليس فيهم من يرأف بك، ولا يسمعون لك/ ولا يريدون الحجة، وعلى مضضٍ يـقصلون.

أسلاف لك وأنت وحدك/ ينتخبونك مثل خصوم الله/ عدواً تتكفل به النقائض.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

ثأرُ المعنى

غالبا ما يحُاك المعنى من خيوط الحياة اليومية ، حيث تسحب التفاصيل لونها من الحدث ومن يشعلوه ، بدءا من اليقظة من الغفلة ، طقوس الاغتسال ، الخروج للعالم بوجه جديد ، المرور بأماكن عدة ، مقابلة ناس معينين صدفة أو بموعد سابق ، في زحام لا ينتهي من الالتزامات والمشاغل . وحده الفن الذي ينظر للعالم بعين أخرى مختلفة ، عين وكأنها مركبة على زئبق ، حائرة قلقة ، كما وصفها المتنبي .

والفن كون واسع يحتمل الكثير من الابداعات المشكلّة له ، ومنها فن الأدب المرتكز على اللغة كنسيج خيالي للكلمات ، فينقل لنا الناقد والروائي البحريني أمين صالح في كتابه ( السوريالية في عيون المرايا ) عن الروائي والشاعر الفرنسي أندريه بورتون بأن الشاعريخترق اللغة ويتغلغل فيها ، ومن خلالها يؤسس علاقة حميمة وعميقة مع العالم المادي . ولهذا أبدى السورياليون نفورا صريحا من الآلية المنطقية للجملة . لأن خلق غلة جديدة يعني خلق علاقات جديدة بين الكلمات ، خاصةعندما تقطع علاقتها مع السياق التقليدي لها أو العالم الذي نشأت فيه وتقطع الروابط التي تشدها الى مواقعها الأولى ، ولا تعود تحمل الا القدرالقليل من الأواصر اليومية ، عندئذ تكتسب معنى جديدا غير متوقع لا تعمل بموجبه الكلمات للمعنى الاعتيادي لها ولا السياق اليومي ، أي بمعنى تكسرولادة الاشراق مبكرا !

في حين يرى الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا ، رأيا آخر في كتابه ( حديث اللاطمأنينة ) عن تشكلّ المعنى : ” سوف نترك الغروب للغروب، معتنين بالفن وحده ، مستوعبينه شفوياً، ناقلينه هكذا بواسطة موسيقى تفهم بالقلب. لننصنع نحتاً للأجساد التي ستحتفظ، مرئية وممسوسة، برونقها متحركاً وبدورها ناعمة، سننشئ بيوتاً، فقط لنقيم فيها، وهو ما من أجله وجدت البيوت في النهاية، أما الشعر فسيبقى ليقرب الأطفال من النثر المستقبلي،لأن الشعر، بالفعل، طفولي وأولي وتحضيري.”

ما نحاول الوصول إليه ، قد لا يتشكل المعنى من المعاناة قبل الكتابة فقط ، وإنما من المعاناة ما بعدها أيضا ، لكونها صراع يعيشه الكاتب بشكل مستمر ، وقلق الوجود . فاللغة تحتمل الصنعة الفنية لا الصعلكة اللغوية ، في تنافرها المستمر مع الهيمنة السائدة للتفاصيل المملة ، وثورة المعنى على تكرره المُجرد من التجريب ، وتكرار اللفظ اعتباطيا . فيقول السوريالي البلجيكي بول نوجيه: “ليس كافيا خلق الشيء، ليس كافياً للشيء أن يكون أو يوجد، يجب أن نظهر قدرة الشيء، عبر وسيلة أو أداة بارعة ما، على إيقاظ رغبة المتفرج، أو حاجته، لتنويره”. وهو من أشار إلى محدودية وقصور اللغة بأن هناك كتّابا يستخدمون الكلمات بطريقة خاصة جدا. هم في الواقع يحسبون أنفسهم سادةً، أحراراًفي ممارسة هيمنة كاملة على اللغة. يحسبون أن في مقدورهم الاحتفاظ ببعض خاصيات الكلمات، مهملين الأخرى، لم يخامرهم أي شعور بأن ثورة اللغة عليهم ممكنة . ولهذا فإنه ستحقق ثأر المعنى وتكشف ضعف الفكرة أمام هزالة اللفظ ، ولو طال المدى !

