التصنيفات
مدونتي

مراجعة نقدية مقارنة بين جزئي فيلم Gladiator خلود الأول وتحدي الثاني



صدر فيلم “المصارع (Gladiator) في العام 2000 وأخرجه ريدلي سكوت، وأعتبر وقتها من أعظم أفلام السيرة الملحمية. إذ تمحور حول قصة الجنرال الروماني ماكسيموس زمن الامبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس، وقد تحوّل ماكسيموس إلى مصارع يسعى للانتقام من الإمبراطور كومودوس. استند الفيلم إلى حبكة قوية تتميز بالعمق العاطفي والصراع الدرامي بين الشرف والفساد.
وكان أداء راسل كرو بدور ماكسيموس محورياً، إذ قدم شخصية قوية ومؤثرة عاطفياً. فأكسبه جائزة الأوسكار كأفضل ممثل. كذلك، كان أداء واكين فينيكس بدور كومودوس مثالياً في تجسيد الطاغية المضطرب.
وبعد مرور 24 عاما على عرض فيلم “المصارع”، تفاجأ العالم باصدار مخرجه العالمي ريدلي سكوت جزءًا ثانيًا له، مع استمرار سيرة ماكسيموس عبر “ولده” لوسيوس الذي ظهر في الجزء الأول صبيا ابن الملكة لوسيلا، وهنا ثمة سؤال. في الجزء الأول لم يأت على ذكر هذا الأمر ولو كان خفيا، بل هناك حوار بين ماكسيموس ولوسيلا يعزيها بزوجها الراحل ووالد ابنها لوسيوس، فكيف أصبح لوسيوس ولده في الجزء الثاني فجأة!
عموما لعلها رغبة سكوت أن يكون الثاني تكملة لأحداث الأول ، ولكن مع تركيز جديد على شخصية لوسيوس، ابن لوسيلا وماكسيموس الآن، ليُظهر الفيلم استمرار الصراع بين القيم الإنسانية والطموحات السياسية في روما القديمة، مع استمرار قصة الانتقام التي كانت بسيطة لكنها مؤثرة في،الجزء الأول، مما جعلها تلامس الجمهور بسهولة. ليقع سكوت في تحد مع
الحبكة القديمة بتقديم حبكة جديدة دون الإخلال بأصالة القصة الأصلية. أي استنساخ لحبكة الانتقام قد يُضعف من التأثير.
فالحبكة القديمة كانت قوية في تطورها الدرامي المتصاعد تدريجياً وصولاً إلى نهاية مأساوية لكنها مرضية. إذ اعتمدت القصة على الانتقام كدافع أساسي، لكنها تجاوزت ذلك لتناقش قضايا أعمق مثل الشرف، الولاء، والعدالة.
لذلك كان يجب أن تكون الكتابة قادرة في الحبكة الجديدة  على تقديم قصة تضيف قيمة للقصة الأصلية. فاعتمدت الحبكة الجديدة  على استنساخ مفاهيم الانتقام فحسب، مما يجعلها مكررة أو أقل إبداعًا. وكان من المفترض حبكة جديدة تُركّز على التحولات الشخصية والموضوعات الأعمق، مثل استكشاف القيم الإنسانية والسياسية.
فإذا أرادت الكتابة النجاح، كان عليها أن تبني على إرث النصوص السابقة مع تقديم منظور جديد ومبتكر. وربما قد واجه ذلك تحدياً في خلق حوارات تمتاز بالعمق ذاته الذي اشتهر به الفيلم الأول، خاصة مع غياب شخصية ماكسيموس التي كانت محور الخط الدرامي.
ومع غياب راسل كرو، اعتمد الجزء الثاني بشكل كبير على أداء الممثلين الجدد. إذ كانت الشخصية الرئيسية هي لوسيوس، فإن الأداء سيتطلب تقديم توازن بين إرث الماضي وتحديات الحاضر. مع الأداء المذهل لدنزل واشنطن في دور النخاس ماكرينوس الذي كان يسعى للانتقام من روما كلها. ولعل وجود واشنطن في الجزء الجديد كان رهانا ناجحا لسكوت في أن يحمل واشنطن الفيلم ككل على كاهل خبرته.
وهنا ثمة مقابلة بين أداء بطلي الجزئين، فراسل كرو مثّل قوة وجدية الشخصيات التاريخية أو القيادية، مع حضور سينمائي يعتمد على الهيبة والصراع الداخلي.
في حين تميّز أداء دنزل واشنطن بالتنوع والذكاء التمثيلي، مع قدرة استثنائية على المزج بين الحوار والعاطفة.
بالنهاية كلاهما عظيم، لكن اختيار الأفضل يعتمد على الدور. فإذا كان الدور بطابع ملحمي، فإن راسل كرو تفوّق في الجزء الأول. أما إذا تطلب الدور تعقيداً نفسياً وحوارات غنية، فإن دنزل واشنطن هو الخيار الأمثل للجزء الثاني. وكلاهما رهان سكوت في الأفلام التي شاركوا بها مع سكوت، أهمها فيلم
American Gangster.
كذلك يحسب للمخرج ريدلي سكوت شغفه بالقصص الملحمية والتاريخية، فقد أنتج وأخرج فيلم نابليون العام الماضي، وقبله فيلمي روبن هود ومملكة السماء.
وكما أبدع سكوت في الجزء الأول بتقديم معارك مذهلة وتصوير بصري خلّد روما القديمة بطريقة سينمائية لا تُنسى، إذ كانت المشاهد ديناميكية ومشحونة بالعاطفة.
ليستفيد من تطور تقنيات التصوير المتقدمة في الثاني بتقديم معارك أكثر إثارة، إلا أنها تبقى تحدياً له في الارتقاء بمستوى الأصالة التي ميزت الفيلم الأول.
على مستوى الموسيقى، كان هانز زيمر أبرز عوامل نجاح الجزء الأول، إذ حملت موسيقاه مزيجاً من الحماسة والشجن.
ليستمر التعاون مع زيمر في الجزء الثاني مع موسيقيين من الطراز ذاته، حتى يحافظ الفيلم على إرثه الموسيقي المميز.
أخيرا.. يُعد فيلم المصارع بجزأيه عملاً فنيًا متكاملاً يمزج بين الأداء التمثيلي الرائع، الإخراج المبدع، والكتابة الملهمة. والنجاح في أي عمل سينمائي يعتمد على التوازن بين مقومات العمل، على مستوى الأداء، الإخراج، والكتابة، ليكون التحدي باستمرار ذلك إن كانت القصة مستمرة، غير منتهية. وهو ما يُنتظر أن يقدمه أي عمل جديد ليقف إلى جانب العمل الأصلي كعمل واحد خالد.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

البطريق.. بناء العالم من الأسفل!



قدمت سلسلة البطريق  التي تم عرضها لأول مرة على قناة max قبل أسابيع، فصلاً جديدًا ومثيرًا في عالم باتمان المتوسع باستمرار. المسلسل من بطولة كولين فاريل في دور أوزوالد كوبلبوت، المعروف باسم البطريق، إذ يتعمق هذا الجزء الفرعي في عالم جوثام سيتي السفلي القاسي، ويستكشف موضوعات القوة والطموح والجريمة.

تعدّ شخصية البطريق أحد أكثر الأشرار شهرة في عالم باتمان، وغالبًا ما يتم تصويره على أنه زعيم جريمة لديه ميل إلى المخططات المعقدة. على عكس الأشرار الآخرين في تراث باتمان، فإن كوبلبوت مبني على الواقع، ويعتمد على دهائه وطموحه وذكائه بدلاً من القوى العظمى. تلقى تصوير كولين فاريل للبطريق في فيلم باتمان (2022) استحسان النقاد، حيث أظهر نسخة أكثر دقة وطبقية للشخصية.  تهدف هذه السلسلة إلى البناء على هذا الأساس، مما يمنح المعجبين فهمًا أعمق لصعود كوبلبوت إلى السلطة.

يحمل اسم أوزوالد كوبلبوت، الأنا البديلة للبطريق في عالم باتمان، دلالات مميزة تتوافق مع شخصيته.

فيشير اسم أوزوالد والذي معناه “قوة الإله” أو ” الحاكم الإلهي” إلى شخص يتمتع بالسلطة أو القوة، مما يعكس طموح كوبلبوت في السيطرة على العالم السفلي في جوثام.

أما كوبلبوت، فهو اسم مركب من كوبل، أي الحجارة الصغيرة أو أحجار الرصف، والتي غالبًا ما ترتبط بالشوارع أو السطح الخشن غير المستوي. وبوت بمعنى الوعاء، ويمكن أن يشير إلى حاوية، ترمز إلى التراكم أو الجمع. ليستحضر  اسم “كوبلبوت” صورة شخص متجذر في عالم قاسٍ وصعب – مثل شوارع جوثام المظلمة – والذي يجمع القوة والنفوذ بمرور الوقت.
إذن  فالجمع بين أوزوالد و كوبلبوت يشير إلى شخصية تطمح إلى السلطة والسيطرة، ولكنها تعمل في بيئة قاسية وواقعية. وهذا يتماشى مع شخصية البطريق باعتباره زعيم جريمة ماكر وذكي ينهض من بدايات متواضعة أو صعبة ليصبح قوة في التسلسل الهرمي الإجرامي في جوثام.

دارت  أحداث المسلسل حول أوزوالد كوبلبوت وهو يتنقل بين فراغ السلطة الذي خلفه سقوط كارمين فالكون، زعيم الجريمة السابق في جوثام. ومع فوضى المدينة، ليرى كوبلبوت فرصة لتأكيد نفسه باعتباره الزعيم الجديد لعالم جوثام السفلي. يعد العرض باستكشاف تحوله من ملازم ماكر إلى زعيم لا يرحم، وتفصيل صراعاته وتحالفاته وخياناته على طول الطريق.

لعبت مدينة جوثام، كما هي الحال دائمًا، دورًا حاسمًا. تشتهر المدينة بجمالياتها المظلمة والجوية، وستكون بمثابة خلفية وشخصية في حد ذاتها، مما يؤكد على الطبيعة القاسية والفاسدة للعالم الذي يسكنه كوبلبوت.

توّلت الكاتبة لورين ليفرانك إدارة المسلسل، مع مات ريفز، مخرج فيلم The Batman، كمنتج تنفيذي، ليضمن هذا التعاون نغمة وأسلوبًا متسقين، يتماشى مع النهج الواقعي المستوحى من أفلام الجريمة الذي تم تأسيسه في الفيلم. يهدف الفريق الإبداعي إلى مزج الدراما الإجرامية مع سرد القصص التي تحركها الشخصية، مما يوفر منظورًا فريدًا للجانب الإجرامي في جوثام.

وقد أعرب كولين فاريل عن حماسه لإعادة تمثيل الدور، مشيرًا إلى أن المسلسل سمح له باستكشاف تعقيدات أوزوالد كوبلبوت بشكل أكبر. لتتعمق رحلة البطريق في نفسيته، وتكشف عن نقاط ضعفه ودوافعه، مما يجعله أكثر من مجرد شرير ولكنه بطل مضاد مقنع.

ويمكن لمن لم يشاهد الفيلم، أن يتوقع مزيجًا من الحركة المكثفة والمكائد السياسية والدراما التي تحركها شخصية البطريق في المسلسل. وقد ضمّ العرض وجوهًا جديدة ومألوفة من الدوائر الإجرامية ورجال إنفاذ القانون في جوثام، مما قد يمهد الطريق لقصص مستقبلية في عالم باتمان.  وقد يشهد صعود البطريق إلى السلطة تنافسات شديدة وغموضًا أخلاقيًا، مما يوفر نظرة خام وغير مفلترة لتكلفة الطموح.

