التصنيفات
مدونتي

عرّافةُ الرّمال

سيرة إنسانيّة للرمال

للشاعر جاسم الصحيّح

تعد قصيدة “سيرةٌ إنسانيَّةٌ للرِّمال” للشاعر السعودي جاسم الصحيّح واحدة من أبرز الأعمال الأدبية، ليس في منجز الصحيّح فحسب، بل وفي الشعر العربي الحديث. تعكس القصيدة بعمقها وثرائها التعبيري قوة الشاعر في نقل المشاعر والأفكار المتعددة بأسلوب شعري راقٍ ومؤثر. يلامس الصحيّح قلوب القراء من خلال استخدامه للصور الذهنية المتنوعة والمبدعة، ويثير فيهم مشاعر الانتماء والفخر والحب للوطن، لتحتل هذه القصيدة مكانة مرموقة في الأدب العربي بفضل عمقها الفني، وقدرتها على التعبير عن التحديات والصمود والتفاني في خدمة الوطن.

وتكمن أهمية القصيدة في جوانبها الأدبية، منها:

1.التعبير عن الوطن

فتعدّ القصيدة لوحة فنية تعبر عن حب الوطن والتفاني من أجله. إذ قدّم الشاعر صورة مدهشة للوطن ككيان حي ينبض بالحياة، يواجه التحديات ويصنع المجد. في هذا السياق، يعبر الشاعر عن الوطن بكلمات ملهمة:

“فتَجَلَّى في مداها وَطَنٌ

يُلْهِمُ الحاضِرَ أنْ يغدو حَضَارَةْ”

كما يشبّه الشاعر الوطن بالبحر، الذي يحتوي على حيتان كثيرة دون أن تُفسد محاره، مما يعكس غنى الوطن وتنوعه مع الحفاظ على نقائه وجوهره:

“وَطَنٌ كالبحرِ في سِيرتِهِ..

كثرةُ الحيتانِ لم تُفسِدْ مَحَارَهْ!”

2. الصور الذهنية المبتكرة

يعكس تشبيه النهارات بخيول مستثارة والليالي كغارات متتابعة، حركة الزمن والتحديات المستمرة، مما يُضفي على القصيدة ديناميكية وقوة تعبيرية:

“النهاراتُ خيولٌ مُسْتَثارَةْ

والليالي غارةٌ تتبعُ غارَةْ”

كما يُضيف استخدام الشاعر لصورة الرّمال بعدًا فلسفيًا للقصيدة، وذلك بوصف الرّمال عرّافة تقرأ الوقت وتستجلي مداره، إذ تصبح الطبيعة جزءًا من حكاية الإنسان وتاريخه:

“والرمالُ ابْتَدَأَتْ عَرَّافَةً

تقرأُ الوقتَ وتستجلي مَدارَهْ:

3. الجمال الأسلوبي

تتميز القصيدة بلغة شعرية رصينة وموسيقى داخلية متناغمة، مما يعكس براعة الشاعر في استخدام اللغة العربية وتطويعها لتناسب موضوع القصيدة:

“وطني.. إنَّ رصيدًا من هَوًى

عاشَهُ الأجدادُ، ضَاعَفْنَا ادِّخارَهْ”

ويستخدم الشاعر التكرار بشكل فني يعزز من تأثير القصيدة على المستمع والقارئ، مما يجعلها أكثر تذكرًا وتأثيرًا:

“كلَّما اصْفَرَّ المدى لاذَ بنا

فـهَزَزْنَاهُ وأَسْقَطْنَا اصفرارَهْ”

وللحديث بقية في مقال طويل ينشر قريبا.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

على طريق خلاص .. رحلة 404

قليلة هي الأعمال السينمائية التي تثير فينا أسئلة عديدة، حول القضية الرئيسة التي تطرحها، والنتيجة المتوقعة من خطها الدرامي، بما تمرّ به أحداثها ونمو شخصياتها في حواراتها المتصارعة. لتسأل ذاتك بعدها، كيف يمكن أن يكون موقفك في الحياة، إن مررت بموقف مشابه؟

شاهدت مؤخرا فيلم (رحلة 404) تأليف محمد رجاء واخراج هاني خليفة، وبطولة مجموعة من الفنانين.

يحكي الفيلم قصة (غادة) التي تستعد لأداء فريضة الحج في رحلة تجدها غادة مستحقة لها في بحثها عن نور الخلاص بعد توبتها من ماضيها المُظلم، إلا أن ضغوط الواقع المعيش وذاكرته تقف أحجار عثرة في طريق هذه الرحلة، بسبب حادث تتعرض له والدتها المُطلقة من والدها، لتبدأ الحبكة في نثر خيوطها ببراعة من قبل الكاتب والتقاط المخرج لتفاصيل الحالة التي تمرّ بها غادة ومن حولها، لتدخل في صراع حول معنى التوبة، هل هي فكرة مجرّدة أم خاطرة عابرة؟

الملاحظ في شخصية (غادة) ومعنى الاسم الفتاة المتمايلة بنعومة ودلال، أنها تعيش هذا التمايل بين نوعين من الحياة، من الناحية الشكلية ميلها منذ بداية الفيلم إلى ارتداء الملابس والأحذية ذات الكعب العالي والاكسسوارات ذات طابع الموضة والماركات العالمية، وملّيها للظهور بشكل الشخص المواظب على العبادات، في صراع بين هوس الحياة واستهلاكها مقابل بطء وعي التوبة وتواضعها، و لا يتزن ذلك مع مقاصد الرحلة وغايتها. إلى جانب الشخصية الفظة التي اتسمت به لفطًا وفعلًا لاسيما مع من حولها، والدتها ووالدها، في كمية الفعل التلفّظي البذيء. وهو ما يخالف الحالة المتوقعة بعد التوبة والاستعداد لرحلة الخلاص!

إذن، تتوقف اجابة السؤال السابق ( هل التوبة فكرة مجردة أم خاطرة عابرة ) على مدى القناعة بأن الاعتراف بالخطيئة هو نصف التوبة وطريقها الواضح. فالاعتراف أولا هو ضمان عدم العودة للخطيئة مهما كانت مغريات الحاجة. وهو ما وقعت في اختباره غادة طوال الفيلم، فالحاجة كانت طريقا موازيا للخلاص، فأيهما يغلب في النهاية؟

تميّز الفيلم بالحوارات الواقعية والمناسبة لحالات الشخصيات بعيدًا عن المثالية، بل كانت طبيعية كما هي في الحياة، حيث قسوة التفكير ولغته. ولأن الخلاص صعب في ثبات التوبة، هو ما تلفظت به غادة في ملفوظها ( أنا رايحة أحج بس مش ثابتة!). فالثبات طريق صعب في رحلة التوبة والخلاص.

ليختم الفيلم بأغنية ليلى مراد التي تقول كلماتها:

يا رايحين للنبى الغالى

هنيالكم وعقبالى

يا ريتنى كنت وياكم

وأروح للهدى وأزوره

وأبوس من شوقى شباكه

وقلبى يتملى بنوره

واقول ربى كتبهالى

يا رايحين للنبى الغالي.

أمانة الفاتحة يا مسافر لـ مكة

تأدى فرض الله حترجع

والاله غافر ذنوبك

لما نلت رضاه

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

قصيدة المكان الأزلية ، المليئة بالأسئلة ” محمود درويش ” ..

هل يمكن أن نقتنع بما جاء على غلاف ديوانه الصادر بعد وفاته ” لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ” بأنه الأخير كما قرر الناشر وقتها ؟

فهل جاءت نصوصه المختارة بين غلافيه سلفا موافقة لغربة درويش المكانية ، أم جاءت خلفا يوازي رغبة الناشر التسويقية؟

بكل تحفظ ، لانعتقد أنها محاولة موّفقة لاقفال هذه الرحلة الشعرية ، بختم أصفر ، مطبوع عليه ” الديوان الأخير ” ، فما تزال للشعر جولات و صولات عند محمود درويش ، لن تعيق حضوره في حضرة الغياب . فالديوان المذكور ، لم يكن سوى عبور جديد لدرويش في جداريته الشعرية. خاصة وأن الديوان حمل وصية شعرية ” لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ” .

لقراءة الديوان كان لابد من اقتفاء أثر الفراشة منذ جداريته الأولى ، وما حملته من حشد كبير من رؤى محمود درويش الشعرية للعالم بكل تناقضاته وأطيافه من حوله ، وقد توسد فيها الشاعر ذلك المرتقى البعيد على سفح قمة المطلق الأبيض على باب القيامة خارج المكان :

أرى السماء هناك في متناول الأيدي .

ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب 

طفولة أخرى . ولم أحلم بأني 

كنت أحلم . كل شيء واقعي . كنت 

أعلم أنني ألقى بنفسي جانبا ..