ونقف كما البرتغالي ألفارو دي كامبوس في هذا المشهد :

“أن تشعر بكل الأشياء بكل الطرق،

أن تعيش كل الأشياء من كل الجهات،

أن تكون الشيء نفسه بكل الطرق الممكنة في الوقت نفسه،

أن تدرك في نفسك كل الإنسانية في كل لحظاتها،

في لحظة مبعثرة، مبالغة، كاملة، منفصلة واحدة”.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الريش المفترس

عندما كنا صغارا ، كانت متعتنا في مرحلة التعليم العام عندما نعلم أنه لدينا اليوم رحلة ، وكانت غالبا ما تكون للمتحف العلمي أو معرض الكتاب من باب الاستفادة من النشاط العلمي والتربوي . من ضمن الزيارات أيضا ، كانت حديقة الحيوان ، من باب الترفيه والترويح والمعرفة بدل يوم دراسي مقره الفصل . ولعلنا في تلك السن كنا نتمتع برؤية الأسد في قفصه ، مع بقية الضواري ، كما هي حالة الغزلان والطيور والكائنات الأليفة ، ولا تخلو الرحلة من وجود متطفلين و مزعجين يضايقون الحيوانات عبر سلوكيات مرفوضة في حق الحيوان .

استذكر هنا مقال للروائي العالمي خوسيه ساراماجو أنه يمكن الاستفادة من البرامج الوثائقية الكثيرة حول حياة الحيوانات متوفرة على قنوات فضائية عديدة ، دون الزيارات التي أصبحت نوعا من الماضي ومضيعة للوقت لعدم وجود أي أثر تعليمي أو تربوي بالقدر نفسه اليوم . ليربط ذلك أيضا بمعاناتها – الحيوانات – في خيم السيرك وما تتعرض له من ترويض / تعذيب لتكون أليفة / مطيعة لوحشية وسخرية الإنسان !

بعيدا عن قضبان حدائق الحيوان ، هناك نوع آخر من قضبان الترفيه ، حيث الموضة وكل ما يتعلق بالمظاهر بما نشاهده يوميا من آخر صرخاتها و موديلاتها التي أضحت متعلقة بثقافة المجتمع وهويته ، فبات يحكم على تحضره وتقدمه بحسب مدى اقباله وتأثره بما يتم ابتكاره من جديد الموضة ، وقد ساهمت كثيرا وسائل التواصل الاجتماعي في استعباد المشاعر والعواطف للمشاهير أو المؤثرين الذين انقلبوا إلى أدوات للترويج الاستهلاكي ووسائل تحركها الشركات بكل مستوى حضورها وقوتها على الساحة الشرائية ، فبات العقل مغيبا وراء هؤلاء ، لدرجة التقليد الأعمى ، لمجرد المتعة فقط . والقضبان هنا مشتركة متبادلة بين الفاشينيستا والمتابع ،الأول فرض على نفسه هذا القيد والدخول السافر في حياته الخاصة بحجة أننا في زمن العولمة والسوشيال ميديا و” البزنس ” ، والثاني قيّد نفسه إراديا وراء حياة الأول ليكون قدوته الأولى في نهج حياته وسلوكياته!.

استذكر هنا فيلم ( عالم ترومان ) لجيم كاري الذي كان مقدمة لما سمّي بتلفزيون الواقع ، حيث تتم مصادرة حياة الإنسان ليكون مادة للـ show بحسب قياس المنتج والممول . كذلك فيلم(  EDTV ) لماثيو ماكونهي وتعاقد رجل مع إحدى الفضايات ليكون مادة عرض على مدى اربع وعشرين ساعة بمرافقة الكاميرا المتجولة / المتدخلة بكل خصوصياته ، حيث ضاق ذرعا من هذا القيد والبقاء خلف قضبان الترفيه والتاجر ! 

ما نحاول هنا هو الربط بين هذه القضبان ، أن الإنسان والحيوان ، باتا معا خلف القضبان باختلاف أنواعها ، تدفع جميعها ثمن الفضول والوحشية اليوم في انتهاك حقوق  الحياة . 

