سُئل مرة الكاتب الفرنسي أندريه موروا: هل جميع الروائيين مجانين أو عُصابيون؟
فأجاب موروا : «لا، الأصح أن نقول انهم كانوا سيصيرون جميعهم عُصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين. فالعُصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه». بموازاة ذلك، يقول الفيلسوف نيتشه: «دائما ما يوجد في الحب بعض الجنون، لكن دائما ما يوجد في الجنون منطق أيضا».
عند محاولة الوقوف أمام هذين القولين، نجد أن خيطا رفيعا يمتد بينهما، يتلون بحسب الظرف الكائن لكلا المبدع والمحب. فكلاهما، أو هو معا، يتشكل عبر فن ما، يكتسب وجوده في الحالة التي يمر بها الإنسان، بعدما أشبع بطاقة كونية هائلة، سرها ذرة صغيرة تفجرت في داخله مسببة هذا الانفجار الهائل من العاطفة والأحاسيس. فهل سبق ذلك دربة ما، أم أن الفطرة سلقت صاحبها منذ نعومة أظفاره؟
عرّف أحد الكتاب الانكليز الإبداع بأنه نتيجة التعب والجهد بنسبة 99 في المئة ونتيجة الإلهام بنسبة 1٪ في المئة فقط. فكل فنان في مجاله، غالبا ما يقف محتارا أمام بياض/ فراغ لوحة أو صفحة العمل المراد انتاجه وابداعه، ولا يمكن انجاز ما يريد إلا بعد وقت وجهد كبيرين.
يقول فلوبير في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه: «لقد داخ رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجوه ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها… إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب».
طرحنا في مناسبة سابقة، ما قاله الشاعر رامبو بأن الحب، كما نعلم، يجب أن يُبتكر من جديد. فكيف يُبتكر؟
بالفن نبتكر ذلك، حيث يحتوي لك الدفء، ويحمل لك الشمعة التي توقظ قناديل الطريق من تثاؤب الانتظار، ليستعبد الضياء قسوة الظلمة الموحشة في مكمن المشاعر ويحيلها جمرة شوق وشغف وشبق لا يستكين، والموجة التي تجرح كبرياء صخور النفـس العنيدة بجنـون. فوحده الجنون ما يكسر القيود، ويلغي حدود المعقول والمنطق، ولو كان ثمة منطق للجنون، كما ذكر نيتشه سابقا، فهو في الجنون ذاته كملاذ أخير للعبور للحياة أو منها.
فربما يكون الإبداع ضربا من الجنون، وقد يكون عُصابا يجد الشخص المريض به علاجه بالكتابة أو الفن حتى يستفرغ ما بداخله من أخطاء الماضي أو يهرب منها متخفيا بهالة الإعجاب من الآخرين حتى يجد ذاته ثانية، ويودعها الثقة من جديد.
وأختم بما قاله قاسم حداد:
سينال منك الجنون/ ما دام الأسلاف يرصدونك/ ويجمعون لك القرائن/ ليروك في الأخطاء./ جنونٌ تظن أنه نصـك الحصين/ فيما ترى نصلاً في الحنجرة/ والكتاب بيتك الأخير./ جنونٌ لك/ تناله و ينال منك.
أسلافٌ من الصـلد وفساد الروح/ لا تأمن ولا تأخذك غفلة عما يصفون./ جُنّ عليهم/ فليس فيهم من يرأف بك، ولا يسمعون لك/ ولا يريدون الحجة، وعلى مضضٍ يـقصلون.
أسلاف لك وأنت وحدك/ ينتخبونك مثل خصوم الله/ عدواً تتكفل به النقائض.
فهد توفيق الهندال


One reply on “جنون الإبداع”
الحياة مرح والعمل رغبة والحب شغف اذا اردت ان تمتلك الحياة الدنيا
إعجابإعجاب