وأطير . سوف أكون ما سأصير في

الفلك الأخير . وكل شيء أبيض ، 

البحر المعلق فوق سقف غمامة 

بيضاء . واللاشي أبيض في 

سماء المطلق البيضاء . كنت ، ولم 

أكن . فأنا وحيد في نواحي هذه

الأبدية البيضاء . جئت قبيل ميعادي

فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي :

” ماذا فعلت ، هناك ، في الدنيا ؟ “

ولم اسمع هتاف الطيبين ، ولا 

أنين الخاطئين ، أنا وحيد في البياض ، 

أنا وحيد .. ”      (جدارية  محمود درويش )

فأيّ بياض يمكن أن يشعر به درويش في وحدته في ذلك المطلق؟

هل هو بياض الصمت؟ الخطيئة؟ الخروج من هذه الدنيا كما دخلها فردا أعزل؟

كانت الجدارية خريطة النص لدرويش في أعماله اللاحقة ، العودة للذات، للأنا. ومن هذه الأعمال ديوانه ” لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي “، حيث عاد المكان الأول ، متجردا من كل شيء إلا بما ارتبطت به ذاكرة درويش .. ليستحيل المكان إلى ظرف مكاني رمزي ” ههنا ” ، ويتوقف الزمان عند لحظته التي تمرد فيها على قوانين الوقت و فيزياء الطبيعة ، واختصرها بـ ” الآن ” طوال ديوانه المذكور . 

فالمكان .. تنوعت ضفافه الروحية في عيني درويش ” الشعر / الذات ” ، وهما المسافرتان التائهتان في الألوان ، الهاربتان من المرايا ، الصافيتان ، الغائمتان ، فيصبح المكان : 

” ههنا ، بين شظايا الشيء

واللاشيء ، نحيا 

في ضواحي الأبدية . 

نلعب الشطرنج أحيانا ، ولا 

نأبه بالأقدار خلف الباب 

ما زلنا هنا

نبني من الأنقاض 

أبراج حمام قمرية

نعرف الماضي ، و لا نمضي

و لا نقضي ليالي الصيف بحثا 

عن فروسيات أمس الذهبية 

نحن من نحن ، ولا نسأل

من نحن ، فما زلنا هنا

نرتق ثوب الأزلية 

نحن أبناء الهواء الساخن – البارد

والماء ، وأبناء الثرى والنار والضوء 

وارض النزوات البشرية 

ولنا نصف حياة

ولنا نصف ممات 

ومشاريع خلود .. وهوية ”      (ههنا ، الآن ، وهنا والآن) 

كما نلاحظ الثنائية الممزوجة بين ضميري المتكلّم (أنا/نحن) وأفعال الكلام المرتبطة بهما على امتداد اللوحتين الشعريتين، بما يفيد حالة الشتات المتأرجحة بين الذاتية والجماعة بينهما، مع تلاقي البياض باللاشيء، وكأنها نتيجة المعادلة الشعرية بين اللوحتين.

ليعود به المكان في الديوان الأخير إلى بروة في طللية خاصة بها ، ليقف على عتبة الحنين إلى وقد تجرد من محدثات الزمن ، واكتفى برؤية صوره الأولى :

” أقول لصاحبّي : قفا .. لكي أزن المكان 

وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول

وبالرحيل . لكل قافية سننصب خيمة .

ولكل بيت في مهب الريح قافية ..

ولكني أنا ابن حكايتي الأولى،

والسرير تهزه عصفورتان صغيرتان . 

ووالدي يبني غدي

بيديه .. لم أكبر فلم أذهب إلى المنفى . ”  ( طللية بروة ) 

إذن، تجلّت الصورة الشعرية هنا، بالعودة لينابيع الصبا الصافية، دون شوائب الزمن اللاحق، الحكاية الأولى بأبجدية براءة الطفولة، وهو حنين متشبّع في شعر درويش الأخير.

ليملأ الهواء المكان بالزنبق ، ليضرب له موعدين ، الأول مع أميل حبيبي ، حيث السؤال عن الفرق بين ” هنا ” و ” هناك ” ، وما قد تعنيه الواو من مسافة مجازية . لقاء لم يكن من أجلالرثاء ، وإنما ليمشي على الطرقات القديمة مع رفيق الطفولة والصبا .. ومع ذاته هو(درويش):

” لا لأرثيه جئت ، بل لزيارة نفسي .

ولدنا معا و كبرنا معا . أما زلت يا 

نفس أمارة بالتباريح ؟ أم صقلتك 

كما تصقل الصخرة الريح ؟ تنقصنا 

هدنة للتأمل : لا الواقعي هنا 

واقعي ، ولا أنت فوق سفوح الأولمب 

هناك ، خيالية . سوف أكسر أسطورتي 

بيدي ، كما يكسر الطفل كوب الحليب ”  ( موعد مع اميل حبيبي ) 

أما الموعد الثاني ، فالمكان بيت نزار ، وقد تجول درويش بين زوايا ذاكرته ، وقد تحوّل إلى بيت من الشعر :

” بيت الدمشقي بيت من الشعر .

أرض العبارة زرقاء ، شفافة . ليله 

أزرق مثل عينيه . آنية الزهر زرقاء 

والستائر زرقاء .

سجاد غرفته أزرق . دمعه حين يبكي 

رحيل ابنه في الممرات أزرق . آثار 

زوجته في الخزانة زرقاء . لم تعد

الأرض في حاجة لسماء ، فإن قليلا 

من البحر في الشعر يكفي لينتشر الأزرق

الأبدي على الأبجدية . ”          ( في بيت نزار قباني ) 

 

والزرقة قد تكون رمز الخلاص / الصفاء / الراحة ، وهو ما قد يلوذ به درويش وقتها، مستجيرا بها من عبث ألوان الأرض.

ليعود درويش إلى رام الله ، التي استقر بها بعد المنفى :

” لا أمس لي فيها سواك ، 

وما خرجت و ما دخلت ، وإنما 

تتشابه الأوصاف كالصفصاف 

ماعزها سطور قصيدة رعوية 

ومحطة الارسال ترسل صورة صوتية 

لمدينة ، تبنى على عجل ،

ويسقفها السحاب 

– ها نحن عدنا اثنين من سفر

أنا وحكايتني الأولى ، 

يقول رفيق ذاكرتي 

– إلى سفر مجازي ، أقول 

وأول الأرض اغتراب . ”  ( في رام الله ) 

وبعد العودة لرام الله، المدينة التي بُنيت على عجل لتكون عاصمة الحكم الذاتي، وهي أشبه بالفتاة الصغيرة التي زوّجوها مبكرا من كهل مثقل بالحكايا والخيبة، ليأتي الغياب ثانية ، ليخلُفَ المكانَ حاضرا ، كغيمة غدها المطر ، تفصله عن القادمين مسافة طويلة ، يستطيع الآن أن يلتفت للوراء بكل سلام ، ويخلف الشعر وصية من لا أحد إلى كل شاب يكمل دورة الشعراء الدمـوية ، يوصيه بأن القصيدة ناقصة ، والفراشات وحدها تكملها ، فتقيم مع الواقع علاقة ودية ، لا تنظر للماضي ومواقفه الرمادية، و لا لقول النظم الخطابية، وإنما الشعر فقط، متجردا من كل شيء إلا زرقة الذات والمكان الأول وكل كائناته البيضاء. ليبقى لحنها فلسطيني الهوى و الهوية . 

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

American Fiction

خيال الأدب الرفيع!

” الناس لا يهمهم ما أكتبه عن ما يمثلني، الناس يهمهم  أن تكتب عن ما يحبونه .” سينتارا جولدن

كانت هذه إحدى اقتباسات الفيلم التي شجعتني على مشاهدته لأكثر من مرة، لما تبيّنه من أهمية الكتابة في حياة الكاتب قبل أن تكون للمجتمع، والعكس كذلك.

يقدّم فيلم “American Fiction” أو “الخيال الأمريكي” تجربة ساخرة عن مجتمع الأفرو أمريكان، متناولا الصورة النمطية المنعكسة عنه عبر قضاياه المستمرة، كالعنصرية، المخدرات، العصابات، عدم الاستقرار الأسري و القتل دوما على يد عناصر الشرطة!

تدور قصة الفيلم حول ثيلونيوس “مونك” إليسون، وهي شخصية متخيّلة، يعمل كاتبا روائيا وفي نفس الوقت أستاذا جامعيا. يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي مثير يعرض “مونك” في جدال مع إحدى طالباته “من البيض” حول عنوان عنصري للنقاش، حيث تصر الطالبة البيضاء على أن الموضوع الذي يثيره مونك فيه من العنصرية ضد مجتمع الأفروأمريكان، وهو عكس المتوقع من شخصية مونك الذي يعتقد أنها تجاوز كل أشكال العنصرية في مدينته هوليوود، ويتحدث بواقعية! 

