منذ اشتغالي في عالم النشر، لا تنفك عن بالي تلك الأسئلة التي أواجهها مع زملائي المؤمنين بقيمة النشر الثقافي، حول الجدوى من مشروع قد لا يدر ربحا تجاريا بقدر عائده الثقافي. قد تحتاج إجابتي لسطور أكثر، ولكنني سأختصرها بشاهد قصة الأديب عبدالحميد جودة السحار و صديقه الأديب العالمي نجيب محفوظ حول جدوى مثل هذا المشروع، حيث كان الاثنان طالبين في مدرسة واحدة، وسكنا حيا واحدا، وأحلامهما واحدة، إحداها فكرة إنشاء دار للنشر. فيقول السحار عن ذلك في كتابه ( صور وذكريات ): «ولدت الفكرة وما أيسر ولادة الأفكار وما أعسر إخراجها إلى عالم النور لمن كان مثلي لا يملك أية أداة من أدوات التنفيذ. ومنذ ذلك اليوم أصبحنا نلتقي أنا ونجيب محفوظ في قهوة الفيشاوي وفي قهوة عرابي في ميدان الحسينية وصرنا لا نفترق لا حديث لنا إلاّ حديث الأدب، نعيش على أمل واحد أن تعرف كتبنا رفوف المكاتب، فما كنا نطمع في أن تحتل مكاناً في الواجهات الزجاجية التي خصصت لكبار المحظوظين وعرفت أن نجيب دار بقصصه الفائزة بجوائز الدولة على دور النشر فاعتذرتْ له لأنه ليس من مشاهير الكتّاب. كأنما ولد هؤلاء وهم من المشاهير، فزاد ذلك في تصميمي على إنشاء دار للنشر هدفها نشر آثار المغمورين».
ويذكر أن السحار لجأ إلى مصوغات زوجته فباعها ، وكون مع محفوظ وثلة من أصدقائهما الأدباء لجنة النشر للجامعيين التي قدمت المؤلفات الاولى لهم ، ولأبناء جيلهم ، ثم توقف المشروع بعد الخسارة المادية التي تعرض لها السحار لقاء اصراره على القيام بهذا المشروع . ومع ذلك استمرت أعماله و أعمال أصدقائه خالدة حتى هذا الوقت ، لتفوز رواية صديقه نجيب محفوظ بجائزة نوبل بفضل تلك الأماني و الطموحات و الجهود في خدمة الأدب و الثقافة.
قد يختلف معي البعض حول وصفي الكتاب ب”سلعة حياتية”، أو حتى مجرد وصفه بـ ” سلعة ” لما يحمله من قيمة معنوية أكثر منها مادية ، وهذا مرده إلى الصورة التقليدية الراسخة في ذهنية الكثيرين، بأن الكتاب قيمة ثقافية أو أدبية بحتة ، دون التفكير للحظة أنه بمجرد شرائك إياه فأنك دخلت دائرة التسويق لكونك شاري سلعة من بائع، لا يختلف عن بقية السلع الاستهلاكية الأخرى !
تعتبر الثقافة اليوم قيمة و سلعة في آن، ولا يمكن الفصل بينهما، فالقيمة لوحدها تحددها جودة المنتج، والسلعة مرتبطة بذلك، وإلا لماذا تحرص الدول الصناعية مثلا على دعم صناعة الكتاب ضمن مجالات التصنيع لديها ؟
في أوربا ، لا يقل الدخل السنوي من إيرادات الكتب مثلا عن 20 مليار يورو سنويا منذ عام 2011، وهو ما لا أعتقده مقاربا للدخل السنوي العربي من صناعة الكتاب. ما يعني ضرورة إعادة النظر في مفهوم معارض الكتب العربية ضمن رؤية جديدة لا تقل عن الرؤية الأوربية أو الآسيوية في صناعة الكتاب، مما يتطلب جهودا وقناعة مكثفة و عملا دؤوبا يرتقي بصناعة الكتاب بدءا بتخفيف قيود الرقابة وتخفيض سقفها نحو اطلاق مساحة أوسع من الحرية المسؤولة للتأليف والنشر والترجمة ، وصولا بتنويع المنتج للكتاب وجودته، حتى نصل إلى صناعة شاملة لكل من الكاتب والمتلقي والناشر ليكملون سيرة الكتاب وحضوره المستمر.
فهد توفيق الهندال


One reply on “في اليوم العالمي للكِتاب”
رائع يا فهد
لفتة مهمة للقيمة الحقيقية للناشر و الدور الكبير الذي حمله في نشر الثقافة ، ولكن بقى السؤال المهم في هذا الموضوع، لماذا نفتدق الدع من الجهات المختصة الحكومية و الخاصرة للكاتب و للناشر المبدع الذي توقف بسبب الظروف المادية؟ أي دور هي تقوم فيه اذا لم تفعل ذلك ؟
إعجابإعجاب