في موضوع آخر ، نعود عبره إلى ساراماجو ، يذكر في مقال مقارب عن أن الريش الصيني المستخدم في حشو الوسائد الفاخرة ، يتم نتفه من الطيور وهي حية ، قبل أن ينظف ويطهر ويصدّر إلى المجتمعات الغربية المتحضرة ، التي تعرف ما هو الأفضل لشعوبها وما هي آخر الموضة . ليكتفي ساراماجو بتعليقه أخيرا ( هذا الريش يتكلم عن نفسه ) !!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

ثقافة الأمثال

الأمثال العالمية الناطقة بلسان الحيوان كثيرة ، كما هي المتمثلة لسلوكياته ، حيث تُسقط على حياة الإنسان وتفكيره وسلوكه ، لكون الاثنان ، الإنسان والحيوان ، شريكي الأرض والحياة بكل مكتسباتها وخسارتها . وقد يشكل الرمز في المثل هامشا ممكنا للخيال حول طبيعة مجتمع ما ، يعاني ظاهرة معينة بشكل جماعي ، تشكّل مع الوقت وعيا جمعيا في ضرورة التخلص منها . كذلك الأمثال العالمية التي تدور حول حياة الحيوان ، فإنها لا تخرج من هذا السياق .

يقول جيرومي كو واديو الأستاذ المحاضر بجامعة ( الحسن واتارا ) ، في كوتديفوار عن هذه النوع من الثقافة : ” نحن ما زلنا نعيش في ثقافة المشافهة، ثقافة تتبوّأ الحيوانات والنباتات فيها مكانة بارزة. نحن نلجأ إلى ميزات الحيوان لتمرير رسالة ما “.

وقد حفل التراث العربي بالعديد من الأمثال التي جرت على لسان الحيوان والطير ، فلكل منها منطق وعقل تتخذ عبره سلوكها . فأينما كانت ، لها صفاتها العاقلة والمفكرة ، لهذا ارتأى المؤلف المجهول أن يجري بعض الحكايات علي لسانها ، ليس من باب الرمز فقط ، ومن باب التدبر في حياة الحيوان المعقدة كما هي حياة الإنسان ، ومن هذه الأمثال ما قيل ( في بيته يؤتى الحكم) .

قصة هذا المثل تقول : ” قالوا إن الأرنب التقطت ثمرة فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب، فقالت الأرنب : «يا أبا الحسل»، فقال: «سميعاً دعوت»، قالت : «أتيناك لنختصم إليك» ، قال : «عادلاً حكّمتما» قالت : «فأخرج إلينا»، قال: «في بيته يؤتى الحكم» ، قالت: «إني وجدت ثمرة» ، قال: «حلوةٌ، فكليها» ، قالت : «فاختلسها الثعلب»، قال: «لنفسه بغى الخير»، قالت: «فلطمته»، قال: «بحقك أخذت»، قالت: «فلطمني»، قال: «حر انتصر»، قالت: «فاقض بينا»، قال: «قد قضيت» ” .

والأمثال العربية شأنها شأن الأمثال التي يعيش فيها الإنسان شريكا للحيوان في بيئته ، فهناك مجموعة من الأمثال الافريقية التي ترمز لتصرفات البشر في طبيعة الحياة الفطرية من حولنا . فينطبق على الباحث عن المشاكل هذا المثل السنغالي : ” من يُثر عش الدبابير، عليه أن يجيد الركض ” . وعن الغارق في السخرية من الآخرين وساكتا عن عيوبه هذا المثل الكونغولي ” اعبر النهرقبل أن تبدأ في التهكم على التمساح ” . و أخيرا عن الوسط الذي يعيش يجد الإنسان فيه سعده ، قد يجد فيها بؤسه ، كما هذا المثل ” السمك يثق بالماء،لكنه هو ذاته الماء الذي سيطبخ فيه ” (بوركينافاسو) .