هذه الحادثة وما سبقها من حوادث سابقة لمونة، فرضت على إدارة الجامعة الطلب منه بأخذ إجازة مفتوحة، وهو ما جعله يعود لمدينته بوسطن، وهناك يواجه منعطفا غير متوقع في حياته، بوفاة شقيقته المفاجئ، ليكون مسؤولا عن والدته التي تعاني الزهايمر، ليبقى معها في الواقع الذي هرب منه سابقا. 

خلال وجوده يتعرض مونك للكثير من الضغوط التي تتطلب منه البحث عن مصدر دخل جديد يفي بالتزاماته مع والدته، ووفاة شقيقته دكتورة القلب، ولامبالاة شقيقه دكتور العمليات التجميلية المِثلي، وأيضا لشعوره بعدم التقدير لأعماله الروائية التي تصنّف رغما عن رغبته بأنها من (أدب الأفرو أمريكان) فقط لأنه محسوب على هذا المجتمع، ليكتبوفي ليلة واحدة، رواية ساخرة أشبه بالدعابة تحت اسم مستعار، حملت الكليشيهات المعروفة عن مجتمع الأفرو أمريكان ولغة غير معتادة من مونك الشخصية المثقفة المتعالية والرافضة لهذا المجتمع، لتكون المفاجأة من قبل وكيله الأدبي أن روايته الجديدة مطلوبة من قبل كبار الناشرين “البيض” الذين رفضوا اعماله السابقة، ليجد نفسه في مواجهة معنجاح كبير غير متوقع للرواية، وهو ما أوقعه في صراع بين واقع يهرب منه، وخيال يُعيده إليه. فواقعه لا يمكن أن يكون مختلفا عن الكليشيهات التي كتبها ساخرا، هي تمثل واقعا لحياته الشخصية والأسرية، فوالده المُتوفى دكتور عاش حياته وراء ملذاته حتى أقدم على الانتحار، وشقيقته الدكتورة تعيش واقعا اجتماعيا صعبا بعد انفصالها عن زوجها. وشقيقه كليف، تطلق من زوجته بسبب اكتشافها لحياته المثلية لا لكونه متعاطي للمخدرات. كذلك شخصية الجارة كورالين، وهي أيضا منفصلة، وتبادلت الود مع مونك إلا أنها تركته بسبب أسلوبه المتعجرف من حياة مجتمعه. إذن الواقع الذي رفضه مونك سابقا وتعالى عليه، سرعان ما اكتشف أنه حقيقي ولا يمكن نكرانه.

يطرح الفيلم ثنائية الأدب الرائج والرفيع، ويسلط الضوء على الفرقبينهما وكيف يستطيع كاتب واحد تقديمهما معًا، وكيفية الموازنة بين أدب نخبوي وآخر جماهيري. كذلك يناقش الفيلم أيضًا ثنائية أخرى بينكتابات تحاول الخروج عن الأنماط الشائعة عن كتابات فئة معينة،وكتابات تصنف على أنها أدب هذه الفئة لكونه يقدم مضامينها ضمنإطارهذه الأنماط. وهو ما أدخل مونك في جدال فكري مع منافسته وابنة مجتمعه الكاتبة الشهيرة سينتارا جولدن التي عادة تدمج هذه المضامين في كتاباتها عن حياة مجتمعها لكونه الأكثر طلبا ومبيعا عند مجتمع البيض، ولعل المفارقة التي أدت لهذا الجدال وصول روايته الساخرة والتي غيّر اسمها بكلمة “مبتذلة” للقائمة القصيرة لجائزة أدب رفيعة، جمعت الصدفة مونك وسينتارا معا في لجنة تحكيمها. وهنا يكتشف مونك تناقض سينتارا التي تكتب روايات هي أشبه بروايته المبتذلة، إلا أنها صوتت ضدها لأنها تجدها مقيته ولا تستحق الترشح لابتذالها وسطحيتها!

يسخر الفيلم من المنظومة الثقافية الأمريكية – كمثال – من خلال نجاحرواية تهكمية/ مبتذلة/ سطحية بشكل غير متوقع، لتتحول إلى فيلممرشح للأوسكار، مما يزيد من حيرة مونك وتناقضاته الداخلية بشكل رمزي يشير بالنقد اللاذع للنظام الثقافي الأدبي كجزء من منظومة أكبرتساهم في تسليع الأدب والتنميط العنصري، والعلاقة الخفية بين الأدب والرأسمالية، مهما حاول أصحاب الأدب الرفيع نكران هذه الحقيقة ورفض هذا الواقع بخيال متوهم عن ما يكتبون. ولعل أكثر عبارة عميقة أظهرت حقيقة هذا الخيال المثالي عن الأدب، ما قاله آرثر الوكيل الأدبي لمونك: ” بأنه عليك في بعض الأحيان أن تكسر أولى قوانين البيع بعدم الاستخفاف بمدى غباء الناس” !

 

والعاقبة لمن يعقل ويتدبر 

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

مسرح الطفل.. الرسالةُ والمَهمَةُ اليوم!

 

يعدّ مسرح الطفل أهم وسائل التعبير الفني والتعليم في المجتمع، حيث يجمع بين المتعة والتعلم في بيئة تفاعلية وآمنة للأطفال. يلعب هذا النوع من المسرح دورًا كبيرًا في تنمية الخيال، وتعزيز القيم، وتحفيز الفضول لدى الأطفال نحو المعارف. 

يمتد تاريخ مسرح الطفل لعصور طويلة، فهو متجذر في ثقافات مختلفة حول العالم. بدأ مسرح الطفل كمفهوم غير رسمي في المجتمعات القديمة، حيث كانت الروايات الشفوية والقصص الشعبية تلعب دورًا كبيرًا في تعليم الأطفال وتثقيفهم. في العصور الوسطى، كانت المسرحيات الدينية تُعرض في أوروبا كجزء من احتفالات الكنسية، وكانت تتضمن عناصر تجذب الأطفال. مع مرور الوقت، بدأت هذه المسرحيات تتطور وتصبح أكثر تخصصًا لتلبية احتياجات الجمهور الصغير. وفي القرن التاسع عشر، شهد مسرح الطفل تحولًا كبيرًا بفضل جهود الأفراد والمنظمات الذين أدركوا أهمية تطوير مسرحيات مخصصة للأطفال. فبدأت الفرق المسرحية في تقديم عروض تستهدف الأطفال بشكل مباشر، مع التركيز على القيم التعليمية والترفيهية.

كانت بدايات مسرح الطفل في القرن العشرين، مع المسرحيّات الأولى التي كتبها الاسكتلندي جيمس باري الذي كتب مسرحية (بيتر بان)عام 1902، ليأتي بعده الكاتب البلجيكي موريس ماتيرلنك من خلال عمله المسرحي (العصفور الأزرق) عام 1907م، ثم الاسباني اليخاندرو كاسونا الذي كتب مسرحيتي (العصفورة الملونة) عام 1928(الحورية الخارجة من الماء) عام 1934، ليصبح مسرح الطفل جزءًا أساسيًا من الثقافة الشعبية. ففي الولايات المتحدة وأوروبا، بدأت المدارس والمراكز الثقافية بتنظيم عروض مسرحية للأطفال بانتظام. كما شهدت هذه الفترة ظهور مؤلفين مسرحيين متخصصين في كتابة النصوص للأطفال، مثل لويس كارول الذي كتب (أليس في بلاد العجائب)، تيد هيوز الذي قدّم أعمال (عظام النمر)، (شون والغبي والشيطان والقطط) و (مجيء الملوك) . لتدخل أعمال ديزني مضمار العمل المسرحي باقتباس الكثير من شخصياتها في أعمال مسرحية كثيرة.

في حين، انطلق مسرح الطفل العربي من عروض الدّمى المتجولة ومسرح الظل والأراجوز بين الحواري والمدن والريف، ليُعتبرذلك الشكل الأول لمسرح الطفل.وفي مطلع الستّينات من القرن العشرين، أصبح مسرح الطفل ضمن السياسة الثقافية والتربويّة للحكومات العربية، لما فيه توجيه نحو الانتماء للموروث العربي والحس القومي. وقد تأسس أول مسرح للأطفال في مصر سنة 1964،ولعل العرض المسرحي الخاص بالدمى (الليلة الكبيرة) لصلاح جاهين وسيد مكاوي أهم عروض تلك البدايات. وفي سورية تأسس مسرح العرائس عام 1960 وكان يُقدّم عروضه ضمن نطاق المسرح المدرسي، حتى تحوّل لعروض خارج النطاق المدرسي يقدمها ممثلون محترفون بعدما كانت منحصرا على ممثلين من الطلبة والطالبات، ومن أشهر العروض المسرحية وقتها التي كتبها الكاتب اللبناني فائق الحميصي والشاعر السوري سليمان العيسى.