كما يعد المسلسل بتوسيع بناء العالم الذي تم إنشاؤه في The Batman، مما يوفر تجربة أكثر ثراءً وغامرة للمشاهدين. مع التركيز على واحدة من أكثر شخصيات Gotham إثارة للاهتمام، فإن سلسلة Penguin على استعداد لأن تكون من الأشياء التي يجب مشاهدتها لمحبي القصص المظلمة والمتطورة. وسلسلة Penguin هي أكثر من مجرد منتج فرعي؛ إنها فرصة للخوض بشكل أعمق في تعقيدات النظام البيئي الإجرامي في Gotham ونفسية واحدة من أكثر شخصياتها غموضًا. مع وجود فريق عمل موهوب وفريق إبداعي، يعد العرض بتقديم سرد مشوق يكمل ويوسع عالم Batman. مع طمس الخط الفاصل بين البطل والشرير، سيتم جذب الجمهور إلى عالم حيث لا يعرف الطموح حدودًا، وتأتي البقاء على قيد الحياة بتكلفة عالية.

بقي أن نشير إلى الأداء المذهل للممثلة كريستن ميليوتي التي أبدعت في تجسيد شخصية صوفيا (الجلاد) في سلوكيات الإجرام من رحم البراءة، وأداء الممثل الواعد رينزي فيليز في دور فيكتور التابع المخلص لأوز، فكان مثلا للولاء مقابل النكران. وأيضا أداء الممثلة ديدري أوكونيل في دور فرانسيس والدة أوز، وتجسيد حب الأم والكراهية معا لابنها، لكونه المتبقي لها بعد غرق ولديها الآخربن بسبب غيرة أوز منها، وكانت شرارة الشر الأولى، ولكن دوما يغلب حس الأمومة على الكراهية، ولعل الكاتبة فسرت ذلك نفسيا بحالة الزهايمر التي تمر بها فرانسيس.

قدمت سلسلة Penguin نظرة عميقة على صعود أوزوالد كوبلبوت داخل عالم الجريمة في جوثام، وتتضمن العديد من الاقتباسات التي لا تُنسى والتي تسلط الضوء على شخصيته وموضوعات العرض. فيما يلي بعض السطور البارزة:

أوزوالد كوبلبوت (The Penguin): “العالم ليس مهيئًا لنجاح الرجل الصادق. يجب أن يكون هذا هو الحلم الأمريكي. هل تعلم؟ قصة جميلة بنهاية سعيدة. لكن هذه ليست الطريقة التي يعمل بها العالم. أمريكا هي الاحتيال. ليس لأنني أشتكي.”

أوزوالد كوبلبوت: “العالم لم يُبنى من أجل أشخاص مثلنا. لهذا السبب يتعين علينا أن نأخذ أي شيء نقرر أنه ملكنا. لأن لا أحد سيمنحنا إياه، أعني، ليس بدون قتال.”

صوفيا فالكون: “لقد كذب عليّ الرجال لمدة عشر سنوات. ثم عدت إلى المنزل، ولم أجد أي شيء. لقد اعتقدوا أنني مكسورة. أنا لست مكسورة. أنا لست المريضة. وأنت لست كذلك. العالم هو المريض.”

أوزوالد كوبلبوت: “هل تريد البقاء على قيد الحياة؟ عليك التكيف. عليك الاستجابة للبيئة والموقف، عليك التفكير بسرعة، عليك أن تكون سريعًا.”

تلخص هذه الاقتباسات استكشاف المسلسل للطموح والبقاء وتعقيدات المشهد الإجرامي في جوثام.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

حروب المثقفين


تُعد حروب المثقفين ظاهرة قديمة متجددة تبرز مع كل حقبة تاريخية، حيث تتجلى في صراع الأفكار والرؤى بين نخبة من المفكرين والمثقفين. ولم تكن هذه الحروب نزاعات شخصية أو صدامات كلامية، بل هي تجليات لصراع أعمق بين الأيديولوجيات والاتجاهات الفكرية المتباينة، والتي تسعى كل منها لفرض رؤيتها على المجتمع أو تفسير العالم من منظورها الخاص.
وترجع جذور هذه الحروب إلى العصور القديمة، حيث شهدت الحضارات الكبرى مثل اليونانية والرومانية صدامات فكرية بين الفلاسفة حول قضايا العدالة، الأخلاق، وطبيعة الكون. ومع تطور المجتمعات وزيادة تعقيداتها، تعمق هذا الصراع ليشمل مجالات متعددة مثل السياسة، الدين، الاقتصاد، والثقافة.
وفي العصر الحديث، اشتدت هذه الحروب بسبب تطور وسائل الإعلام والتواصل، التي جعلت من الأفكار معارك علنية تتجاوز حدود النخب المثقفة لتصل إلى العامة. أصبح المثقفون قادة للرأي العام، وساحات الصراع لم تعد مقتصرة على المناظرات الفكرية، بل امتدت إلى الصحافة، الكتب، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي.

أسباب حروب المثقفين

1. اختلاف الأيديولوجيات: يتبنى المثقفون توجهات فكرية وأيديولوجيات مختلفة، من الليبرالية إلى الماركسية، ومن المحافظة إلى التقدمية. هذه التوجهات تتصارع فيما بينها حول قضايا الحرية، العدالة، ودور الدولة.

2. التنافس على النفوذ: يسعى المثقفون إلى التأثير على الرأي العام وصناع القرار، مما يجعلهم في حالة تنافس دائم لتحقيق أكبر قدر من النفوذ الثقافي والسياسي.

3. التغيرات الاجتماعية والسياسية: غالبًا ما تشتعل حروب المثقفين في أوقات التحولات الكبرى، مثل الثورات، الأزمات الاقتصادية، أو التحولات السياسية، حيث يسعى كل طرف إلى تفسير هذه التغيرات من زاويته الخاصة.

4. الاعتبارات الشخصية: لا يمكن إنكار أن الخلافات الشخصية تلعب دورًا في تأجيج هذه الحروب، حيث تتحول أحيانًا إلى صراعات ذات طابع شخصي تتجاوز القضايا الفكرية.

من أبرز الأمثلة على حروب المثقفين الأوروبيين، الصراع بين جان بول سارتر وألبير كامو، وهما اثنان من أعظم المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين. رغم صداقتهما القوية في البداية، إلا أن خلافهما الفكري والأيديولوجي أدى إلى قطيعة حادة بينهما.
كان كل من سارتر وكامو جزءًا من المشهد الفكري في باريس بعد الحرب العالمية الثانية، حيث واجهت أوروبا تحديات فلسفية وأخلاقية كبرى. انخرط كلاهما في الفكر الوجودي، لكنه تطور لاحقًا ليأخذ مسارات متباينة.
فجان بول سارتر، كان مؤمنًا بالالتزام السياسي والمشاركة الفعالة في النضال من أجل العدالة، وتبنى الماركسية كإطار لتحليل المجتمعات والتغيير السياسي.
أما ألبير كامو، فقد ركز على الفلسفة العبثية، وكان يدعو إلى مقاومة الظلم بدون الانخراط في أيديولوجيات متطرفة. رفض العنف الثوري والتبرير الأخلاقي للجرائم باسم الأيديولوجيا.
وفي عام 1952، نشر كامو كتابه “الإنسان المتمرد”، حيث انتقد بشدة الأيديولوجيات الشمولية، بما في ذلك الماركسية، التي اعتبرها تبرر العنف لتحقيق أهدافها. ردًا على ذلك، كتب سارتر عبر مجلته “الأزمنة الحديثة” (Les Temps Modernes) نقدًا لاذعًا لكامو، واتهمه بأنه ينتهج موقفًا فردانيًا وغير ملتزم سياسيًا في وجه القضايا الكبرى.
ومثل هذا الصراع انقسامًا أوسع داخل الأوساط الفكرية الفرنسية بين من يدعمون الماركسية كأداة للتغيير وبين من يرفضونها بسبب ارتباطها بالعنف والشمولية.
كما أدى الخلاف إلى قطيعة نهائية بين سارتر وكامو، ولم يتمكنا من استعادة صداقتهما حتى وفاة كامو المفاجئة في حادث سيارة عام 1960.
أصبح هذا الخلاف أحد أشهر حروب المثقفين في التاريخ الأوروبي الحديث، حيث ساهم في إثراء النقاشات حول قضايا الحرية، العدالة، والعنف الثوري. كما ألقى الضوء على التحديات الأخلاقية المرتبطة بالالتزام الأيديولوجي ودور المثقف في السياسة.
ومن أبرز الأمثلة على حروب المثقفين الحداثيين العرب هو الخلاف الفكري بين أدونيس ونصر حامد أبو زيد حول قضايا التراث، الدين، والحداثة.
ففي الربع الأخير من القرن العشرين، ظهرت حركة حداثية في العالم العربي تسعى إلى تجديد الفكر العربي والإسلامي من خلال إعادة قراءة التراث بعقلية نقدية. كان أدونيس ونصر حامد أبو زيد من أبرز رموز هذه الحركة، لكنهما اختلفا في منهجية التعامل مع التراث والدين. إذ ركز أدونيس على نقد التراث من زاوية ثقافية وشعرية، واعتبر أن الحداثة لا يمكن أن تتحقق إلا بقطيعة جذرية مع التراث الديني الذي اعتبره هو سببًا في الجمود. فدعا إلى ثورة شاملة في العقل العربي تقوم على الإبداع والتحرر من القيود الدينية. في حين ركّز نصر حامد أبو زيد على نقد النصوص الدينية من منظور علمي وتأويلي، وسعى إلى إعادة تفسير النصوص الإسلامية بما يتماشى مع متطلبات العصر، دون الدعوة إلى قطيعة مع الدين، بل إلى تجديد فهمه.
وأدّى هذا الخلاف إلى انقسام داخل التيار الحداثي العربي بين من يتبنون موقفًا جذريًا (على غرار أدونيس) ومن يسعون إلى التجديد من الداخل (على غرار أبو زيد). إلا أن هذا الخلاف، ساهم هذا الصراع في تسليط الضوء على التحديات التي تواجه الحداثة في العالم العربي، خاصة فيما يتعلق بكيفية التعامل مع التراث الديني والثقافي. كما عمق النقاش حول مفهوم الحرية الفكرية ودور المثقف في مواجهة السلطة الدينية والسياسية.


أخيرا وليس آخرا، يعدّ الصراع بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي من أبرز حروب المثقفين العرب في العصر الحديث، حيث دار بين اثنين من أعلام الفكر العربي، وتركز على قضايا التراث، النهضة، والعقل العربي.
فقد سعى الجابري في مشروعه الضخم “نقد العقل العربي” إلى تقديم قراءة جديدة للتراث العربي والإسلامي. وركز على تحليل بنية العقل العربي وتحديد ما يراه “عوائق” تحول دون تحقيق النهضة. فقسّم الجابري التراث إلى ثلاث نظم معرفية: البيان (اللغة والنحو)، البرهان (الفلسفة والمنطق)، والعرفان (التصوف). اعتبر أن النهضة تحتاج إلى تجاوز الفكر العرفاني والبياني لصالح العقل البرهاني.
أما جورج طرابيشي الذي بدأ كأحد المترجمين للفكر الغربي، انشغل لاحقا بنقد مشروع الجابري، حيث رأى أن مشروعه يتضمن تجزئة للتراث وقراءة انتقائية. اعتبر طرابيشي أن الجابري أساء فهم التراث العربي الإسلامي، وقدم قراءة أيديولوجية تهدف إلى إقصاء جزء كبير من هذا التراث.
ورغم الصراع الكبير بين المفكرين، إلا أن تداعياته كانت ايجابية في مجملها، منها:

1. إثراء الفكر العربي: رغم حدة النقد المتبادل، ساهم الصراع بين الجابري وطرابيشي في فتح نقاشات معمقة حول قضايا التراث والعقل والنهضة.