لنختم المقال بما يراه البروفيسور كواديو بأن هناك عددا من الأمثال ستبقى محتفظة بأهميتها خلال مدة زمنية أخرى . ويضرب أمثلة عنها : “يبثّ الفهد الرعب، حتى وإن فقد أنيابه”، و “رجل بلا امرأة، كسلحفاة دون قوقعة ” . ليقول كواديو : ” رغم الحداثة ،فإن اندثار الأمثال لن يكون أمده قريبا، لأن الأمثال تعيش بالمشافهة، والكلمة هي التي تصنع المثل الأفريقي “.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

فريد رمضان.. خلود الصورة

بعد عدة أعمال روائية وقصصية ونصوص مشتركة ، قدّم فريد رمضان عدة تجارب في كتابة السيناريو السينمائي ، موازيا في ذلك هاجسه السردي ،لاسيما الروائي، ونفسه اللغوي مع عينه الراصدة / المتحركة مع الزمن في مختلف تقلبات المكان . على اعتبار أن الصورة هي علامة سيميائية ، تعتمد على الرمزية المعينة المختصرة والحية في حركتها .

يأتي فيلم البشارة the good omen لفريد إضافة لعملين سابقين( حكاية بحرينية / سكون ) في محاولة استنطاق واقع ما، ربما صمت اليوم .

يبدأ العمل في تركيزه على شخصين في الستينات من عمرهما في رحلة صيد السمك أسفل جسر يربط بين جزيرتين ، يدخلان في صمت ، ينصت فيه كل منهما لمونولوج داخلي يحاكي همه اليوم ، يشتركان في رؤية المكان الذي انقض عليه الزمان الحالي في زحف العمران باسم المدنية على ملامح المكان وغيّره ، كما هو حال ملامح وعوالم من فيه . ليشتركا في صمتهما / انصاتهما لمونولوج داخلي لكل منهما .

‏ الأول حسين ، يتحدث مع نفسه عن أولاده الذين تركوه وحيدا في بيته القديم ، والثاني جاسم يحادث زوجته الراحلة ، والرابط المشترك بينهما المكان / الزمان . 

اعتمدت الصورة السينمائية على عدة نقاط نجدها جديرة في الملاحظة والرصد من باب الانطباع وليس التخصص النقدي السينمائي على الآتي :1- الزمان / المكان : حيث ركزت على مفارقة الملامح بين الحي الشعبي والمباني العمرانية الجديدة المتمثلة في حضور ناطحات السحاب مقابل المقهى الشعبي الوحيد الساكن على الضفة القديمة من البحر بما يعادل الانكسار / التوحد الروحي الداخلي لشخصيتي العمل ( جاسم و حسين ) . 

وهو ما حرص عليه رمضان في دقة رسم الصورة بوصف المشاهد في السيناريو من خلال تقسيمه المشهد ما بين المكان / الزمان ، وتحديد موقع التصوير داخلي / خارجي . 2- الواقع : اعتمد على الشكل الاجتماعي في علاقة الماضي مع الحاضر والعكس ، مما يرسم أبعادا أخرى تتشكل في الجوانب الاقتصادية / التاريخية / السياسية / النفسية / الثقافية ، كما يظهر في المقابلة بين ملابس الأب والأبن ، ومدى تقبل الجيل القديم للعصرية وتطورها ، وعدم استساغة طعمها المختلف عن القديم كما هو في طعم الشاي / القهوة / ملة التمر والبخور . 

إضافة لذلك ، العلاقة المبتورة بين الأحفاد والأجداد ، كما هو المشهد الجامع بين جاسم (الجد) و حفيده الذي أدار له ظهره ، ولاهي عنه بحديث عبر الماسنجر بواسطة جهاز اللابتوب ، بينما الجد يسرد قصة اعتقاله من قبل الانجليز في فترة ما من تاريخ البلد .3- الحوار : اعتمد رمضان على الحوارات القصيرة ، لنوعية الفيلم من فئة الأفلام القصيرة . وبرغم اعتماده اللهجة البحرينية ، إلا أنه قابل لأن يشمل كل مجتمع إنساني يعاني مثل هذا الشرخ بين جيلين أو عدة أجيال نتيجة مرور الزمن وتغير المكان ، دون أن تعيق اللهجة أو اللغة حدود العمل . 4- الشخصيات الدرامية : اعتمد رمضان على شخصية جاسم ( الفنان عبدالله ملك ) في إدارة السرد حولها ، إضافة لشخصية حسين ( الفنان أحمد عيسى ) كدور مساند وكلاهما يمثلان وجهة نظر الماضي ، في حين جاء الإبن محمد ( الفنان جمال الغيلان ) مقابلا لهم في التناقض حيث التطور والتقدم والواقع المعاش الآن . أما شخصية الأم الراحلـة ( الفنانة مريم زيمان ) فكان لها دور أساسي في استنطاق البيت القديم مكانيا/ تاريخيا/ اجتماعيا . واعتمد رمضان على مخيلة جاسم في استحضارها والحوار معها . واللافت أنه بعد وفاته ، ليترك مهمة حضورها في مخيلة صديقه حسين الذي أدار حوار معها في نهاية الفيلم وسؤاله لها عن سبب تأخرها عن زوجها الوحيد المغترب في حياته بعدها . 5- وجهة نظر الفيلم : جاءت منحازة للجيل القديم في بصيرته وكفاحه لبناء المدينة التي جحدت بحداثتها كل علاقة معه ، والكفاح هنا لم يقتصر على لقمة العيش عبر مهن البحر القديمة ، وإنما مقاومة المستعمر للحفاظ على استقلال الأرض ، وهو ما عبر عنه جاسم في رمزية البشارة (ثوب النشل ) عندما رفعته زوجته الراحلة وقتما خرج من سجن المستعمر ، ليرفعه بدوره عندما شعر بوقت رحيله إليها .