وفي الكويت، وهي الرائدة خليجيا في مسرح الطفل، حيث بدأ بالظهور بشكل ملحوظ في السبعينيات من القرن العشرين، تزامنًا مع النهضة الثقافية والفنية التي شهدتها البلاد. كانت البدايات متواضعة، ولكنها سرعان ما تطورت بفضل جهود عدد من الفنانين والمثقفين الذين أدركوا أهمية هذا النوع من المسرح في تنشئة الأطفال، فقد انطلق مسرح الطفل في بداياته من مسرح العرائس تحت عنوان (أبوزيد بطل الرويد) (1974) لفرقة المسرح الكويتي، من تأليف الشاعر الأسير الشهيد فايق عبدالجليل، وإخراج أحمد خلوصي. بعدها كانت جهود المسرح التربوي على يد الكاتبة عواطف البدر وهي المتمرسة في النشاط المسرحي التربوي بما قدمته عبر مؤسستها الفنية من أعمال خالدة في مرحلة التأسيس من منتصف السبعينيات إلى الثمانينات، مستقطبة أسماء عربية للاستلهام من الموروث الشعبي العربي وقد أثمر ذلك نحو 30 عملا خلال 10 سنوات امتدت منذ العام 1978 وحتى العام 1986 ، ومن بين تلك الأعمال السندباد البحري والبساط السحري وغيرها، شارك في تأليف تلك الأعمال مجموعة من الكتّاب العرب، ومنهم خلف أحمد خلف من البحرين ومحفوظ عبد الرحمن والسيد حافظ من مصر، ولعل أهم المخرج الفنان الراحل منصور المنصور هو من أهم المخرجين من تبنّوا وقتها مسرح الطفل وإخراج عدد كبير من أعماله الخالدة. ثم ينتقل مسرح الطفل بعدها لمرحلة من رحم الأكاديميةعلى يد خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، فيشكّل طريقا جديدا على يد نخبة من الكتاب والمخرجين، فقدمت أعمال مسرحية للطفل خلال نهاية الثمانينات والتسعينات، مستعيرة من القصص الإنساني ما يكون مناسبا للاسقاط على واقع تلك الحقبة.

وعند مناقشة واقع وحال مسرح الطفل اليوم، لابد من الوقوف على المدارس التي تأسس عليها تبعا لرسالة العمل المسرحي المخصص للعرض، والمدارس هي:

1. المدرسة الكلاسيكية:

تتميزهذه المدرسة بالتركيز على القصص الكلاسيكية والمعروفة، كالقصص المخصصة للأطفال، كسارة البندق، بينوكيو، صاحب الظل الطويل، وغيرها. تهدف إلى تعليم الأطفال القيم التقليدية والأخلاق من خلال سرد قصص تروي أحداثًا معروفة ومحبوبة.

2. مدرسة التفاعلية:

تركز هذه المدرسة على تفاعل الأطفال مع العرض المسرحي، حيث يتم إشراكهم في القصة من خلال الحوار والتفاعل المباشر مع الممثلين. يساعد هذا النهج على تعزيز المشاركة النشطة والفهم العميق للمحتوى.

3. مدرسة التعليم من خلال الترفيه (Edutainment):

تسعى هذه المدرسة إلى دمج التعليم بالترفيه، حيث يتم تقديم مواضيع تعليمية مثل العلوم والتاريخ والجغرافيا في قالب مسرحي مشوق. يهدف هذا النهج إلى جعل التعلم ممتعًا ومثيرًا للاهتمام.

4. المدرسة النفسية:

تركز على الجوانب النفسية والاجتماعية لتنمية الطفل، من خلال تقديم مسرحيات تعالج قضايا مثل الصداقة، والهوية، والشجاعة. تهدف هذه المسرحيات إلى تطوير مهارات التفكير النقدي والعاطفي لدى الأطفال.

ومن هنا، تنوّع مسرح الطفل بحسب أهدافه وأدواته، لنجد هذه الأنواع:

1. المسرح التعليمي:

 يهدف إلى تقديم مواد تعليمية بطريقة مشوقة، حيث يتم دمج المناهج الدراسية في العروض المسرحية لتعزيز الفهم والاهتمام بالمواد الأكاديمية. يمكن أن تشمل هذه العروض مواضيع مثل الرياضيات، العلوم، والتاريخ.

2. المسرح الاجتماعي:

يركز على قضايا اجتماعية مثل التنمر، الصداقة، وقيم التعاون. يستخدم المسرح الاجتماعي لتوعية الأطفال بالقضايا التي قد تواجههم في حياتهم اليومية وكيفية التعامل معها بطريقة إيجابية.

3. المسرح الخيالي:

 يعتمد على القصص الخيالية والأساطير لإثارة خيال الأطفال وتحفيزهم على التفكير الإبداعي. يعتبر هذا النوع من المسرح وسيلة رائعة لنقل الأطفال إلى عوالم جديدة ومغامرات ممتعة.

4. المسرح الموسيقي:   

يدمج الموسيقى والغناء والرقص في العروض المسرحية لجعل التجربة أكثر حيوية وجاذبية. يساعد هذا النوع من المسرح في تطوير مهارات الاستماع والإيقاع لدى الأطفال، ويشجعهم على المشاركة النشطة.

5. مسرح الدمى:   

يستخدم الدمى كوسيلة رئيسية لتقديم العروض. يعتبر هذا النوع من المسرح جذابًا للأطفال الصغار، حيث يمكن للدمى أن تجسد شخصيات وأحداث بطريقة مشوقة وبسيطة.

6. المسرح التفاعلي:

يتيح للأطفال فرصة المشاركة الفعلية في العرض، سواء من خلال اتخاذ قرارات تؤثر على مجرى القصة أو من خلال الانخراط في الأنشطة التفاعلية على المسرح. يعزز هذا النوع من المسرح الثقة بالنفس والمهارات الاجتماعية لدى الأطفال.

والملاحظ للأنواع السابقة، يجد أنها تكاد تجتمع حاليا في عمل مسرحي واحد للطفل، وهو ما يعني تعدد وظائف مسرح الطفل ووسائله في مراحل مختلفة من مسيرته الكويت. لكن السؤال المهم، هل يحقق هذا الخلط الأهداف المؤسسة والمستقبلية لرؤية مسرح الطفل؟

المتأمل لحال مسرح الطفل في الكويت، لا يجد سوى عروض معدودة وسط هذه الكثرة الغالبة على المسرح وفيما يقدّم على أنه موجه للطفل!

فاليوم بات العرض المسرحي عبارة عن عروض استعراضية مستمرة على مدار العمل بالاستفادة من الانبهار الصوتي والبصري بفضل التطور التكنولوجي، مع استعارة شخصيات خيالية غير منتمية للموروث العربي والمحلي، وتعزيز العروض بممثلين قدموا أعمال تصنّف على أنها للكبار، ومشاهير من السوشيال ميديا، مما قد يضعف الأداء المطلوب والدقيق لمسرح الطفل، وفوق هذا كله، ضعف النصوص وخلوها من رؤى تربوية ذات رسالة توعوية بقيم المجتمع وهويته ويجعل فكرة الاقتداء والانتماء في إشكالية كبيرة!

هذه بعض المقترحات لتطوير رؤية مسرح الطفل في الكويت:

1- تحسين النصوص المسرحية، عبر كتابة نصوص تتناسب مع عقلية الأطفال واهتماماتهم، مع التركيز على القيم التعليمية والترفيهية.

2- التدريب والتأهيل، بتوفير دورات تدريبية للممثلين والمخرجين حول كيفية التعامل مع الأطفال وفهم نفسياتهم.

3- دعم وتفعيل النشاط المدرسي، بتنظيم عروض مسرحية داخل المدارس لتعريف الأطفال بالمسرح وتوسيع دائرة الجمهور.

4- دعم الإنتاج الأهلي، بتوفير بنية تحية ولوجستية للمشاريع المسرحية الخاصة بالأطفال، وفق معايير فنية ومقاييس الجودة.

5- توسيع المشاركة في المهرجانات المحلية والدولية الخاصة بمسرح الطفل، لتبادل الخبرات وعرض الأعمال المسرحية على نطاق أوسع.

6- إشراك الأطفال: تشجيع الأطفال على المشاركة في الأعمال المسرحية، من خلال ورش خاصة للكتابة والتمثيل والإخراج. 

7- إجراء دراسات وأبحاث حول تأثير المسرح على الأطفال وكيفية تحسين العروض بما يتناسب مع تطورهم النفسي والعقلي، مع تقييم مستمر للتجارب المسرحية المقدمة للطفل.

آملين أن تُسهم هذه المقترحات في تطوير مسرح الطفل وجعله وسيلة فعالة للتعليم والترفيه.