2. توسيع دائرة الاهتمام بالتراث: جذب هذا الصراع اهتمام الأجيال الجديدة من المثقفين والباحثين نحو دراسة التراث وإعادة النظر فيه بطرق نقدية متعددة.

3. النقد الأيديولوجي: أظهر الخلاف مدى تأثر قراءات المثقفين العرب بالأيديولوجيا، حيث انطلق الجابري من خلفية قريبة من الفكر القومي العربي، بينما تأثر طرابيشي بالفكر الماركسي والليبرالي.

وقد أثمرت جميعها في مشاريع فكرية متسلسلة، تزخر بها المكتبة العربية.

إذن، ورغم الطابع السلبي الذي قد يبدو على حروب المثقفين، إلا أنها تساهم في تطور الفكر والمجتمع. فهي تدفع نحو إعادة النظر في الأفكار السائدة، وتساهم في بلورة رؤى جديدة. على الجانب الآخر، قد تؤدي هذه الحروب إلى انقسامات حادة داخل المجتمعات، خاصة إذا تجاوزت حدود الفكر إلى الخلاف الشخصي والتهكمي في التحريض أو التشهير في المجتمعات التي لم تتحرر من عقدة تشخيص الخلاف ومحاسبة النوايا. ولكن في المجتمعات المتحضرة المبنية على الحوار وعدم نسف إرث الآخر المعرفي، يمكن أن تكون جزء لا يتجزأ من تطور الفكر الإنساني، وتعكس حيوية المجتمعات وثراءها الفكري. ويبقى التحدي الأكبر هو كيفية إدارة هذه الحروب بطريقة تعزز الحوار البناء وتسهم في تقدم المجتمعات بدلًا من تأجيج الانقسامات.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الإعلام في عين الانتخابات الأمريكية

يلعب الإعلام العالمي دورًا رئيسيًا في تغطية سباق الانتخابات الأمريكية، إذ يمثل هذا الحدث أحد أهم الفعاليات السياسية التي يتابعها الجمهور الدولي. تُعتبر الانتخابات الأمريكية، نظرًا لتأثيرها العالمي، من أبرز المواضيع التي تستقطب اهتمام الإعلام حول العالم، حيث تتنوع التغطيات والأساليب التحليلية المستخدمة من قبل وسائل الإعلام العالمية في عرض وتفسير مجريات السباق الانتخابي وتبعاته.

1. التغطية المباشرة للفعاليات والأحداث الرئيسية:

تقوم وسائل الإعلام العالمية بتغطية الأحداث الكبرى في سباق الانتخابات الأمريكية، مثل المناظرات الرئاسية والخطابات والفعاليات الانتخابية، وتقدمها مباشرة للجمهور عبر مختلف المنصات، سواء التلفاز، أو المواقع الإلكترونية، أو وسائل التواصل الاجتماعي. تغطي هذه الوسائل أيضًا الأحداث المرتبطة بالانتخابات في مختلف الولايات، والتصريحات والتجمعات التي يعقدها المرشحون، مما يتيح للجمهور الدولي الاطلاع على المستجدات أولًا بأول.

2. التحليل السياسي واستضافة الخبراء:

تلجأ وسائل الإعلام إلى التحليل السياسي المعمق لفهم ديناميكيات السباق الانتخابي وتأثيراته المحتملة. تستعين الصحف والقنوات الإخبارية بخبراء ومحللين سياسيين ومختصين في الشؤون الأمريكية، ممن يقدمون رؤى متعمقة حول السياسات المطروحة من المرشحين. يُسهم هذا النوع من التحليل في تفسير تداعيات نتائج الانتخابات على القضايا العالمية، مثل الاقتصاد والتجارة والسياسة الخارجية.

3. الاستطلاعات والرصد الإحصائي:

تلعب الاستطلاعات الانتخابية دورًا كبيرًا في تغطية الانتخابات الأمريكية، حيث تقدم وسائل الإعلام نتائج استطلاعات الرأي حول تفضيلات الناخبين، وترصد التغيرات المستمرة في نسب الدعم للمرشحين. تُستخدم الرسوم البيانية والتقارير الإحصائية بشكل مكثف، وذلك لتوضيح التوقعات ومؤشرات الأداء الانتخابي. هذا النوع من التحليل يُعد وسيلة فعّالة لفهم التوجهات العامة وتحليل احتمالات الفوز في الولايات المتأرجحة.

4. التغطية الميدانية والتقارير الخاصة:

يولي الإعلام العالمي  اهتمامًا كبيرًا بالتغطية الميدانية للانتخابات الأمريكية. تُرسل العديد من وسائل الإعلام مراسلين إلى الولايات المتحدة لتغطية مجريات الانتخابات من الداخل، مما يوفر تقارير حية من الميدان تعكس الأجواء الانتخابية، ومواقف الناخبين، والتحديات التي تواجه الحملات الانتخابية في الولايات المختلفة. يتميز هذا النوع من التغطية بمصداقيته ويتيح للجمهور متابعة الوضع عن كثب.

5. التغطية عبر وسائل التواصل الاجتماعي:

تُعد وسائل التواصل الاجتماعي أداة أساسية في التغطية الإعلامية للانتخابات الأمريكية، حيث تستخدمها وسائل الإعلام العالمية لنقل المستجدات السريعة وتقديم محتوى تفاعلي. توفر المنصات مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام، محتوى بصري ومقاطع فيديو حول أحداث الانتخابات، كما تسمح هذه المنصات للجمهور بالتفاعل مع التغطية من خلال التعليقات ومشاركة المنشورات، مما يخلق نوعًا من المشاركة الدولية في النقاش الانتخابي.

6. التركيز على القضايا ذات البعد العالمي

تركز وسائل الإعلام العالمية على القضايا التي تمتلك أبعادًا دولية ضمن السباق الانتخابي الأمريكي، مثل السياسة الخارجية، والموقف من القضايا البيئية، والتعاون الدولي. يتم تحليل السياسات التي يتبناها المرشحون في هذه المجالات من منطلق تأثيرها المحتمل على العلاقات الدولية، ما يعطي الجمهور الدولي تصورًا حول كيف ستؤثر نتائج الانتخابات على بلدانهم أو قضاياهم القومية.

7. مواجهة المعلومات المضللة وتصحيحها

في ظل انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، تقوم وسائل الإعلام العالمية بدورٍ هام في التحقق من صحة المعلومات وتصحيح الشائعات حول الانتخابات. تعتمد وسائل الإعلام على فرق متخصصة في تدقيق المعلومات للتحقق من صحة الأخبار التي تنتشر عبر الإنترنت، وتصحيح المغالطات التي قد تؤثر على فهم الجمهور لطبيعة السباق الانتخابي.

8. الاستفادة من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي

تعتمد العديد من وسائل الإعلام العالمية على التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الانتخابات وتقديم تنبؤات بناءً على المعلومات المتوفرة. تساعد هذه التقنيات في متابعة كمّ هائل من البيانات، واستخراج رؤى تساعد المحللين على تقديم تفسيرات دقيقة للمشهد الانتخابي، بالإضافة إلى تسهيل عملية عرض المعلومات بطريقة ميسّرة ومباشرة للجمهور.

و تُعدّ قنوات  “فوكس نيوز” و”سكاي نيوز” و”سي إن إن” من أبرز وسائل الإعلام العالمية التي تتابع السباق الانتخابي الأمريكي عن كثب، حيث تقدّم تغطية شاملة تستفيد من إمكانياتها الكبيرة في الوصول إلى المعلومات، وتحليل البيانات، والتفاعل مع الجمهور. رغم أن كل قناة تتبع أسلوبًا خاصًا وتوجهات سياسية مختلفة، فإنها تتفق في توفير تغطية احترافية ومتنوعة من حيث المحتوى والأساليب التحليلية.

1. فوكس نيوز (Fox News): التوجه المحافظ والتركيز على قضايا الهوية والقيم.
وتُعرف فوكس نيوز  بتوجهها المحافظ، وهي تمثل وجهة نظر قطاع كبير من الناخبين المحافظين في الولايات المتحدة، كما أنها تركز على السياسات التي تمثل قيم الحزب الجمهوري. في تغطيتها للانتخابات الأمريكية، تعتمد فوكس نيوز على برامج تحليلية تستضيف محللين ومعلقين سياسيين يعبرون عن وجهات نظر محافظة. تقدم القناة تقارير ميدانية تُركز على ما يصفه الجمهوريون بالقضايا المهمة، مثل الهجرة والضرائب وحقوق السلاح، وتستعرض تأثيرات هذه القضايا على الولايات المتأرجحة التي تكون حاسمة في تحديد نتيجة الانتخابات.

2. سكاي نيوز (Sky News): التغطية الدولية والمحايدة نسبيًا. وسكاي نيوز، بوجودها كشبكة إعلامية بريطانية ودولية، تُركز على تقديم تغطية محايدة نسبيًا تتيح للجمهور الأوروبي والدولي فهم السياسة الأمريكية دون الانحياز لأي طرف. تُسلط سكاي نيوز الضوء على المواضيع التي تهم الجمهور العالمي، مثل السياسة الخارجية الأمريكية، والعلاقات عبر الأطلسي، وتغير المناخ. تستخدم القناة في تغطيتها للاستطلاعات، والرسوم البيانية، والخرائط التفاعلية التي توضح نتائج الولايات الأمريكية المتأرجحة وتأثيرها على المشهد الانتخابي، مما يتيح للجمهور الدولي تصورًا متكاملًا لآثار الانتخابات الأمريكية على القضايا الدولية.

3. سي إن إن (CNN): التحليل العميق والتغطية الشاملة مع توجيه نقدي. وتعدّ  سي إن إن واحدة من أكثر القنوات تأثيرًا في الإعلام العالمي وتشتهر بتوجهاتها الليبرالية والنقدية، خاصة فيما يتعلق بالحزب الجمهوري وبعض القضايا المحافظة. تُركز القناة على التحليل العميق للأحداث السياسية وتعمل على توجيه تغطية نقدية، خاصة في ما يتعلق بالمرشحين المحافظين. تقدم سي إن إن تغطية إخبارية متكاملة تشمل بث مباشر للمناسبات الانتخابية، وتحليلات مفصلة، واستطلاعات الرأي المتجددة. كما تُقدم تقارير ميدانية من ولايات متعددة توضح ما إذا كانت السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي يعتمدها المرشحون ستؤثر على الناخبين.
وتعتمد سي إن إن كذلك على فرقها الميدانية في الولايات المتحدة وخارجها، لتقديم تغطية مفصلة حول القضايا الدولية التي قد تتأثر بنتائج الانتخابات، مثل السياسة الخارجية، الأمن القومي، والتغير المناخي. تُستخدم الخرائط التفاعلية، والتحليلات الإحصائية، والتوقعات الانتخابية، مما يُتيح للجمهور فهماً معمقًا لتغيرات الرأي العام بين الناخبين الأمريكيين.

4. المقارنة بين أساليب التغطية والتحليل. فيما تعتمد فوكس نيوز على تقديم محتوى يبرز القضايا التي تهم الناخبين المحافظين، مثل الاقتصاد والأمن الداخلي والهجرة، تركز سكاي نيوز على تقديم تغطية شاملة تُظهر تأثيرات الانتخابات الأمريكية على العالم، لا سيما أوروبا، وعلى القضايا ذات الأبعاد الدولية. أما سي إن إن، فتوفر تحليلات نقدية عميقة ترتكز على القضايا الداخلية والخارجية على حد سواء، مع التركيز على السياسات الليبرالية ومواقف المرشحين الديمقراطيين.

