التصنيفات
مدونتي

الكتابة فرض كفاية

منذ عقود مضت، بدأت تتشكل تحديات جديدة في عالم الكتابة، وذلك بفضل متوالية جديدة ومتغيرات سريعة مرت وتمر على الساحة اليومية، لتفرض واقعا افتراضيا مختلفا بعدما كان واقعيا محضا، على كل من الكاتب والمتلقي، والناشر بينهما. حيث أصبحت العلاقة اليوم غير مرتبطة بهذه الأطراف الثلاث، وإنما دخلت أطراف أخرى تفرض معادلة مختلفة، عاملها المشترك في ذلك هو التطور المذهل في الثورة المعلوماتية التي أنجبت بشكل شرعي وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبحنا – نحن المرسلين / المستقبلين – جزءا من أدواتها في مجال التداول وحلبة التنافس.

ولأن التداولية باتت لغة العصر الجديدة لكونها تعني ” الفكاك من المنزع النرجسي للنخب المثقفة بفك وصايتها على القيم والحقوق والحريات” كما يرى المفكر علي حرب في كتابه (العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول) الذي جاء بأطروحات فكرية تثور على كل عوامل انشقاق العالم أكثر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فإن الحراك الاجتماعي الذي شهده المجتمع العربي في مطلع عام 2011 أو بما سمّي ب ” الربيع العربي ” كان نتيجة تلك الرغبة في تحقيق حضور “العقل التداولي” الذي يتعامل مع عالم شديد التنوع والتعقيد والتحول، ولذا لا يمكن حصره في صورة نهائية. كما أن العقل التداولي لا يخشى المتغيرات بل يراها فرصة لبدء علاقة جديدة مع الواقع. ولعل الشباب اليوم هم العنصر المحرك لكونهم الأكثر تمرسا لهذا العقل التداولي، في التعامل مع الواقع المتغير. فبات التغيير حياة مستمرة، ليتعلق غيرهم من الأجيال السابقة بكل طوق نجاة في محاولة مسايرة التغيير، لا خوفا إلا من النسيان نفسه في عالم يندفع سريعا نحو نظام جديد ما بين التكريس لأسماء دون غيرها، والتفاهة السطحية التي انتجتها سلطة المجتمع الاستهلاكية.

أجمل ما قرأته عن نظام التفاهة المسيطر على العالم اليوم، ما ذكرته الدكتورة مشاعل الهاجري في مقدمة الترجمة، بأنها تعودت الذهاب إلى الرفوف التي في جوانب وأطراف المكتبة، لأنه غالبا ما تتصدر واجهة المكتبة الكتب من هبة the best seller. لهذا أعتقد أن كثيرا من القائمين على المهرجانات والملتقيات يفكرون بعقلية the best seller، دون تجشم العناء في البحث عن كتب وأسماء أخرى يمكن أن تتفوق فنيا وفكريا، موجودة في أطراف الساحة وجوانبها.

فالتكريس الدائم لأسماء معينة دون غيرها في كثير من المهرجانات والملتقيات سببه أحد أمرين، إما جهل القائمين وكسلهم في البحث عن أسماء جديدة، أو لوجود مصلحة ما، وربما السببان معا.

ولكن السؤال، ما هو الجديد الذين سيقدمونه إذا كانت كتاباتهم تدور حول ذات المحاور التي بدأوا بها مشاريع الكتابة لديهم؟ أو بالأحرى ما هي الإضافة الجديدة التي سيضيفونها للمشهد الثقافي إذا كنا قد حفظنا ذات “المنيفيستو” الذي يقرأونه في كل صاعدة ونازلة؟

لهذا، فإن العقل التداولي كفيل بفك هذا التكريس وتحليل مستوى المتمترسين خلفه، ممن لا يملكون جديدا في الوعي الكتابي، ويستهلكون أو يعيدون إنتاج ما قرأوه لغيرهم أو إعادة تدوير ما كتبوه سابقا.

وعودة لكتاب نظام التفاهة لآلان دونو ، والذي تغلغل في نواحي الحياة المختلف، الفن، الأدب، السياسة، الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي وغيرها، توقفت طويلا عند جملة اقتبستها الدكتورة الهاجري في مقدمتها نقلا عن الكاتب السوري عبداللطيف الفرحان وأجدها أفضل ما يمكن أن يلخص واقع الكتابة اليوم:

“الكتابة عندي فرض كفاية، إذا كتب غيري وأجاد عن الموضوع فلا أجد كتاباتي إلا تكرارا. وبالتالي، فعزوفي عن الكتابة عنها ليس موقفا، بل إيمانًا بأنه ليس لدي ما أضيفه لقضية واضحة ومحسومة وصريحة. فالكتابة ليست إثبات موقف بل اضفاء قيمة معرفية” .

فهد توفيق الهندال

2 replies on “الكتابة فرض كفاية”

تحية طيبة
كلمة الهاجري تعكس وجهة نظري في الترجمة وبشكل عام ،لاسلوبي لترجمة اسماء غير معروفة لازالة الغبار عن مسميات جديدة ولربما في ترجمتي امنح فرصة كبيرة لهم
مقال رائع جدا سلمت في اثارة مواضيع متعلقة بالثقافة لم يتطرق لها الاخرون
دمتم سالمين

إعجاب

اترك رداً على جاسم محمد إلغاء الرد