أخيرا.. يمثل مسرح الطفل جزءًا مهمًا من الحركة الثقافية والفنية في المجتمع،بفضل الجهود التي يقدمها الفنانون والمؤسسات الثقافية ذو الرسالة المنسجمة مع الفكر التربوي والإبداعي، ليظل مسرح الطفل وسيلة فعالة لتعليم الأطفال وتنمية خيالهم وإبداعهم.  فاستمرار دعم هذا النوع من المسرح من شأنه أن يساهم في تنشئة أجيال واعية ومثقفة، وهو ما يُثقل المهمة عليهم في مواجهة تحديات المستقبل وما يشهده من مادية مفرطة، منتجة للترفيه دون الوعي والتثقيف.

 

فهد توفيق الهندال

ناقد وإعلامي 

نشر المقال في مجلة الكويت عدد شهر يونيو 2024

التصنيفات
مدونتي

صمت Mute

عندما تشاهد لوحة صرخة مونش، فإنك تعيش مشاعر ذلك الكائن الذي يصرخ بملء فمه، ويغلق أذنيه عن صخب العالم في الآن ذاته. تخيّل معي، أنك تغلق فمك الكبير للحظة، وتفسح المجال لأذنيك لتستمعان لصخب العالم لبرهة، كيف يكون شعورك؟
ربما هذا ما حاولت ربطه بين لوحة مونش الصارخة ولوحة الفنان العالمي سليمان البسام “صمت Mute” وهو عمله المسرحي الأخير الذي قدمه مؤخرا ضمن مشروعه المسرحي المستمر منذ اشتغاله بالفن المسرحي.
يأتي عنوان العمل صمت Mute مبنيا على اللحظة الإنسانية الراهنة في تحولات عنيفة نحو جشع المادية والمرتهنة في انكسارات الإنسان العاجز أمامها، وهو القابض على جمر انتظار طويل رازح تحت عقارب الزمن البطيء في المعاناة والمتسارع في سحق ما تبقى من إنسانية في إطار دموي مستمر دون نهاية واضحة. ولعل الصمت حاليا هو المساحة التي “يُصادِرُ” فيها الإنسان قدرته على التعبير، في كسر متواصل لدوال اللفظ دون معناه المتداول.
احتوى العمل على أداء مسرحي متمكن متنوع للفنانة السورية حلا عمران وأداء موسيقي متنوع التأثيرات لكل من الموسيقيين علي حوت وعبد الرضا قبيسي من لبنان، أضافوا للنص المنسوج بعناية عبثية فائقة، متأرجحة بين الكوميديا السوداء والسخرية اللفظية بما تصنعه من مفارقات، والسخرية الظرفية من الحدث الخلفي (انفجار مرفأ بيروت أغسطس 2020) الفصل قبل الأخير من المعاناة المستمرة لطواحين الصمت!
في كتابه “الصمت في عصر الصخب” للرحالة النرويجي إيرلنغ كيج الذي يسرد فيه رحلته نحو القطب الشمالي مشيا على الأقدام وقد استغرقت 50 يوما ودون أجهزة تواصل، حاكى فيه تفكيك التدرج الحسي والنفسي والحاجة التفاعلية بين الصمت والوجود والكون والطبيعة، ليجد أن الصمت حاجة بقاء فعليّة، لما يهبه من حسيّة الفكرة التي تبدأ من الفنان وتنتهي عند المتلقي وتخلّد اللحظة الصامتة في العمل الفني على مدى عصور، وبالتالي تخلق تلك السكونات حالة وعي لاواعية بين الفن كأثر والفن كفكرة. وهذا نوع من الصمت في مواجهة صخب العالم.
وهناك صمت آخر، تمثّل يوما في مارينا أبراموفيتش التي سمحت للعالم أن يجسّد وحشيته فيها، فانكشف القبح الساكن فينا، وهي ملتزمة بالصمت!
فالصمت إذن، ثقيل على أذن نائمة كفعل دقات الزمن المعلّق، ومؤلم بعمق، عندما نفقد القدرة على الكلام جراء صدمة الحياة فينا.
أخيرا.. وبرغم خبرتي المهنية في عملي الإذاعي، كنت وما زلت، أتهيّب من اللحظة التي يصمت فيها الجميع بانتظار صوتي، لأني بت أفكر بكل احتمالات هذا الصمت المرعب من حولي.
وربما قد يكون هذا ما أراده سليمان البسام أن يخلقه في عمله صمت.

فهد توفيق الهندال

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

أمنا الأرض

أيهما يشكل قدر الآخر .. الإنسان أم الأرض ؟

في رائعته المذهلة ( الحرام )، طرح الأديب الراحل يوسف إدريس قضية الأرض من خلال ” الترحيلة ” وقد انتشرت في زمن الاقطاعيات الزراعية في مصر، حيث يُستأجر الفلاحون من قراهم البعيدة للعمل في أراضي غيرهم في قرى أخرى، ولم تكن عزيزة تلك المرأة التي حملت سفاحا بعد الاعتداء عليها، سوى قدرا لمن تلده الأرض الغريبة بعدما نفتها أرضها الأم العاجزة عن احتضانها وتبنيها، برغم أنها ضحية الجرم الذي وقع عليها، وقد تكون متواطئة لصمتها لحظة الضعف، وهي التي هجرها زوجها بسبب مرض عضال أصابه ، فكان لها أن تدفع ثمن الخطيئة بكل الأحوال في نهاية الأمر بعدما خنقت وليدها في أرض غريبة كانت خصبة للحياة والموت، وهنا المفارقة ! 

في تشابك آخر، نجد قصة الفيلم الهندي ” أمنا الهند ” للمخرج محبوب خان الذي أخرجه سنة 1957 ، حيث تدور قصته حول امرأة تتزوج من رجل فلاح ميسور الحال، يملك أرضا خصبة، يتراجع حصاده مع مرور السنوات بعدما بذل كل ماله في خدمة قريته وأهلها، ليصبح بعدها واحدا من محتاجيها. فيقررالعمل مع زوجته في أرضه لوحده، حتى يتعرض حادث قطع ذراعيه  بسبب صخرة كبيرة اعترضت همته وحلمه في استصلاح أرضه واسترجاع وضعه السابق، لتدمر بعدها الفيضانات منزلهما، فيهجر البيت مخلفا زوجة وولدين. فتصبح الأم ربة البيت بكل همومه وأحلامه، وتعيش حياة صعبة يتقاسمها معها ولداها وقد انقسما خلقا ومنطقا في الحياة. ومثلما كانت الأم الأرض الخصبة لهما، كانت المثوى الأخير للابن الضال، الذي وجد في الشر حقا وظنا مبررا في سلب ما يريد وممن يريد.  

في حين، تأتي القصة الثالثة ( الأرض ) للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي وقدمها للسينما يوسف شاهين، و تدور أحداثها في إحدى القرى المصريةعام 1933 عندما يفاجأ أهلها بقرار حكومي بتقليل نوبة الري إلى 5 أيام بدلا من 10 أيام، وهو مالا يتسع للجميع، فيبلغ العمدة الفلاحين أن نوبة الري أصبحت مناصفة مع أراضي الاقطاعي محمود بيك الذي يستغل الموقف وينصحهم بجمع موافقتهم لمخاطبة السلطات  للتراجع عن قرار تقليل حصص الري ، ليخدعهم ويستغل جهلهم في ابصامهم على كتاب لا يعلمون مضمونه، لينشـأ طريق لسرايته من خلال أرضهـم الزراعيـة ، الأمر الذي استلزم ثورة من الفلاحين يقودهم محمد أبو سويلم، وهو الثائر القديم زمن ثورة عرابي ، فترسل الحكومة قوات الهجانة لتبسط قبضتها ، ويتم انتزاع الأراضي منهم بالقوة ، ليسحل أبو سويلم عبر أرضه وهو يحاول التشبث بجذورها لينتهي الفيلم بهذا المشهد الرمزي . وكأن قدر البشر ، هي العقدة الأكثر تعقيدا وغموضا في كشف علاقتهم مع الأرض . 

هكذا اذن، علاقة هذا الإنسان مع الأرض، مغتربا، ثابتا، فهو معذب فيها في كلا الحالتين، فلا الأم الأرض تحنو على وليدها المغترب، بل تحاسبه على ماضيه أينما كان، ولا هي منصفة لمن بقى وصمد ضد الريح العاتية واصفرار الزمن المر. فاليباب ليس بالأرض وحدها، بل بها وبانسانها:

لا ماء هنا…لا شئ سوى الصخر

صخر ولا ماء والطريق الرمليّ

الطريق الذي يتلوى عاليا بين الجبال،

جبال من صخر ولا ماء

لوكان ثمة ماء لتوقفنا وشربنا

بين الصخور لا أحد يسطيع توقفاً أو تفكيرا

جاف هو العرق والأقدام في الرمل

لوكان ثمة ماء بين الصخور

فم جبل هامد ذو أسنان نخرة

لايمكنه البصاق

هنا، المرء لا يسطيع أن يقف

أو يتمدد أو يجلس 

ليس ثمة حتى صمت في الجبال

بل رعد جاف عقيم بلا مطر

ليس ثمة حتى عزلة في الجبال

بل وجوه حمراء منتفخة، ناخرة مزمجرة

من أبواب منازل طينية متصدعة

 لو كان ثمة ماء!