5. دور وسائل التواصل الاجتماعي في تغطية الانتخابات، إذ تعتمد هذه القنوات أيضًا بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى جمهور أوسع. تُستخدم حساباتها على تويتر وفيسبوك وإنستغرام لنشر تحديثات سريعة عن آخر التطورات في السباق الانتخابي، ونشر مقتطفات من الحوارات والبرامج التحليلية، مما يسمح للجمهور بالتفاعل والمشاركة في النقاش.
رغم أن لكل وسيلة إعلامية توجهاتها وأسلوبها الخاص في تغطية الانتخابات الأمريكية، فإن التغطيات المختلفة من فوكس نيوز، وسكاي نيوز، وسي إن إن تُشكل تنوعًا ثريًا في زوايا التناول، ما يُتيح للجمهور في الولايات المتحدة وحول العالم رؤية شاملة للسباق الانتخابي الأمريكي وتداعياته المحتملة على السياسة العالمية.

تظل الانتخابات الأمريكية حدثًا عالميًا يحظى باهتمام كبير من وسائل الإعلام العالمية، التي تتنوع تغطيتها بين التحليل العميق، والنقل الميداني، والتفاعلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يسهم هذا التنوع في تقديم صورة شاملة ومتكاملة لسباق الانتخابات للجمهور الدولي، مما يُعزز من فهم هذا الإعلام  لأبعاد هذا الحدث وتأثيراته المحتملة على السياسة والاقتصاد العالميين. لهذا أمر طبيعي، أن تكون هذه القنوات قبلة الخبر العالمي والتحليل السياسي، على مستوى الحدث المحلي والعالمي.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الصورة الايقاعية في ديوان (مشاؤون بأنفاس الغزلان)

في ديوان “مشاؤون بأنفاس الغزلان” لمحمد الحرز، يتميز إيقاع القصيدة باستخدام مجموعة من الأساليب الفنية التي تعطي النصوص طابعًا موسيقيًا داخليًا دون الاعتماد على الأوزان التقليدية. إليكم بعض الأمثلة من الديوان توضح هذه العناصر:

  1. الإيقاع الداخلي:

نجد استخدامًا مكثفًا للإيقاع الداخلي الناتج عن تكرار العبارات، مثل قوله:

“يمضون وكأن شيئًا لم يكن. يكتبون وكأن شيئًا لم يكن. ثم يغادرون الحياة وكأن شيئًا لم يكن”.

تكرار كلمة “لم يكن” يمنح الجملة نغمة إيقاعية تُعزِّز الشعور باللاجدوى والعبثية، وهذا التكرار يشكِّل موسيقى داخلية تساعد على تأكيد المعنى.

  1. التنقل بين الجمل القصيرة والطويلة:

في نص آخر يقول:

“كلما طرق عليك الباب لاح سنارته وسحب كلمة أو كلمتين من قصيدتك ثم ودعك إلى لقاء قريب”.

هنا نجد جملًا قصيرة تتبعها جمل أطول، مما يخلق إيقاعًا متذبذبًا يشبه التنفس المتسارع والبطيء، مما يعطي القارئ إحساسًا بالاستمرار والتوقف، كأن النص يترك مساحات للتأمل.

  1. التكرار الدلالي:

يستخدم الشاعر التكرار الدلالي لتعميق المعنى، مثل في النص التالي:

“الكتابة تدمير للعالم… لا أريد سوى تهشيم جمجمته بفأس الكلمات”.

التكرار هنا لكلمة “تدمير” و”تهشيم” يساهم في إيقاع عنيف يعكس شعور الكاتب برغبة قوية في التمرد والهدم، مما يعزز من قوة النص واندفاعه.

  1. اللغة التصويرية الحسية:

يلجأ الحرز إلى الصور الحسية التي تشدّ القارئ وتشركه في التجربة، كما يظهر في قوله:

“يمضي الوقت مثل مرض معدّ… والمياه انسحبت من الأنابيب كي تتيح لأيامك المتوارية أن تتنفس”.

تخلق هذه الصور إحساسًا بأن الكلمات تتحرك وتتنفس، مما يعزز إيقاع القصيدة عبر المشاهد المتحركة في ذهن القارئ، ويمنح النص نوعًا من الحياة والحركة.

  1. التأمل والفراغات:

يترك الشاعر فجوات للتأمل، كما يظهر في أسلوبه عند الحديث عن معنى الحياة والوقت:

“كلمة إثر كلمة تنزل السماء عاريةً بين يديّ، والمصاب بخنجر الزمن وجههُ مغطى بدم اللغة”.

هنا، المساحات بين العبارات تعطي فرصة للتوقف والتفكير، مما يجعل القارئ يتأمل الصور ويستشعر ثقل الزمن، مضيفًا بُعدًا إيقاعيًا نابعًا من صمت النص.

إيقاع القصائد في هذا الديوان يعتمد على خلق تدفق سلس بين الصور والتراكيب اللغوية، مترافقًا مع عناصر التكرار والتأمل، مما يمنح النصوص بعدًا موسيقيًا مميزًا ومختلفًا، ويعكس تجربة الشاعر مع الوجود والزمن بشكل يعمق التواصل مع القارئ.

تتميّز الصورة الشعرية في ديوان “مشاؤون بأنفاس الغزلان” لمحمد الحرز، بأنها تتسم بالعمق والتنوع، إذ يلجأ الشاعر إلى الصور المركبة والمعبرة التي تعكس أفكارًا فلسفية ومعانٍ وجودية. الصور هنا ليست مجرد تعابير جمالية، بل هي أدوات لاستكشاف الذات والعالم، وتستخدم لتقديم رؤى تتجاوز الوصف السطحي لتصل إلى تعابير حسية ورمزية عميقة.

أمثلة على الصور الشعرية في الديوان:

1. الصورة الكونية:

في قوله: “كما لو أني أربي أشجارًا في نومي؛ كي أصحو على سقوط ثمارها”، يستخدم الشاعر صورة الأشجار التي تنمو في النوم وتسقط ثمارها كناية عن الأفكار أو المشاعر التي تتشكل في اللاوعي وتظهر إلى السطح عند اليقظة. هذه الصورة تحمل دلالات على الانغماس في التجربة الشعرية والانتظار الدائم لحصادها.

2. التعبير عن الفقد:

الشاعر يرسم صورة مؤثرة عن الفقد في قوله: “الذكرى… قادرة أن تحدث شرخا كبيرا في، كل لحظة، في جدار روح محبيه وأهله”، حيث تصبح الذكرى مثل مرآة صقيلة تعكس الحنين والألم، وتستطيع أن تترك آثارًا عميقة في نفوس الأحياء. التصوير هنا يوظف العلاقة بين الذاكرة والجروح، فيجعل الذكرى قوة تؤثر وتغير على نحوٍ دائم. وهو ما نجده في قصيدة (شاعر لا يموت إلا من دهشته إلى الشاعر علي الدميني).

3. الصور المركبة للأشياء البسيطة:

في مشهد آخر يقول الشاعر: “الانقطاع عن الشعر أمام هذه الصعوبات… يعني احترامه، واحترامه لا يعني سوى شيء واحد هو أن يعلن أنك مصاب بالزهايمر”. هنا يدمج الشاعر بين الشعر وفقدان الذاكرة في صورة مركبة، ما يعكس استيعاب الشعر كجوهر للوجود والاستمرار، وأن البعد عنه يعني فقدان جزء أساسي من الهوية.

4. الصور الحسية في وصف الذكريات العائلية:

يقول: “أصرخ في كتبك أندس بين كلماتها أحذف سطرا هنا وأضيف سطرين هناك”، هذه الصورة تحمل إحساسًا حيًا للشاعر وهو يحاول إعادة تشكيل ذكرياته وماضيه من خلال التلاعب بالكلمات، وكأنه يعيد صياغة علاقته مع الزمن والأشخاص من خلال النصوص.

5. الصور السريالية:

في نص آخر يكتب: “الحياة قرب سلالم مكسورة لن تحجب عن الأعمى فضيلة الصعود”، حيث يمزج بين المشاهد السريالية والتعبيرات الرمزية ليبرز الجانب الوجودي من الحياة، هذه الصورة تعبّر عن الصراع بين اليأس والأمل، وتُظهر الصعود كقيمة تتجاوز الإعاقة المادية.

تتجاوز الصور الشعرية في هذا الديوان  كونها وسيلة لإيصال المعنى، فهي تعمل كأدوات لتحفيز القارئ على التفكير والتأمل، وتضعه في مواجهة مباشرة مع مشاعر الحزن، الفقد، الحب، والبحث عن الذات. من خلال الجمع بين الصور الحسية والتجريدية، يخلق الشاعر أجواء متشابكة تعكس فلسفته الخاصة عن الوجود والذاكرة والعبثية.

على مستوى الايقاع، حظيت القصائد في ديوان “مشاؤون بأنفاس الغزلان” لمحمد الحرز باستخدام مجموعة من الأساليب الفنية التي تعطي النصوص طابعًا موسيقيًا داخليًا دون الاعتماد على الأوزان التقليدية. إليك بعض الأمثلة من الديوان توضح هذه العناصر:

1. الإيقاع الداخلي:

نجد استخدامًا مكثفًا للإيقاع الداخلي الناتج عن تكرار العبارات، مثل قوله:

“يمضون وكأن شيئًا لم يكن. يكتبون وكأن شيئًا لم يكن. ثم يغادرون الحياة وكأن شيئًا لم يكن”.

تكرار كلمة “لم يكن” يمنح الجملة نغمة إيقاعية تُعزِّز الشعور باللاجدوى والعبثية، وهذا التكرار يشكِّل موسيقى داخلية تساعد على تأكيد المعنى.

2. التنقل بين الجمل القصيرة والطويلة:

في نص آخر يقول:

“كلما طرق عليك الباب لاح سنارته وسحب كلمة أو كلمتين من قصيدتك ثم ودعك إلى لقاء قريب”.


هنا نجد جملًا قصيرة تتبعها جمل أطول، مما يخلق إيقاعًا متذبذبًا يشبه التنفس المتسارع والبطيء، مما يعطي القارئ إحساسًا بالاستمرار والتوقف، كأن النص يترك مساحات للتأمل.

3. التكرار الدلالي:

يستخدم الشاعر التكرار الدلالي لتعميق المعنى، مثل في النص التالي:

“الكتابة تدمير للعالم… لا أريد سوى تهشيم جمجمته بفأس الكلمات”.

التكرار هنا لكلمة “تدمير” و”تهشيم” يساهم في إيقاع عنيف يعكس شعور الكاتب برغبة قوية في التمرد والهدم، مما يعزز من قوة النص واندفاعه.

4. اللغة التصويرية الحسية:

يلجأ الحرز إلى الصور الحسية التي تشدّ القارئ وتشركه في التجربة، كما يظهر في قوله

“يمضي الوقت مثل مرض معدّ… والمياه انسحبت من الأنابيب كي تتيح لأيامك المتوارية أن تتنفس”.

تخلق هذه الصور إحساسًا بأن الكلمات تتحرك وتتنفس، مما يعزز إيقاع القصيدة عبر المشاهد المتحركة في ذهن القارئ، ويمنح النص نوعًا من الحياة والحركة.

5. التأمل والفراغات:

يترك الشاعر فجوات للتأمل، كما يظهر في أسلوبه عند الحديث عن معنى الحياة والوقت:

“كلمة إثر كلمة تنزل السماء عاريةً بين يديّ، والمصاب بخنجر الزمن وجههُ مغطى بدم اللغة”.

هنا، المساحات بين العبارات تعطي فرصة للتوقف والتفكير، مما يجعل القارئ يتأمل الصور ويستشعر ثقل الزمن، مضيفًا بُعدًا إيقاعيًا نابعًا من صمت النص.

يعتمد إيقاع القصائد في هذا الديوان  على خلق تدفق سلس بين الصور والتراكيب اللغوية، مترافقًا مع عناصر التكرار والتأمل، مما يمنح النصوص بعدًا موسيقيًا مميزًا ومختلفًا، ويعكس تجربة الشاعر مع الوجود والزمن بشكل يعمق التواصل مع القارئ.