بدأ الكاتب العمل وأنهاه بموال شعبي للشاعر البحريني حسين بو رقبة وأداء منفرد للفنان البحريني الراحل علي بحر يقول فيه  :

نيران قدر الدهر توقد في قلبي بحر

وعليّ سِلَّتْ سيوف الماضيات وبحر

الناس في ظلهم وربعي بشمس وبحر

من حيث أهل الوفا ما عاد فيهم وصل

وانقص حبل الرجا منهم فلا له وصل

لو كان بالسِّيفْ قطعت الاعادي وصل

لا شك في جزيرة حايطٍ عليّ بحــر

 

والموال من الفنون الشعبية التي اندثرت تقريبا من المنطقة ، بسبب طغيان الثقافة الجديدة ، وما كان من رمضان أن يبدأ الفيلم وينهيه به إلا دلالة على تلاشي تلك الروح القائمة سابقا بين الإنسان والبحر ، حيث تحالف القدر والبشر وأيضا البحر في علاقته الماضية مع الإنسان في ذلك المكان.

وبهذا تحقق الصورة خلود السرد والقص عند فريد .

فأتمنى أن تكون هذه القراءة بمنزلة مشاركة بسيطة لتخليد ذكراك يا فريد في عام رحيلك الأول.

فهد توفيق الهندال

المقال منشور مطولا في مجلة العربي عدد نوفمبر 2014 ضمن سلسلة أعلام الثقافة العربية

التصنيفات
مدونتي

الحياة في إطار!

في كتاب خاص عن عصر الموضة ، ذكر الناقد الفرنسي رولان بارت أن من أهم خصائص الموضة الحديثة تتمثل في فوتوغرافيتها ، مصورا أن العالم عادة ما يتم تمثيله في صورة موضة ، في شكل ديكور خاص بعمق أو بمشهد ، وباختصار ديكور مسرحي ، رابطا بين الصورة والموضة على أساس أن الصور الفوتوغرافية تشكل لغة خاصة لها معجمها وتراكيبها ، وخدعها الممنوعة أو المستحبة ، وهنا ينتهي اقتباسنا لرأي بارت .

تكمن فلسفة الصورة في واقعيتها المجردة ، مسافتها الفاصلـة ، ألوان ظروفـها الطبيعية ، تفاصيلها الغامضة ، وإلا لم آلاف اللوحات التصويرية خالدة ليومنا هذا ؟

الجواب بسبب ظروف رسمها وشخصيتها اللغز في عين الكثير من النقاد والمهتمين في تاريخ الصورة والفن التشكيلي .

ففن التصوير لا يعني لقطة عابرة أو احتفالية جامدة ، بقدر ما هو احتفالية مناظر ومشاهدة مختلفة لواقع يومي معاش ، جاءت في وقت مغاير وسياق جديد في عين ملتقطها ، لتخرج من واقعيتها المباشرة إلى أخرى متخيلة . وهو ما أشار إليه الناقد أمين صالح في كتابه ( السوريالية في عيون المرايا ) بأنها – الصورة – إعادة تركيب للعالم من أجزائه الموجودة لكن وفق آلية جديدة، حرة، لا تعرف رقيبا أو حسيبا، تتداعى بطواعية مطلقة، فاسحة المجال لمختلف ضروب الغرابة.. فهي لا يمكن أن تكون – أي الصورة – ملزَمة أو مضطرة لأن تُظهر نفسها . 