من قصيدة الأرض اليباب لإليوت ترجمة فاضل السلطاني

والعاقبة لمن يعقل ويتدبر

فهد توفيق الهندال

 

التصنيفات
مدونتي

النقد الغائب والانفجار السردي

النقد الغائب والانفجار السردي

 يمثّل الانفجار السردي في الوطن العربي تحولاً جذرياً في المشهد الثقافي والأدبي، ويعكس التغيرات العميقة التي يمر بها المجتمع العربي في العصر الحديث، لاسيما المجتمع الثقافي، والذي يشهد تضخما على مختلف المستويات التي أدت به إلى هذا الانفجار، وفقا لتفاعل عدة عوامل:

1- التطور التكنولوجي والوصول الأوسع للمعرفة

التقدم التكنولوجي، خاصة في مجال الاتصالات والإنترنت، أحدث ثورة في كيفية توزيع واستهلاك المحتوى الثقافي والأدبي. فقد فتحت منصات النشر الإلكتروني والشبكات الاجتماعية أبواباً واسعة للكتاب والقراء على حد سواء، مما سمح بظهور أصوات جديدة وتنوع في الأجناس الأدبية والموضوعات المطروحة. إضافة إلى الكتب الإلكترونية، المدونات، والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت منابر هامة للتعبير عن الذات وتبادل الأفكار.

2- التحولات الثقافية العالمية

أثرّت العولمة وتداخل الثقافات على المستوى العالمي بشكل كبير على الأدب العربي، حيث تم تبني أشكال وأساليب سردية جديدة ومبتكرة. وأصبح الكتاب العرب أكثر انفتاحاً على التجارب الأدبية العالمية، وهذا ساهم في إثراء الأدب العربي وجعله أكثر تنوعاً وغنى. فالترجمات من وإلى اللغة العربية أيضاً لعبت دوراً هاماً في هذا التحول، ما ساعد على تبادل الأفكار والتجارب الأدبية بين الثقافات المختلفة. فجاياتري سبيفاك رأت سابقا ضرورة قيام الأدب بتفكيك الهيمنة وإعادة تشكيل الهويات في مواجهة العولمة. إنه يبرز الأصوات المهمشة، وكأنها تشير إلى إمكانات التمكين من خلال السرد.

3- الأثر على الأدب العربي

أدى الانفجار السردي في الوطن العربي إلى إحياء الأدب العربي وجعله أكثر حيوية وتفاعلية مع القضايا المعاصرة. الأدب العربي اليوم يتميز بتنوعه الشديد في الأشكال السردية، مثل الرواية، القصة القصيرة، الشعر، وغيرها، وفي الموضوعات التي يتناولها، من القضايا الاجتماعية والسياسية إلى البحث في الهوية والتاريخ والعلاقات الإنسانية.

إذن، يشير الانفجار السردي في الوطن العربي إلى عصر جديد من الإبداع والتجديد في الأدب العربي، ما يعكس الديناميكية والتحولات العميقة في المجتمعات العربية. هذا التحول يوفر فرصاً جديدة للتعبير عن الذات وفهم العالم، ويعزز من مكانة الأدب العربي على الساحة العالمية.

دور النقد الأدبي

يعتبر النقد الأدبي حقلاً واسعاً يشمل تحليل وتقييم الأعمال الأدبية. يتنوع هذا الحقل إلى عدة أنواع، كل منها يركز على جوانب مختلفة من النصوص الأدبية ويستخدم مناهج متنوعة في التحليل. إليك بعض من أبرز أنواع النقد الأدبي:

1. النقد البنيوي (Structuralism)

يُركز النقد البنيوي على دراسة البنى الأساسية التي تشكل الأعمال الأدبية، مثل الأنماط اللغوية والشخصيات والمواضيع. ينظر إلى النص الأدبي كنظام مغلق يمكن فهمه من خلال تحليل هيكله الداخلي.

2. النقد النفسي (Psychoanalytic Criticism)

يعتمد النقد النفسي على نظريات علم النفس، وخصوصاً أعمال فرويد، لتحليل الشخصيات والموتيفات والأحداث في الأعمال الأدبية. يُستخدم لاستكشاف كيف تعكس الأعمال الأدبية اللاوعي والرغبات والصراعات النفسية.

3. النقد الماركسي (Marxist Criticism)

يركز النقد الماركسي على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية كما يتجلى في الأدب، مع التركيز على قضايا الطبقة والسلطة والرأسمالية. يُستخدم لتحليل كيف تعكس الأعمال الأدبية أو تتحدى الهياكل الاجتماعية والاقتصادية.

4. النقد النسوي (Feminist Criticism)

يُركز النقد النسوي على العلاقات بين الجنسين وتمثيل المرأة في الأدب. يتناول قضايا مثل الأدوار الجندرية، الهوية، والسلطة، ويهدف إلى كشف الأيديولوجيات الذكورية في الأدب.

5. النقد ما بعد الاستعماري (Postcolonial Criticism)

يتناول النقد ما بعد الاستعماري الأثر الثقافي والأدبي للاستعمار وعمليات ما بعد الاستعمار. يُستخدم لتحليل كيف تعالج الأعمال الأدبية موضوعات مثل الهوية، الانتماء، والمقاومة ضد القوى الاستعمارية.

6. النقد التاريخي (Historical Criticism)

يهتم النقد التاريخي بسياق الأعمال الأدبية في زمانها ومكانها، معتبراً النصوص الأدبية كمنتجات لظروفها التاريخية والثقافية. يتناول الأحداث التاريخية، الأعراف الاجتماعية، والاتجاهات الثقافية التي تؤثر على الكتابة الأدبية.

7. النقد الثقافي (Cultural Criticism)

يتناول النقد الثقافي الأعمال الأدبية كجزء من الثقافة الأوسع، محللاً كيف تعكس وتتفاعل مع مختلف القيم الثقافية، المعتقدات، والممارسات.

غياب النقد الأدبي

قدّم كل نوع من أنواع النقد الأدبي السابقة، منظوراً فريداً لتحليل الأعمال الأدبية، مما يغني فهمنا للأدب ويكشف عن تعددية المعاني والأبعاد في النصوص الأدبية. ومع ذلك نشهد غيابا ملحوظا للنقد الأدبي. فما هي الأسباب؟

يمكن تلخيصها بالآتي:

1. التحولات التكنولوجية:

التقدم التكنولوجي والانتشار الواسع للإنترنت قد سهل الوصول إلى النشر الذاتي والمنصات الإلكترونية، مما أدى إلى زيادة هائلة في الإنتاج الأدبي. هذه الكثافة تجعل من الصعب على النقاد مواكبة كل جديد وتقديم نقد معمق لكل عمل.

2. التفضيلات الثقافية والتجارية:

يوجد توجه نحو الأعمال الأدبية التي تحقق نجاحًا تجاريًا على حساب الأعمال ذات القيمة الأدبية العالية، مما قد يؤدي إلى إغفال النقد للأعمال التي لا تحظى بشعبية واسعة لكنها تحمل قيمة أدبية كبيرة.

3. التحديات الاقتصادية:

قد تؤثر القيود المالية على النشر النقدي، حيث قد لا تجد المجلات الأدبية ودور النشر التمويل الكافي لتغطية الأعمال الأدبية بالعمق المطلوب، مما يحد من فرص النقاد في الوصول إلى الجمهور.

4. النقص في الدُربة على الكتابة النقدية:

قد يكون هناك نقص في الكتابة النقدي المتخصص والتعليم الأدبي الذي يؤهل النقاد لتقديم تحليلات معمقة وموضوعية، مما يؤدي إلى قلة في النقد الأدبي الجاد والمتعمق.

5. المعايير النقدية والذوقية:

الخلافات حول المعايير النقدية والذوقية قد تؤدي إلى تفاوت في قيمة النقد المقدم، حيث يمكن أن تختلف الآراء حول ما يعتبر “جيدًا” أو “ذو قيمة” بشكل كبير بين النقاد، مما يصعب الوصول إلى توافق حول أهمية الأعمال الأدبية.

6. تأثير وسائل التواصل الاجتماعي:

وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت منصة رئيسية لتبادل الآراء حول الأعمال الأدبية، لكنها قد لا توفر دائمًا العمق النقدي المطلوب. هذه السرعة والسطحية في التعليقات قد تعوض عن النقد الأدبي المتعمق.