هناك أنواع من المزج التصوري في الديوان، والتي تعزز من عمق الصور الشعرية وتضفي على النصوص طابعًا فلسفيًا ورمزيًا. إليك بعض الأمثلة من الديوان التي توضّح أنواع المزج التصوري:

1. المزج بين الإنساني والطبيعي:

يستخدم الشاعر صورًا تجمع بين الإنسان وعناصر الطبيعة لتوضيح حالاته الشعورية والوجودية، مثل قوله: “كما لو أني أربي أشجارًا في نومي؛ كي أصحو على سقوط ثمارها”. في هذه الصورة، يعبر الحرز عن تجربته النفسية عبر صورة الشجرة التي تثمر في الخفاء ثم تظهر نتائجها في العلن، مما يعكس عملية النضج والتأمل الداخلي.

2. المزج بين الواقعي والخيالي:

يمزج الشاعر في احىد الصور بين الفعل الواقعي والخيالي لتقديم فكرة فلسفية، كما في تعبيره: “الكتابة تدمير للعالم”. هنا، يجعل من الكتابة فعلاً تخيليًا يعادل التدمير، وهو ما يضيف بُعدًا سرياليًا ويرمز إلى رغبة الشاعر في إعادة تشكيل العالم من خلال الكلمات، مما يمنح النصوص بعدًا أسطوريًا.

3. المزج بين الحسي والمجرد:

تتجلى قدرة الشاعر على المزج بين الصور الحسية والمعاني المجردة في قوله: “الذكرى… قادرة أن تحدث شرخا كبيرا في جدار روح محبيه وأهله”. يستخدم الحرز هنا صورة حسية تتعلق بالجدار للتعبير عن الألم العميق الذي يمكن أن تتركه الذكرى، مما يخلق إحساسًا ملموسًا للمشاعر المجردة.

4. المزج بين الثقافي والكوني:

يعتمد الحرز على عناصر ثقافية تشير إلى التاريخ والوجود، كما يظهر في وصفه “يباغتك صوتك صادراً عن أغوارك السحيقة”. هنا، يجمع بين المعرفة الثقافية عن النفس البشرية والتأمل الوجودي، ليقدم صورة تنقل إحساسًا بالاتصال بالذات والوعي العميق بالعالم.

أخيرا.. يعتمد محمد الحرز على هذه الأنواع من المزج التصوري لتوسيع نطاق معاني القصائد، حيث تتفاعل الصور مع أفكار فلسفية وإنسانية عميقة تجعل القارئ يتأمل في أبعاد جديدة عن النفس والعالم من حوله.

فهد توفيق الهندال

* محمد الحرز، مشاؤون بأنفاس الغزلان، دار كلمات 2024

التصنيفات
مدونتي

سيناريو الأحلام

يعدّ فيلم “دريم سيناريو” (Dream Scenario) من الكوميديا السوداء والمغامرات النفسية، إذ يقدم فكرة فريدة تعتمد على الأحلام والواقع. الفيلم من بطولة نيكولاس كيج الذي يقدم أداءً متميزًا كعادته. يحكي الفيلم قصة أستاذ جامعي مغمور، يبدأ بالظهور فجأة في أحلام الناس حول العالم دون تفسير، مما يقلب حياته رأساً على عقب. ويبرز الأداء التمثيلي لكيج، متنقلا بين الطرافة والاضطراب العاطفي بسلاسة. ليعكس الإخراج والتصوير حالة الانفصال بين الواقع والخيال بطريقة ذكية، مما يعزز الشعور بالغرابة والتوتر النفسي.

الفيلم من تأليف النرويجي كريستوفر بورغل (Kristoffer Borgli)، وهو أيضًا الذي أخرجه. ويتميز بورغل بأسلوبه الخاص في تناول مواضيع نفسية واجتماعية بأسلوب يجمع بين الكوميديا السوداء والتأمل الفلسفي. لهذا جمع الفيلم الغموض والغرابة، مما خلق جاذبية فورية للأحداث. إذ تتعمق القصة في مفاهيم الهوس الجماعي والشهرة المفاجئة وكيف يمكن لتلك الشهرة أن تتحول من نعمة إلى نقمة. الفيلم يقدم تساؤلات فلسفية حول معنى الشهرة والمسؤولية الاجتماعية، ويعكس بذكاء كيف يمكن للأحلام أن تؤثر على الواقع. رغم أن الفيلم قد يبدو بطيئًا في بعض الأحيان بسبب طبيعته التأملية، إلا أن عنصر الغموض والأحداث غير المتوقعة يجعلان المشاهد متيقظًا طوال الوقت. بالنسبة لمن يحبون الأفلام التي تدفع للتفكير وتثير التساؤلات، “دريم سيناريو” يقدم تجربة سينمائية مختلفة وغير تقليدية.

حصل فيلم “دريم سيناريو” على ترشيحات لعدد من الجوائز البارزة. أبرزها ترشيح نيكولاس كيج لجائزة أفضل ممثل في فيلم موسيقي أو كوميدي ضمن جوائز غولدن غلوب لعام 2024، وذلك لأدائه في هذا الفيلم الذي جمع بين الكوميديا السوداء والتأمل في الشهرة المفاجئة. بالإضافة إلى ذلك، تم ترشيح الفيلم لجائزة أفضل فيلم موسيقي أو كوميدي في جوائز الأقمار الصناعية (Satellite Awards) لعام 2024، وهو ترشيح يعكس الثناء الذي حظي به الفيلم من النقاد.

هناك العديد من الاقتباسات في فيلم “دريم سيناريو” التي تعكس الأفكار الفلسفية والموضوعات العميقة التي يستكشفها الفيلم، خاصة فيما يتعلق بالشخصية الرئيسية بول، ومعاناته مع الشهرة المفاجئة وتأثيرها على حياته. بعض الاقتباسات المهمة تدور حول التوتر بين الواقع والخيال، ومسألة السيطرة على حياتنا أو انفلاتها:

  1. بول ماثيوز: “أنا فقط أستاذ عادي، لماذا أنا؟” – هذا الاقتباس يلخص دهشته من أن يصبح فجأة جزءًا من أحلام الناس ويعكس شعوره بالارتباك والاضطراب.
  2. أحد الشخصيات الجانبية: “لا يمكنك الهروب من أحلامنا، بول” – يوضح هذا الاقتباس مدى التأثير الذي باتت الأحلام تمارسه على واقعه، مما يعمق من تعقيد القصة.
  3. في النهاية، يعد فيلم “دريم سيناريو” جريئًا وفريدًا يستحق المشاهدة، خاصة لمحبي الكوميديا السوداء والأفلام التي تتحدى المفاهيم التقليدية للواقع والخيال.
التصنيفات
مدونتي

أقنعة البطل الأمريكي

في محاولة لتفكيك مفهوم “البطل الأمريكي” كما يظهر في شخصيات مثل سوبرمان، كابتن أمريكا، وسبايدرمان، فإن ذلك يرتبط بشكل وثيق بمفهوم “رحلة البطل” أو Monomyth الذي وصفه جوزيف كامبل في كتابه “البطل بألف وجه” (The Hero with a Thousand Faces).  رأى كامبل أن هناك نمطًا عالميًا في قصص الأبطال عبر الثقافات المختلفة، حيث يتبع البطل مراحل محددة تشمل الخروج من العالم العادي، مواجهة العقبات، والحصول على مكافآت معينة بعد التغلب على الشر.

1. مرحلة الدعوة إلى المغامرة:

في قصص الأبطال الأمريكيين مثل سوبرمان وسبايدرمان، تكون الدعوة إلى المغامرة واضحة جدًا. يُرسل سوبرمان  إلى الأرض كرضيع من كوكب كريبتون، بينما يكتسب سبايدرمان قواه عن طريق حادث عرضي. هذه الدعوة للمغامرة تشبه المرحلة الأولى من رحلة البطل عند كامبل، حيث يُستدعى البطل لمواجهة تحديات خارج نطاق حياته العادية.

2. التحول والتطور الشخصي:

تحتوي هذه الأفلام على تحول داخلي للبطل الذي يبدأ كشخص عادي ثم يتطور ليصبح رمزًا للقوة والشجاعة. في حالة كابتن أمريكا، ستيف روجرز كان جنديًا ضعيفًا قبل أن يتحول بفضل مصل القوة. هنا نرى تشابهًا مع المرحلة الثانية من رحلة البطل، حيث يخوض البطل اختباراته ويتحول من الداخل من خلال مواجهة العقبات، مثلما يحدث في قصص هرقل أو جلجامش.

3. العودة والمكافأة:

يشير  كامبل إلى أن عودة البطل إلى المجتمع بعد استكمال رحلته ليشارك الآخرين ما تعلمه. بالنسبة لسوبرمان، كابتن أمريكا، وسبايدرمان، نجد أن دورهم كأبطال خارقين يتطلب العودة باستمرار إلى حماية المجتمع بعد مواجهة الشر. كما أن لديهم مسؤولية أكبر نتيجة لقواهم، مما يشير إلى عنصر “العودة بالمكافأة” عند كامبل. سوبرمان يعود دائمًا لحماية الأرض، وسبايدرمان يدرك أن قوته تأتي بمسؤولية عظيمة، تمامًا كما يصف كامبل في رحلات الأبطال الأسطوريين.

4. البطل كرمز اجتماعي وثقافي:

يمثل  الأبطال الأمريكيون  في جوهرهم القيم الثقافية التي يروج لها المجتمع الأمريكي مثل الحرية، المسؤولية، والعدالة، ما يعكس،تصوّر كامبل عن البطل في أي ثقافة، بأن يعكس أحلام وطموحات المجتمع الذي ينتمي إليه. وبالتالي، فإن الشخصيات مثل كابتن أمريكا وسوبرمان ليست مجرد شخصيات خيالية، بل رموز للهوية والقيم الأمريكية، بما قد ينطبق عليهم وصف كامبل لشخصية البطل بأنهم “يعملون كمرشدين روحيين للمجتمعات”!

وتعكس الأفلام الأمريكية شخصيات الأبطال الخارقين  (سوبرمان، كابتن أمريكا، وسبايدرمان)  مفهوم “البطل الأمريكي المنقذ” في الثقافة الشعبية، حيث يجسد كل منهم قيمًا مختلفة تدور حول الشجاعة، العدالة، وحماية الضعفاء. على الرغم من اشتراكهم في هدف مشترك يتمثل في محاربة الأشرار وإنقاذ البشرية، إلا أن هذه الشخصيات تُظهر تنوعًا في الأساليب، الخلفيات، والرسائل التي يحملها كل منهم. فيما يلي مقارنة وصفية بين هذه الشخصيات الثلاثة:

سوبرمان (Superman):

سوبرمان، الذي ابتكره جيري سيغل وجو شوستر عام 1938، هو النموذج الكلاسيكي للبطل الخارق. ينحدر من كوكب كريبتون، مما يجعله أجنبيًا على الأرض ولكنه أيضًا يمثل رمزًا للاندماج في المجتمع الأمريكي. يجسّد سوبرمان  الأمل والقوة الفائقة التي تأتي من قوة خارقة للطبيعة، وهو عادة ما يكون متفوقًا على أعدائه بقوته الجسدية الهائلة، وقدرته على الطيران، والبصر الليزري. في تمثّل شخصيته الظاهرية كشخص عادي، كلارك كنت،  التواضع والعلاقات الإنسانية الطبيعية، بينما شخصيته البطولية تجسد الحلم الأمريكي القائم على حماية الضعفاء ومكافحة الظلم أينما وجد. ليُظهر سوبرمان البطل المنقذ المثالي الذي يتجاوز الحدود البشرية.