ليردف قائلا : ” الصورة هنا تخرج عن القيود المنطقية والعقلية نحو اللامنطق. إن العلاقة تتخذ أبعادا أخرى، بعيدا عن الرابط الذي يشد السبب إلى النتيجة، والشبيه إلى شبيهه، وكل ما هو معروف عن منطق الجذب والتنافر بين الأشياء والصور والأفكار. إنه اللامنطق. نقل ما هو عادي إلى حدود الغرابة والدهشة ” .

الصورة اليوم .. أينما تجولت في أي مجتمع عصري ، ستجد غالبية أفراده يستغلون لحظات وجودهم في أية مناسبة أو مكان في التقاط صور منوعة غير ممنوعة ، تختلف فيها زوايا رؤيتهم للموضوع ، مع تغيير محدود لواقعية اللقطة بما يضيفونه من فلترة مختلفة وألوان فاقعة أو باهتة تبرز كيف يحبون أن يراها الآخرون ، بمجرد اختيار أمر share ، لتخرج من حيزها الشخصي إلى العامي!

هكذا هي الحياة اليوم ، جميلة بعين من يريد أن يراها ، مزخرفة بكل مظاهر السعادة المفترضة أو العلاقة المتخيلة الرائعة بين أفراد العائلة الواحدة في مناسباتها الخاصة ، وكأن لسان الحال يقول : نحن عائلة سعيدة جدا . مع بعض المونتاج أو الكولاج ! 

أمر جميل أن نشارك الآخرين فرحنا ، دهشتنا ، اكتشافاتنا ، مواهبنا ، نشاطنا ، لكن ليس بالمبالغة المتجاوزة للمعقول في نشر أدق التفاصيل الشخصية التي تصل سذاجتها إلى حد استعراض الابتسامات الجامدة للإقناع بكفاءة السلعة كما في صور إعلانات منتصف القرن العشرين ، وهو لا يختلف في رمزيته عن الوجوه الجامدة لعارضات الموضة ، مما قد يساهم في ارسال رسالة خاطئة إلى جيل لاحق بأن المجتمع السابق عاش حياته سعيدا ، فقط داخل مربع الانستغرام

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

سنة الحياة

صارت عندي هواية جديدة في زمن كورونا، أبحث وأعبث وأتجول في الهواتف القديمة، وصناديق البريد المهملة، والحوارات المنسية في الماسنجرات والقروبات التي عملت لها left أو كان نصيبي منها removed. تصيبني الدهشة والضحكة معا، على آراء ومواقف وتحليلات، استذكر مختلف عبارات الشكر والود والظن لأقول:”سبحان مغيّر الأحوال من حال إلى حال” .
هواية أنصحكم بها لنعرف كم هو عبثيُ هذا العالم من حولنا، وكم تغيّرنا.
دون أن أنسى الصور، التي ليس لها مكان إلا في saved folder
والرسائل التي لم تغادر بعد draft folder، ربما كانت من ممكن أن تحدث فرقا أو لا.

فجميل أن نستعيد الماضي للحظة، لكي نقف على حافة اليوم، نستطلع الغد بما يمكن أن يشكله من تحدٍ جديد أو تغيير لما هو أفضل.

القول الذي يردده الكثير “الله لا يغيّر علينا” يحتمل الثبات على أمس مضى كان جميلا لم يستمر، أو حاضر حلوه متساوي مع مره، دون زيادة أو نقصان. لكنه في حقيقة الأمر خوف وقلق من غد غامض مجهول، لم تتضح ملامحه أو معالمه. لذلك، كان هذا القول ” الله لا يغيّر علينا” سببا لكثير من الجمود والرضوخ لذاكرة واحدة محددة، لا تحتفظ إلا الجميل المؤنس.

أخيرا.. أختم بما قاله الشاعرأبو القاسم الشابي

ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ

تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ

فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ

من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ

كذلك قالتْ ليَ الكائناتُ

وحدَّثَني روحُها المُستَتِرْ

ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجاجِ

وفوقَ الجبالِ وتحتَ الشَّجرْ

إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ

رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ

فهد توفيق الهندال