7. التركيز على النقد الأكاديمي:

قد يميل النقاد إلى التركيز على النقد الأكاديمي الذي يستهدف جمهورًا محدودًا بدلاً من الجمهور العام، مما يحد من تأثير النقد الأدبي على القراء العاديين.

تعد هذه الأسباب مجتمعة عوامل مهمة تسهم في غياب النقد الأدبي أو تقليل حضوره في مواجهة الإنتاج السردي المكثف. الحاجة إلى نقد أدبي معمق ومتاح يبقى أمرًا ضروريًا لتوجيه الذوق العام وتعزيز فهم الأدب.

كيف يمكن تعويض غياب النقد الأدبي عن الإنتاج السردي الهائل؟

قد يتطلب ذلك مجموعة من الاستراتيجيات المتكاملة التي تشجع على إنتاج نقد أدبي متعمق ومتاح. إليك بعض الطرق التي يمكن من خلالها معالجة هذا الغياب:

1. تشجيع النقد الأدبي في الجامعات والمؤسسات التعليمية، وذلك بتطوير برامج أكاديمية تركز على النقد الأدبي وتحليل النصوص لتزويد الطلاب بالمهارات اللازمة.

وإنشاء ورش عمل ودورات تدريبية للنقاد الشباب لتعزيز مهاراتهم التحليلية والنقدية.

2. استخدام التكنولوجيا والمنصات الرقمية من خلال إنشاء منصات ومواقع إلكترونية مخصصة للنقد الأدبي تسمح بالتفاعل بين النقاد والقراء. وتشجيع النقاد على استخدام مدونات وقنوات يوتيوب لنشر تحليلاتهم وآرائهم حول الأعمال الأدبية.

3. دعم النشر والتوزيع، بتشجيع دور النشر والمجلات الأدبية على تخصيص قسم للنقد الأدبي وتقديم مكافآت للنقاد. وتوفير منح ودعم مالي للمشاريع النقدية التي تسعى لتغطية الأعمال الأدبية الجديدة.

4. تعزيز التفاعل بين الكتاب والنقاد، بتنظيم فعاليات وندوات تجمع بين الكتاب والنقاد لتعزيز الحوار حول الأعمال الأدبية. وإنشاء منتديات نقاش تشجع على الحوار المفتوح والبناء بين الكتاب وجمهور القراء والنقاد.

5. تشجيع النقد الجماعي والتعاوني، بتطوير مشاريع نقدية تعاونية تسمح لمجموعة من النقاد بتحليل ومناقشة عمل أدبي معين. واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإنشاء مجموعات نقدية تسهل تبادل الآراء والتحليلات.

6. التركيز على التنوع والشمولية، من خلال تشجيع النقد الذي يعالج أعمالاً من خلفيات ثقافية وجغرافية متنوعة لتعزيز التفاهم الثقافي. وتوفير مساحة للأصوات المهمشة والنقاد من خلفيات متنوعة لإثراء المشهد النقدي.

7. التركيز على التعليم والوعي الثقافي، بتعزيز أهمية النقد الأدبي من خلال التعليم والبرامج الثقافية التي تستهدف الجمهور العام. وتنظيم ورش عمل ومحاضرات حول أهمية النقد الأدبي في فهم الأعمال السردية وتقييمها.

من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات، يمكن تعويض غياب النقد الأدبي وتشجيع ثقافة نقدية صحية تسهم في تعزيز الحوار حول الأعمال السردية وتقديم تحليلات معمقة تثري المشهد الثقافي والأدبي.

8. تعزيز مفهوم القارئ المقاوم. ودور القارئ المقاوم يأتي في إطار النظريات الأدبية التي تركز على تفاعل القارئ مع النص الأدبي، وخاصةً في سياق النقد الثقافي والنقد ما بعد الاستعماري. القارئ المقاوم لا يتلقى النص بشكل سلبي أو يقبل المعاني المقترحة من الكاتب دون تساؤل، بل يتفاعل مع النص بشكل نقدي، مستخدماً تجربته الشخصية والسياق الثقافي والتاريخي الذي ينتمي إليه لتفسير النص وربما تحدي الأفكار والقيم التي يقدمها.

أبعاد دور القارئ المقاوم

1. تحدي القيم السائدة: القارئ المقاوم يقوم بتحليل النصوص بطريقة تتحدى القيم والأيديولوجيات السائدة، بما في ذلك التحيزات الجندرية، العنصرية، الاستعمارية، وغيرها من القضايا الاجتماعية والثقافية.

2. تفكيك الأيديولوجيا: يعمل القارئ المقاوم على تفكيك الأيديولوجيات الكامنة في النص، والتي قد تعمل على ترسيخ الأنظمة السلطوية أو القوالب النمطية.

3. إعادة تفسير النص: يمكن للقارئ المقاوم إعادة تفسير النصوص بطرق تكشف عن معاني جديدة أو مغايرة لتلك التي قد يكون الكاتب قصدها، مما يؤدي إلى تعددية التأويلات والتفاعل النقدي مع الأدب.

4. التمكين الثقافي والاجتماعي: من خلال التفاعل النقدي مع النصوص، يمكن للقارئ المقاوم أن يساهم في التمكين الثقافي والاجتماعي للمجتمعات المهمشة أو الأصوات الغائبة، بإعادة تشكيل السرديات بما يتماشى مع تجاربهم ووجهات نظرهم.

5. التحليل الذاتي: يعزز دور القارئ المقاوم من الوعي الذاتي، حيث يتعين على القارئ مراجعة تجاربه الشخصية ومواقفه الأيديولوجية عند تفسير النصوص، مما يؤدي إلى تعميق الفهم الذاتي والنقد الذاتي.

إذن، يتجاوز دور القارئ المقاوم، مجرد القراءة السطحية للنصوص الأدبية ليشمل مشاركة نشطة ونقدية في عملية التأويل، مما يسمح بتوسيع نطاق النقاش والتفكير حول القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعالجها الأعمال الأدبية.

أخيرا.. ما هو مستقبل النقد الأدبي ؟

يبدو أنه سيواصل التطور مع التغيرات الثقافية، التكنولوجية، والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات حول العالم. يمكن تصور عدة اتجاهات مستقبلية استنادًا إلى التحولات الراهنة: 

1. التقاطع مع التكنولوجيا الرقمية

النقد الأدبي سيتأثر بشكل متزايد بالتكنولوجيا الرقمية، والتي تشمل منصات النشر الإلكتروني والوسائط المتعددة. قد تظهر أشكال جديدة من السرد تجمع بين النص، الصوت، والصورة بطرق مبتكرة، مما يتطلب نهجًا نقديًا يتعامل مع هذه التعددية الوسيطية.

2. التركيز على التنوع والشمولية

التحول نحو تقدير أكبر للأصوات المهمشة والتجارب الثقافية المتنوعة سيستمر في تشكيل النقد الأدبي. هذا يعني التركيز أكثر على أعمال الكتاب من خلفيات عرقية، جندرية، وجغرافية متنوعة، وكذلك تطوير مناهج نقدية تعالج هذه التنوعات.

3. النهج التعددي وما بعد الحداثي

النقد الأدبي قد يواصل الاستفادة من نهج تعددي وما بعد حداثي يجمع بين مختلف النظريات والمناهج لتحليل النصوص. هذا التعدد يتيح فهمًا أعمق وأكثر تعقيدًا للأعمال الأدبية ويعزز من التأويلات المتعددة.

4. التفاعلية والمشاركة الجماهيرية

مع تزايد استخدام الإنترنت والمنصات الرقمية، يمكن أن يصبح النقد الأدبي أكثر تفاعلية ويشجع على مشاركة القراء بشكل أوسع. منتديات النقاش، المدونات، ووسائل التواصل الاجتماعي توفر فرصًا للقراء لعرض تفسيراتهم وتحليلاتهم، مما يخلق حوارًا غنيًا حول الأعمال الأدبية.

5. التأثير العالمي والمقاربات العابرة للثقافات

النقد الأدبي سيزداد تأثرًا بالمقاربات العابرة للثقافات والسياقات العالمية، ما يعني تحليل الأعمال الأدبية في سياق تفاعلها مع ثقافات وتقاليد متنوعة. هذا يشجع على فهم أعمق للتأثيرات المتبادلة بين الثقافات والأدب العالمي.

6. النقد البيئي والأخلاقي

مع تزايد الوعي بالقضايا البيئية والأخلاقية، قد نشهد نموًا في النقد الأدبي الذي يركز على هذه الموضوعات. التحليلات التي تتناول العلاقات بين الإنسان والطبيعة، الأخلاقيات البيئية، والاستدامة قد تصبح أكثر شيوعًا.