كابتن أمريكا (Captain America):

ظهر كابتن أمريكا في عام 1941 كنتاج مباشر للحرب العالمية الثانية، وهو من إبداع جو سايمون وجاك كيربي. على عكس سوبرمان الذي يأتي من خارج الأرض، فإن كابتن أمريكا يمثل البطل الوطني الأمريكي، حيث كان ستيف روجرز جنديًا ضعيفًا تحوّل إلى بطل خارق بعد خضوعه لتجربة طبية من قبل الحكومة الأمريكية. يرمز كابتن أمريكا إلى الوطنية والالتزام بالقيم الأمريكية، ويمتاز بالانضباط العسكري والشجاعة التي لا تتزعزع في مواجهة الأعداء، سواء كانوا أشرارًا خارجيين أو حتى تهديدات داخلية تمس الديمقراطية. قوته الخارقة أقل من سوبرمان، ولكن إرادته والتزامه الأخلاقي هما ما يميزه كقائد وشخصية ملهمة في الحروب والمعارك السياسية لأمريكا ضد خصومها.

سبايدرمان (Spider-Man):

يمثّل سبايدرمان، الذي ابتكره ستان لي وستيف ديتكو عام 1962 الجانب الأكثر إنسانية من الأبطال الخارقين. بيتر باركر مراهق عادي، تعرض للدغة عنكبوت مشع منحه قدرات خارقة مثل القوة الفائقة، سرعة رد الفعل، وإمكانية التسلق على الجدران. ومع ذلك، فإن ما يميز سبايدرمان هو صراعه الداخلي، لكونه يكافح لتحقيق التوازن بين حياته كبطل خارق ومراهق يواجه تحديات الحياة اليومية مثل الدراسة والعمل ورعاية عمته. وسبايدرمان يمثل البطل الشعبي القريب من الناس، والذي يواجه أعداء في الحي والشوارع، بدلاً من تهديدات عالمية ضخمة. شعاره الشهير “مع القوة العظيمة تأتي مسؤولية عظيمة” يجسد الأخلاق الأساسية التي تحكم أفعاله، ويجعل من قصصه تأملات في المسؤولية الفردية والاجتماعية للمواطن الأمريكي.

الرابط الأساسي بين أفلام سوبرمان و كابتن أمريكا و سبايدرمان هو تجسيدها لفكرة “البطل الأمريكي المنقذ”، والذي يظهر كشخصية خارقة تحارب الأشرار أينما كانوا وتحمي المجتمع الأمريكي من التهديدات، وإن كانت غير حقيقية!  على الرغم من تنوع خلفياتهم، إلا أنهم يتشاركون في مواضيع مركزية، مثل المسؤولية الأخلاقية، التضحية من أجل الآخرين، والدفاع عن العدالة في تصوّر الذهنية الأمريكية فقط!

1. الدفاع عن “القيم الأمريكية”: كل هذه الشخصيات ترمز إلى قيم مثل العدالة، الحرية، والدفاع عن المظلومين. على سبيل المثال، كابتن أمريكا يمثل القيم الوطنية والديمقراطية الأمريكية بشكل مباشر، في حين أن سوبرمان، رغم كونه فضائيًا، يجسد الحلم الأمريكي من خلال تبنيه للإنسانية والدفاع عن الخير.
2. الصراع بين الحياة الشخصية والمهنية: على الرغم من أن سوبرمان يتعامل مع قوته الهائلة، إلا أنه في حياته ككلارك كنت يحاول أن يعيش حياة طبيعية. بالمثل، سبايدرمان يواجه التحديات اليومية كمراهق عادي، بينما يتحمل مسؤولية إنقاذ الآخرين. هذا الصراع يظهر في جميع الأفلام كجزء أساسي من بناء الشخصيات.

3. المسؤولية: سواء كان ذلك في شعار سبايدرمان “مع القوة العظيمة تأتي مسؤولية عظيمة”، أو في تضحية كابتن أمريكا من أجل الآخرين، أو في الالتزام الأخلاقي لسوبرمان، فإن موضوع المسؤولية يُشكل جوهر كل شخصية. جميعهم يتعاملون مع قوة عظيمة ويواجهون القرار حول كيفية استخدامها بشكل صحيح.

4. محاربة الشر: كل شخصية تواجه أعداء يشكلون تهديدات للمجتمع أو العالم. تختلف هذه التهديدات من أعداء فضائيين في سوبرمان، إلى تهديدات محلية ووطنية في كابتن أمريكا وسبايدرمان، لكن الرابط بينهم هو هدفهم في حماية الناس من الأشرار.

في النهاية، الرابط الرئيسي بين هذه الشخصيات هو الرسالة البطولية التي ترتكز على التضحية الشخصية لحماية المجتمع، مع اختلافات في الطريقة التي يتم بها تجسيد هذه الأفكار وفقًا لخلفيات وأهداف كل بطل، وسر البطولة المختلف لكل واحد على حده.

يمكن مقارنة أفلام الأبطال الخارقين الأمريكية مثل سوبرمان وكابتن أمريكا وسبايدرمان مع قصص أبطال عالمية أخرى من الثقافات المختلفة التي تجسد مفهوم “البطل المنقذ”، حيث نجد عناصر مشتركة في مواجهة الشر، الدفاع عن المجتمع، والتضحية بالنفس. فيما يلي مقارنة بين هذه الأفلام وبعض القصص العالمية:

1. سوبرمان مقارنة بـ جلجامش (ملحمة جلجامش – بلاد ما بين النهرين):

سوبرمان، القادم من كوكب آخر، يتفوق بقدراته الخارقة ويُعتبر رمزًا للأمل والعدالة. على نحو مشابه، جلجامش في الملحمة السومرية هو ملك نصف إله يتمتع بقوة عظيمة، وينطلق في رحلة بحث عن الخلود بعد فقدان صديقه أنكيدو. كلا البطلين يمثلان فكرة القوة التي تسعى إلى استخدام قدراتها من أجل مصلحة البشرية، رغم اختلاف الخلفيات والقصص. جلجامش يواجه مخلوقات خارقة وقوى طبيعية، بينما سوبرمان يقاتل قوى الشر التي تهدد الأرض.

2. كابتن أمريكا مقارنة بـ الملك آرثر (الأساطير البريطانية):

كابتن أمريكا يمثل البطل الوطني الذي يتميز بالولاء للوطن والدفاع عن العدالة، وهو ما يشابه شخصية الملك آرثر في الأساطير البريطانية. كلا الشخصيتين يمثلان رمزًا للقيم والمبادئ الأخلاقية، حيث يجسد آرثر الملك العادل الذي يسعى إلى حكم مملكته بنزاهة وحماية الضعفاء بمساعدة فرسان الطاولة المستديرة. على الرغم من أن كابتن أمريكا يأتي من خلفية عسكرية حديثة، إلا أن القيم المشتركة بينهما هي الولاء، التضحية من أجل الآخرين، والنضال من أجل الحق.

3. سبايدرمان مقارنة بـ رابطة الصعاليك (القصص الشعبية العربية):

سبايدرمان هو بطل يواجه تحديات الحياة اليومية كمراهق عادي، بينما يقوم أيضًا بحماية الناس ومحاربة الأشرار في مدينته. هذه الفكرة مشابهة لرابطة الصعاليك في القصص الشعبية العربية، حيث كان الصعاليك أناسًا عاديين منبوذين من المجتمع، ولكنهم اتخذوا دورًا بطوليًا في الدفاع عن الضعفاء والعدالة. ولعل الأسباب خلف الأعمال البطولية مختلفة: سبايدرمان يتصرف بدافع المسؤولية الشخصية، بينما الصعاليك يتحركون نتيجة الظلم الاجتماعي، ولكن كلا القصتين تعرض بطلًا يعاني من صراعات داخلية ولكنه لا يتخلى عن مساعدة الآخرين.

4. سوبرمان مقارنة بـ هرقل (الميثولوجيا اليونانية):

هرقل، مثل سوبرمان، هو نصف إله يمتلك قوة خارقة ويكلف بمهمات عظيمة مثل “الأعمال الاثني عشر” في الأساطير اليونانية. هرقل وسوبرمان يواجهان أعداء أقوياء ويستخدمان قوتهما لإنقاذ الآخرين والتصدي للشر. هرقل يجسد الشجاعة والتحمل، وكذلك سوبرمان الذي يسعى إلى تحقيق العدالة على الأرض على الرغم من كونه من عالم آخر.

بالرغم من اختلاف الخلفيات الثقافية، تتشارك هذه القصص في تجسيد البطل الذي يحارب الشر ويضحي من أجل الآخرين، سواء كان البطل يمثل قوة إلهية كما في الأساطير القديمة أو يكون إنسانًا عاديًا يكتسب القوة بفعل ظروف خارقة. الأفلام الأمريكية مثل سوبرمان وكابتن أمريكا وسبايدرمان تقدم فهما  حديثا لهذا المفهوم الذي يعود إلى جذور عميقة في التاريخ الإنساني، حيث تتجسد فكرة البطل المنقذ في معظم الحضارات لتعكس القيم الأخلاقية والدروس الإنسانية المشتركة، في محاولة تبرير أفعال البطل، ولو كان الشر مفهوما مطلقا، أي فضفاضا بحسب رؤيته ومصالحه فحسب، لاسيما وأن الأبطال النموذج هنا تجمعه ألوان العلم الأمريكي ( الاحمر، الابيض، الأزرق) في احتكار محصور لشخصية البطل المفترض (أمريكيا) على مر العقود وربما العصور!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

ظلال الصوت العالي

تلقي أصوات قصيدة (مديح الظل العالي)، بتكرارها القوي واستخدامها للغة المفعمة بالرموز المتجددة، على ظلها الطويل على ما يحدث في غزة ولبنان اليوم.لتخلق إحساسًا بالصراع المستمر والتحدي الدائم، مما يعكس الواقع المؤلم الذي نشهده اليوم في غزة. النص مليء بالأصوات الحادة والصارخة مثل “ق” و”ص” و”ط”، والتي تبرز صوتيًا مشاعر العنف والألم، مثل الانفجارات والدمار الذي يحدث في غزة حاليًا، وكأن الشاعر كان يستشرف مستقبلًا يستمر فيه الاحتلال والقهر ضد الشعب الفلسطيني.
تتكرر في النص، كلمات “بحر”، “حصار”، و”لا مفر”، تمامًا كما تعيش غزة تحت حصار مستمر، وكأن هذه الكلمات تنبض بأصوات الحياة في مدينة محاصرة تُحرم من أبسط مقومات الحياة الكريمة. تكرار كلمة “بحر” يخلق إيقاعًا صاخبًا، يشبه أصداء الانفجارات التي تتردد في سماء غزة، في الوقت الذي كان يمكن للبحر أن يكون مكانًا للحرية ولكنه صار رمزًا للحصار.
في حين يأتي الصوت “لا… لا مفر” مكررا في النص ليعكس الإصرار على المقاومة، على الرغم من قسوة الحصار الذي يُغلق الأبواب أمام السكان. هذا يتجلى في غزة حاليًا، حيث لا يملك الناس خيارًا سوى الثبات والمقاومة، حتى وإن كانت الظروف مأساوية.
يحمل الصوت في النص دلالة الفوضى، وكأن الأصوات المتداخلة تشبه أصوات الاستغاثات وصيحات الأطفال والعائلات العالقة تحت الأنقاض اليوم. فالإيقاع الفوضوي والتكرار ينعكسان كصدى لصوت حياة المدينة وهي تتعرض لدمار متواصل، كما لو أن الصدى هنا يرمز لاستمرار المقاومة وعدم الاستسلام أمام آلة الحرب.