ومستقبل النقد الأدبي للسرد يبدو واعدًا بالتطور والتجديد المستمر، مع التأكيد على الشمولية، التعددية الثقافية، والتفاعل بين الأدب والتحولات الاجتماعية والثقافية الواسعة، باستكشاف ما أسمته جوليا كريستينا العلاقات بين النص والسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي. فمع تزايد التداخل بين الثقافات واللغات، يصبح النقد الأدبي حقلاً حيويًا للحوار والفهم المتبادل. 

فهد توفيق الهندال

معرض مسقط الدولي للكتاب 2024

التصنيفات
مدونتي

وحدهن الأمهات يعرفن..

وحدهن الأمهات يعرفن..

في نصها الأخير، تقدّم الشاعرة عائشة العبدالله، مزيجا من المشاعر الإنسانية التي جوهرها حب الأم، فقد التقطت مفردات الحياة اليومية لكل أم عاشقة لأبنائها تعلّمهم وجه الحياة الصادق النابع من الحب بعيدا عن السائد من الأفكار:

لا أظنّ أنّ أمّاً في العالمِ ستردّد مايقوله الرجال

بثقةٍ وسذاجة:

‎”الحب وحده لا يكفي

قد يعتقد من يقرأ النص، أن هناك انتصارا لفكرة نسوية ضد أخرى ذكورية، ولكن يفوت على من يعتقد ذلك أن أصل الحياة حب أنثوي، يتجسد في أدوار الأم ومن يقوم مقامها:

جروحنا أكثر انفتاحاً ووضوحاً

لا نشيرُ إلى اللسعةِ، بل نعلنُ شراسةَ الألم،

نقاط ضعفنا تمشي على قدمين،

ولذا نخافُ الشوك، والشارع، والعابرين.

ولعل الجملة السابقة هي المفتاح لكل النص، فاختصرت الفعل دون القول، والتشييد لفكرة الأمومة

التي لا تحتمل أي قناع أو استعراض:

صرنا نشبهُ أنفسنا تماماً..

لأننا نخافُ من بيتٍ يخبئ الأقنعة

فالأم الفعلية، ليست مستعدة للعب دور البطولة الاستعراضية، ميزانها الحسّاس في ذلك، ومع كل من حولها:

‎(الأمهات وحدهنّ..

يعرفن أنتأنيب الضميرهو التوأمُ

لأطفالهنّ.)

لذا ليست مستعدة لأية مباهاة غير شرف الأمومة مهما كانت متطلباتها، السهر الدائم على أطفالها في حالاتهم المختلفة، معينها في ذلك طرد كل ما قد يصعّب المهمة، بالاستئناس بوحدة مشاعر الأم في ظروفها المتعددة في وصف بليغ:

نشرب القهوة باردةً دون أن يصيبنا إحباط،

ننامُ علىالكنبةرغم تقلّص عضلاتنا،

نحتفظُ بهالاتنا السوداء في علبٍ صغيرة،

ونقاوم بأقلامِ الحمرةِ ليالٍ جففتنا بالوحدة.

ومهما تكن المقاومة فلا أجمل ما يرسمه حب الأمومة حتى في العلاقة مع الآخرين والمجتمع:

وكيف تصير وجوهنا من أثر الحب

خرائط حقيقية.

ونتاج هذه الأمومة، ما ترسمه أحلام الطفولة داخلهم، ويعيد رسمها أطفالهن وما تحقق منها وهم أمهات، بعدما كنّ أطفال أمهاتهن، لتعود الشاعرة لأول نقطة الدائرة في النص كما هي الحياة:

صرنا أمهات..

ثم لم نعد نعرفُ كيف يكون الحبّ

في غير هذا السياق.

هذا الحب غير المشروط، والبعيد عن فجاجة الواقع والطفح الذي أصاب العالم، ليس منعكسا على عالم الأم، فأبناؤها سبب وجودها وبقائها:

وحدهنّ الأمهات..

يعرفن الحبّ الخالص الذي لا تشوبهُ شروط،

الحب الذي يجعلهنّ يصفقن العالمَ

في وجهه

الحبّ الذي يجعلُ أطرافهنّ سلاحاً

وعيونهنّ رماحاً مصوّبة.

أجادت الشاعرة عائشة العبدالله في سكب هذه المشاعر المتدفقة بالحب في نفوس الجميع، وخصوصا من يعرف مثل هذا الحب المنتصر فوق كل شيء.

فهد الهندال

التصنيفات
مدونتي

فلسفة الجوائز الأدبية

اتخذت جائزة كتارا للرواية العربية مؤخرا خطوة مهمة٫ عندما أعلنت عن قائمتها الطويلة. حيث ضمت ٦٠ عملا في فئة الروايات المنشورة، و ٦٠ عملا في فئة الروايات غير المنشورة. وهذه تعتبر أطول لائحة طويلة عرفتها الجوائز الأدبية والعربية، مما يشكل بعدا إعلاميا وتسويقيا لصالح الاعمال المرشحة وبعدا موضوعيا وشفافا حول الأعمال المشاركة والمنافسة فيما بينها، وليس مجرد الإعلان عن مشاركة مئات الأعمال ومن ثم قائمة طويلة محددة بأقل من خمسة عشر عملا!

هنا أصابت كتارا ما غاب عن ذهنية بقية الجوائز الأدبية الأخرى في كسب مصداقية أكبر وحماسا لدى الكتاب في أن تحظى أعمالهم بمزيد من التسويق والاهتمام، وليس تكريسا لأسماء بعينها. والمعروف، أن جائزة كتارا للرواية العربية، تعلن بعد نهاية الدورة أسماء المحكمين تحقيقا للشفافية والموضوعية ، لاسيما أنهم من ذوي التخصصات النقدية في السرد. وهذا يكسب الجائزة سمعة مهنية وتخصصية أكثر من غيرها.

فقد اختلفت فلسفة بعض الجوائز الأدبية، وتختلف عما كانت عليه سابقا ، فيتنافس عليها المتنافسون في كل مجالات الأدب، لتختلف من مكان إلى آخر، ومن مؤسسة لأخرى، وفق آليات تصور سياسة القائمين عليها، والغاية التي تطمح للوصول إليها. فهناك جوائز المؤسسات الثقافية الراقية التي تنشد التنافس بين المبدعين لاثراء الساحة بتعدد المواهب والمنجزات، وأخرى تسعى لاتخاذ موقع مؤثر ما على الساحة الثقافية، تربطها مصالح وروابط مع مثيلاتها في شلليات التنفيع المتبادل والمصالح الضيقة.

وإذا ما استعرضنا جملة الجوائز السنوية، فأين موقعها من التصنيفين السابقين ؟

ليس لدي اعتراض على تأسيس جوائز أدبية تمنح للمتميزين في نتاجاتهم، ولست ضد تنوعها وتعددها وتناسلها إقليميا، ولكنني أتحفظ على آلية بعضها غير الواضحة مما تزيد من تهافت / تكالب الكثيرين عليها ، مما قد يساهم في تراجع دور الأدب في توعية وتنمية المجتمع، واضفاء المزيد من المحيرات حول دور الأديب ومهمته المفترضة، هل هي إبداع من أجل الإبداع . أم ابتداع من أجل المنفعة ؟

ومع ذلك ، إن من أبرز إيجابيات هذه الجوائز وأخبارها ، المتابعة الجدية من قبل القارئ العربي بنوعيه العادي والمتخصص للأعمال المرشحة والمتنافسة. ليبقى الحكمُ الحقيقي لديهما، ولو كان شخصيا بالنسبة للأول، وتخصصيا للثاني . ولكننا في النهاية قراء، يعجبنا ما نقرأ أو لا يعجبنا وفق مزاجنا الخاص. ولا يمكننا فرضه على الآخرين . في حين نشترك معا ، بأن الأثر الجمالي للعمل ودهشته يبقيان محفورين في ذهنية القارئ الباحث عن جمال النص، بعيدا عن المزاجية والشللية في توزيع الجوائز.

أخيرا، ومن باب الطرافة، أسس الشاعر عبدالمعطي حجازي ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي، وفاز بجائزته في الدورة الثانية، وسط جدل كيف يفوز بها وقد عمل مقررا للملتقى! الامر الذي اعتبره الشعراء المشاركون بانه يخالف ابسط قواعد واحكام أي جائزة تنأى بنفسها عن شبهة الانحياز الى أي من العاملين عليها.
في حين اعتبر حجازي مقرر الملتقى فوزه بالجائزة امر يدعو للفخر والأعتزاز بها رغم أنها ليست أول اعتراف به كرائد للشعر لافتا الى ان منحه الجائزة يجيء كاعتراف حميم وبليغ له قدره وأثره ومستذكرا زملائه الشعراء الراحلين مبينا ان الجائزة ليست له فحسب وإنما لهم. أي لا شاعر ولا مبدع غيره بين صفوف الأحياء!

فهد توفيق الهندال