في معرض الاستماع لقراءة قصيدة (مديح الظل العالي) وقفت عند الموسيقى الشعرية فيها، لتلعب دورًا هامًا في تعزيز المعاني وتأكيد الحالة النفسية والعاطفية لمحمود درويش. ويمكن تحليل المستوى الصوتي من عدة جوانب:

  1. التكرار: يستخدم درويش التكرار بشكل بارز، كما يظهر في تكرار عبارات مثل “يا أهل لبنان… الوداعا” و”البحر أبيض” و”أو لا تُدَوِّنْ”. التكرار هنا يضفي على النص نغمة إيقاعية تشد الانتباه وتعمق الإحساس بالوداع والحيرة. كما يعزز التكرار الإيقاع الداخلي للقصيدة، ويمنحها بعدًا من الرتابة المتعمَّدة التي تعكس التعب واليأس.
  2. التنغيم والتقفية: لا تتبع القصيدة وزنًا شعريًا تقليديًا، بل تعتمد على إيقاع حر يتنوع بتنوع الأفكار والمواقف العاطفية. لكن هناك تنغيم داخلي بين الكلمات والجمل من خلال القوافي الجزئية أو المقاطع الصوتية المتشابهة.
    وهناك توافق صوتي بين كلمات مثل “البحر” و”الدهشة”، و”الجمر” و”القدر”، مما يعزز الإيقاع الموسيقي الداخلي للقصيدة.
  3. الاستفادة من الأصوات الحادة والمشددة:

تستخدم الأصوات الحادة مثل “ص” و”ق” و”ط” في الكلمات ذات الدلالات الحادة أو العنيفة مثل “القصيدة”، “المأساة”، “المقصلَهْ”، مما يخلق تناغمًا بين المعنى والشكل الصوتي. وتضفي هذه الأصوات توترًا ودراما على النص، خاصة في المقاطع التي تتحدث عن الألم أو الصراع.

  1. الأصوات الساكنة والممتدة:

يخلق استخدام الأصوات الساكنة والممتدة (مثل “أ” و”و”) في كلمات مثل “البحر”، “السماء”، “الهواء”، يخلق كل ذلك إحساسًا بالهدوء والامتداد اللامتناهي، مما يتماشى مع دلالة البحر كفضاء مفتوح ولا نهائي. هذه الأصوات تساهم في تكوين جو من الاستسلام أو التأمل، خاصة في المقاطع التي تتناول مفاهيم الغربة أو الفناء.

  1. الإيقاع الداخلي والطباق:

تعتمد القصيدة على إيقاع داخلي قوي يتشكل من خلال التناقضات الصوتية والمعنوية، مثل “ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة”، حيث يعزز الطباق بين “أوسع” و”أضيق” من الإيقاع الموسيقي ويضفي على الجملة نغمة تأملية عميقة.

  1. الطول والتقطيع:

يساهم الطول المتفاوت للجمل الشعرية في خلق إيقاع مرن. فالجمل القصيرة مثل “والبحر أبيض” و”فاذهب” تأتي كفواصل قوية تضفي على النص شعورًا بالقطع أو الانفصال، بينما تعكس الجمل الطويلة حالة الامتداد التي تتناسب مع موضوع البحر والفضاء اللامتناهي.

إذن، استخدم درويش على المستوى الصوتي مجموعة متنوعة من الأدوات الموسيقية مثل التكرار، التنغيم الداخلي، التنوع في الأصوات الحادة والممتدة، والإيقاع الداخلي لتعزيز تأثير القصيدة. لتعكس هذه الأدوات مشاعر الشاعر من الحيرة، الغربة، والتأمل، وتساعد في إبراز الدلالات الفلسفية العميقة للنص، بما تمّ توظيفه في أصوات النص، ليجسد مشهدًا من الألم والصمود، ويبدو وكأنه صوت الفلسطينيين وهم يقاومون بصوتهم ضد الطغيان، كما يحدث الآن في غزة ولبنان ، إذ أصبحت الأصوات رمزًا للثبات أمام الظروف القاهرة.

جزء من دراسة مطوّلة سأنشرها قريبا.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

مُعجم الألم والعدم في سياق أنثوي

 تأتي تجربة الشاعرة مريم العبدلي في ديوانها “أشياء لا حوافّ لها” تجربة شعرية خارجة عن المألوف، تحمل في طياتها دلالات فلسفية ونفسية عميقة. إذ يعبّر الديوان عن حالات من الفوضى الداخلية، الاضطرابات النفسية، والبحث المستمر عن معنى للوجود. من خلال هذه الرؤية، يمكن تحليل الظواهر الدلالية والتداولية في الديوان، مع التوقف عند المفردات الشعرية المستخدمة.

الظواهر الدلالية في الديوان

1- دلالات الألم والعدم

يركز الديوان على دلالات مرتبطة بالألم والعدم، إذ يعبر عن الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان في مواجهة قسوة الحياة وتفاهة الكينونة. مفردات مثل “العدم”، “الوجود”، “الخلاص” و”الجسد” تظهر بشكل متكرر لتعكس التشظي النفسي والاضطراب الوجودي. في قصيدة “ما هو أكثر جحيمية من الجسد”، يظهر الجسد كرمز للمعاناة والعذاب، كأن الشاعرة تحاول أن تعبر عن أن الجسد ذاته ليحمل داخله مأساة الإنسان الأساسية. ويتشكّل العدم في ديوان العبدلي عبر صور شعرية تجسّد الفراغ والغياب التام للمعنى. من الأمثلة البارزة:

• “سننجو… من العدم نفسه” . هذه العبارة بسيطة، لكنها مؤثرة تعبّر عن محاولة البحث عن الخلاص، لكن ليس من الحياة أو الموت، بل من العدم ذاته، لكونها   توحي بأن العدم ليس فقط غيابًا للوجود، بل هو أيضًا تهديد يلاحق الإنسان.

• “أنت الذرّةُ ـ العدمُ اللا- شيئيّةُ”. هنا تتجسّد صورة العدم بشكل ملموس، حيث يتم تصوير الذات كذرة خالية من المعنى والوجود، وهي تتلاشى في الفراغ المطلق، بما يُفيد التلاشي والتفكك التي يشعر بها الفرد في لحظات الضياع.

• “الانطفاء ليس نقيض الاحتراق، لا نقيض من الأصل” . هنا تلخيص لفكرة العدم في الديوان، حيث لا توجد ثنائية واضحة بين الحياة والموت أو بين الوجود والعدم. إنها صورة متشابكة تعبر عن حالة الفوضى التي يعيشها المرء في مواجهة العالم، حيث يختفي النقيض وتصبح الأشياء مجرد تجليّات للعدم.

2- التعبير عن الذات الممزقة

 يُظهر الديوان حالةً من التفكك الداخلي في العديد من النصوص، مثل “أن أكون شاعرة” و”الهالكون”، فيعرض هذا التفكك وضع الذات الأنثوية التي تعيش تحت وطأة العزلة والخوف، فتأتي الذات وكأنها مفككة إلى أجزاء لا يمكن إصلاحها، تُعاني من عدم القدرة على تحقيق خلاص من هذه الحالة.. “أنا التي اختارت بكل فداحة مرارة أن تعيش خائفة من أن يترصدها أصدقاء الموت”، مما يعكس قوة حضور الخوف،  فتظهر الذات الممزقة في الديوان، من خلال صور شعرية تعبر عن تفكك النفس وتحللها، ويكن الوقوف عند هذه الصور:

• “أنا الآنَ أنفرطُ عضواً عضواً” . هنا تعبير عن تجربة التفكك الداخلي، فالذات لم تعد كيانًا متماسكًا، بل مجموعة من الأجزاء التي تتساقط وتتلاشى، كما لو كانت مهددة بالانفصال عن ذاتها وعن العالم من حولها.

• “الظلُّ بأربعةِ رؤوس!” . تصوّر الذات الممزقة، التي تتواجد في أماكن متعددة في نفس الوقت. فالظل الذي عادة ما يكون صورة موحدة، يتحول إلى كيان منفصل يحمل رؤوسًا متعددة، مما يعبر عن الانشطار الداخلي للذات والشعور بالتشتت.

• “الموت بديهيٌّ كالمطلق، مريعٌ كالأبد”. ربطٌ بين الموت والخلود في الأبدية، فتعلق الذات بين الموت والحياة، وهي تتأرجح بين حالة الاحتضار المستمرة والبقاء في حالة من الجمود المميت، وهو ما يعكس التمزق الداخلي للروح.

3- تمثيل المرأة بوصفها كائن هش ومتحدي

 ليست المرأة في هذا الديوان ضحية للظروف فحسب، بل هي كيان يواجه تحديات وجودية صعبة، ويعكس أحيانًا تمردًا على الواقع المادي المحيط. ففي قصيدة “أنا الشجرة التي أنكرت الماء وتحالفت مع الفؤوس”، نجد أن الشاعرة تمثل المرأة ككيان يتمرد على الضرورات الطبيعية والمجتمعية، حيث تعيد تعريف أدوارها الأنثوية بشكل مغاير. وتنعكس هذه الهشاشة في صور شعرية تتحدث عن الجسد والعقل بوصفهما كيانين مهددين بالتفكك والانهيار:

• “أجسادٌ تأثّثتْ رؤوسُها بلغْمٍ أسموهُ العقل”  . ففي هذه الصورة يأتي العقل كقنبلة موقوتة، والجسد كرأس مليء بالألغام. و لا يمثّل العقل هنا الحكمة أو الوعي، بل هو مصدر للتهديد والتدمير الذاتي، مما يعكس هشاشة الإنسان أمام نفسه.

• “أُتقنُ قراءةَ هذا العبثِ اللعيِن… الذي يبني في العقلِ أعشاشاً للغبار!”.  وتصوّر السريالية العقل كمساحة عبثية يمتلئ بالغبار والفوضى، لتعكس حالة الانهيار الداخلي التي يعيشها الإنسان. ولعل الفكرة هنا، أن العقل نفسه قد يصبح مكانًا للفوضى والهشاشة، بدلاً من أن يكون مصدرًا للاستقرار والتوجيه.

• “جسدي مِسبحةٌ آيلةٌ للانفراط” . وتعبّر هذه الصورة المتداولة ذهنيا عن هشاشة الجسد البشري، الذي يوصف بأنه مِسبحة، أي شيء مقدس، لكنه مهدد بالانفراط والتلاشي. وهي رمزية عن الشعور بالضعف أمام قوى الحياة والموت.

  تستند مريم العبدلي على لغة مفتوحة للتأويل، فتترك قارئها الأنموذج أمام أسئلة وتحديات حول معنى الحياة والوجود. لتدعو هذه الأسئلة هذا القارئ للدخول في عملية تبادل المعنى مع النص، إذ يعتمد فهم النصوص على التجربة الذاتية لهذا القارئ. ولا تقدّم النصوص في الديوان إجابات مباشرة، بل تسعى للتواصل مع متلقيها عبر تركيبة تجريدية غامضة تتطلب منه فك شفراتها. ليتقاطع الخطاب الشعري في هذا الديوان مع تجربة المرأة، ويستحضر الألم النفسي بوصفه جزءاً من الهوية الأنثوية. وتعكس النصوص تجربة الشاعرة كشخص يعيش في حالة من التوتر والاضطراب النفسي الدائم. ولعل الإهداء الذي يتصدر الديوان:

 “إلى المصابين بنوبات الهلع 

وإلى الأسماء المكتوبة في سجلات الطب النفسي

إلى كل الذين ليسوا على ما يرام

سننجو”.

 يعكس التأثير النفسي الواضح على النصوص، وقد يمثل تواصلاً مع فئة معينة من المجتمع تعيش تجارب مشابهة، لكن النجاة هي النهاية المفترضة، مهما طالت، باي شكل كانت!

 من هنا، تسهم السياقات النفسية والاجتماعية في تشكيل المعاني المختلفة للنصوص. فتُشير اللغة في النصوص إلى علاقة حوارية بين الشاعرة وقارئها، إذ تتجسد الأفكار المتعلقة بالقلق والخوف والوجود ضمن سياقات اجتماعية تعبر عن المرأة المعاصرة.

المعجم الشعري للديوان

1. المفردات الفلسفية والوجودية: تأتي المفردات المستخدمة في الديوان مثل “العدم”، “الجحيم”، “الخلاص” و”الجسد”، لتمثّل تداخلاً فلسفياً عميقاً مع الأسئلة الوجودية. تحمل هذه المفردات دلالات مرتبطة بالألم والمعاناة، وتشير إلى أزمة وجودية مستمرة. لتنقل هذه اللغة تأملات الشاعرة حول الوجود في عالم يبدو عبثياً ولا يقدم حلولاً.

2. المفردات النفسية: جاءت النصوص مليئة بمفردات تعكس الحالة النفسية مثل “الاكتئاب”، “الهلع”، و”اليأس”. فتعبر هذه المفردات عن حالة دائمة من الصراع النفسي، وكأن النصوص تعبر عن مواجهة لا نهائية مع قوى نفسية غامضة وصعبة السيطرة.

3. المفردات الطبيعية والكونية: يأخذ استخدام الشاعرة لمفردات الطبيعة مثل “الظلال”، “النجوم”، “الأرض” طابعاً سريالياً. لتخرج هذه المفردات عن معانيها التقليدية، فتصبح تجسيداً لحالات نفسية أو فلسفية، كما في تصوير النجوم على أنها “سمكة محنطة”.

4. المفردات الجسدية:  تعبّر مفردات مثل “الأحشاء”، “الدم”، “العظام” عن هشاشة الإنسان وأزمته النفسية. فليس الجسد هنا جسم مادي فحسب، بل هو ساحة للصراع الداخلي، وهو ما يعكسه الديوان بشكل متكرر.

يقدّم ديوان “أشياءٌ لا حوافّ لها” لمريم العبدلي تجربة شعرية غنية عميقة، تجمع بين الطابع الفلسفي والوجودي والتعبير النفسي، ويعكس استخدام الشاعرة للمفردات النفسية والفلسفية والطبيعية روحاً متمردة تحاول إيجاد معاني جديدة للحياة ووجودها، في عالم تتفشى فيه الفوضى والاضطراب. وذلك بتوظيف لغة مفتوحة للتأويل، تفتح الشاعرة باباً جديداً للتفاعل مع قارئها الأنموذج، مما يجعل النصوص المكوّنة له، مساحة حوارية غنية معه، منغلقة مع غيره من القراء. ولكن بالنهاية، هي تجربة ورسالة موجه من الذات نحو من يشبهها. يمثل الديوان (أشياءٌ لا حوافّ لها) قفزة شعرية طويلة بعد ديوانها الأول السابق “رواه عقل”، ليمنحها طابعاً مميزاً ضمن الشعر المعاصر.

فهد توفيق الهندال

مريم العبدلي، أشياء لا حوافّ لها، دار عرب، لندن 2023

التصنيفات
مدونتي

فيلم باتون.. في حب الحرب

شاهدت الفيلم في بداية الثمانينات عبر القناة الثانية من تلفزيون الكويت على جزأين ضمن السلسلة الشهيرة روائع القصص. لأشاهده ثانية عبر احدى منصات الأفلام بعد كل هذه السنوات.

باتون Patton فيلم تاريخي انتج في العام 1970، يعدّ أبرز الأفلام الحربية لكونه يسرد جانبا من شخصية الجنرال جورج س. باتون، أحد أشهر الجنرالات الأمريكيين في الحرب العالمية الثانية. من إخراج فرانكلين جيه شافنر وبأداء استثنائي من جورج سي سكوت. يدمج الفيلم بين الدقة التاريخية والدراما المشوقة. فالسيناريو، الذي كتبه فرانسيس فورد كوبولا وإدموند إتش نورث، ليعدّ تحفة فنية أدبية بحواره الحاد وأحداثه التاريخية المدروسة. كوبولا، الذي سيصبح لاحقًا مخرجًا أسطوريًا للثلاثية العراب، أضفى على السيناريو مزيجًا من الرسم والتعقيد والدقة، إذ اعتمد الفيلم على كتابي “باتون: المحنة والانتصار” للكاتب لاديسلاس فاراغو و”قصة جندي” للجنرال أومر برادلي، مما يمنحه قاعدة تاريخية متينة.

يلتقط الفيلم جوهر شخصية باتون المتناقضة في عبقريته كاستراتيجي عسكري، بلاغته الشعرية وحبه الرومانسي للحرب، وشخصيته القاسية. ولعل أشهر جملة في الفيلم تأتي من المونولوج الافتتاحي الذي لا يُنسى: “لم يفز أي ابن ساقطة في الحرب بموتٍ من أجل بلاده. بل فاز لجعله ابن الساقطة الآخر يموت من أجل بلاده”. هذا المونولوج، أمام علم أمريكي ضخم، يضع نغمة الفيلم بأكملها، حيث يمزج حقائق الحرب الوحشية بشخصية أبطالها.

كما يعرض الحوار رؤى باتون حول التظاهر والقدر معا، مما يضفي عليه طابعًا غامضًا، وذلك باعتقاد باتون بأنه كان محاربًا في حيوات سابقة يضيف عمقًا لشخصيته، لكونه يرى أنه محارب قديم من زمن الرومان ويكره القرن العشرين، مما يجعله إلى جانب كاريزما شخصيته، مجنونا أرعن غير متوقعة التصرفات أمام قادته ومنهم أيزنهاور القائد العام لقوات التحالف ضد دول المحور في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، كان باتون خيارا أولا عند أيزنهاور لأي معركة مجنونة لا يهم حجم الكارثة والضحايا في سبيل النصر!

قدّم جورج سي سكوت أداءً مذهلاً في دور الجنرال باتون. تجسد شخصيته بشكل مسرحي طيفًا كاملاً من سمات الشخصية المتمثلة في قسوة باتون، غروره، جاذبيته، وهشاشته معا. يؤدي سكوت شخصية باتون بحدة هائلة تجعل من المستحيل إبعاد النظر عنه، عبر أدائه القوي، إذ جسّد حب باتون للحرب، ووطنيته الشديدة، وتناقضاته العميقة. وأبرزت قدرة سكوت على الانتقال من خطابات النصر الاستعراضية إلى لحظات التأمل الهادئ، براعته المذهلة في تقديم شخصية متناقضة.

إحدى أكثر المشاهد تأثيرًا في الفيلم هي عندما يصفع باتون جنديًا مصابًا بالصدمة النفسية في مستشفى ميداني، وهي واقعة تاريخية غيرت مسار باتون ذاته. وجاء أداء سكوت في هذا المشهد مبهرا ، حيث يعرض طبيعة باتون القاسية وإيمانه بعدم وجود مكان للجبن في الحرب. ومع ذلك، نراه بعد ذلك بوقت قصير يفكر في تصرفاته بشكل خاص، مما يكشف عن شخص يعاني من العيوب وإنسانيته في النهاية. فكانت حادثة صفع الجندي والاعتذار له أمام عموم قوات الجيش الثالث الذي يرأسه باتون، لعنة ملازمة له حتى بعد عزله عن كل قيادات الجيوش الأمريكية برغم ما ساهم به من انتصارات.

قدّم الممثل كارل مالدن في دور الجنرال أومر برادلي توازنًا مثاليًا مع أداء سكوت. إذ شكّل باتون العسكري الناري وغير المتوقع، كان برادلي هادئًا ومتزنًا ودبلوماسيًا. ليمثل الرجلان أساليب قيادة مختلفة، ويعزز ذلك أداء مالدن الهادئ مقابل أداء سكوت الأكثر اندفاعًا.

كان الإخراج لفرانكلين جيه شافنر، وهو الأضخم من حيث النطاق ودقة التنفيذ. يوازن بين مشاهد الحركة في الفيلم وبين لحظات التأمل، مما يضمن أن شخصية باتون تبقى محور القصة الرئيسي. إذ ركّز شافنر على عظمة باتون لكنه أيضًا استكشف عذابه الداخلي. لهذا لا يعدّ الفيلم تمجيدًا بسيطًا للحرب بل دراسة لشخص أحب الحرب واعتقد أنه مقدر له تحقيق مصير وقدر.

مع الإدارة البارعة لشافنر لمشاهد المعارك الميدانية، حيث جسّد الفوضى في المعركة، بينما يعطي الجمهور إحساسًا بالجغرافيا والاستراتيجية. وقد تم تنسيق المعارك بدقة، ليظهر المخرج تأثير قرارات باتون دون تمجيد العنف ذاته.

تم تصوير فيلم باتون في عدة دول، منها إسبانيا والمغرب وإيطاليا. لتضفي هذه المواقع أصالة على تصوير الفيلم لمسرح العمليات الأوروبي وشمال إفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية، ولعل الصحاري القاحلة في شمال إفريقيا كانت لافتة للنظر بشكل خاص، حيث تعزز الظروف القاسية التي واجهها باتون وقوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية.

ولعلّ واحدة من أكثر المشاهد التي لا تُنسى هي معركة القطار في إيل قوتار، والتي تم تصويرها في التلال الوعرة في إسبانيا. فالمناظر الطبيعية تعزز النطاق الملحمي للفيلم وتخلق خلفية حية للمواجهات بين قوات باتون والجيش الألماني، مما عزّزت ضخامة هذه المواقع لشخصية باتون نفسه، الذي كأنه حربه تُدار على مسرح عالمي لا أرض حربية.

مع اقتراب الحرب من نهايتها، يظهر استياء باتون من السلام. ليعترف بأنه يشعر بأنه لا مكان له دون حرب يقاتل فيها، قائلاً: “بالمقارنة مع الحرب، تتضاءل جميع أشكال الجهد البشري الأخرى لتصبح غير ذات أهمية.” تلخص هذه العبارة إدمان باتون على ساحة المعركة وعدم ارتياحه لأي شيء خارج الحياة العسكرية، وذلك لحبه التاريخي للحرب.

حقّق فيلم باتون نجاحا من الناحية النقدية والتجارية، حيث فاز بسبع جوائز أوسكار في عام 1971، بما في ذلك:

أفضل فيلم

أفضل مخرج (فرانكلين ج. شافنر)

أفضل ممثل (جورج سي سكوت) — رغم أن سكوت رفض الجائزة بشكل شهير.

أفضل سيناريو أصلي (فرانسيس فورد كوبولا وإدموند إتش نورث)

أفضل تصميم إنتاج

أفضل مونتاج فيلم

أفضل صوت

كما تلقى الفيلم ترشيحات لجوائز أفضل تصوير سينمائي وأفضل مؤثرات بصرية، مما يؤكد إنجازاته الفنية والتقنية. وأصبحت موسيقى الفيلم واحدة من الأيقونات الموسيقية.

يظل فيلم باتون واحدًا من أعظم أفلام الحرب على الإطلاق، ليس بسبب مشاهد المعارك أو نطاقه التاريخي، بل بسبب تصويره الذي لا يُنسى لشخصية استثنائية للجنرال باتون، وما كانت تخفيه من غطرسة في قراءة التاريخ، وأنه لا يكتب إلا بمدافع المحاربين أمام عدسات الكاميرات وعناوين الصحف، وهي المعركة التي يخسر فيها باتون دائما. وما كان لهذا المقصد أن يتحقق من الفيلم لولا الأداء المذهل لجورج سي سكوت، مدعوما بإخراج ملحمي من شافنر وسيناريو ذكي من كوبولا، ليقدم الفيلم استكشافًا غنيًا ومتعدد الطبقات لقائد عسكري عظيم ولكنه عانى من العزلة بسبب هوسه بالحرب مهما كان الثمن.

فهد توفيق الهندال