بعد عدة أعمال روائية وقصصية ونصوص مشتركة ، قدّم فريد رمضان عدة تجارب في كتابة السيناريو السينمائي ، موازيا في ذلك هاجسه السردي ،لاسيما الروائي، ونفسه اللغوي مع عينه الراصدة / المتحركة مع الزمن في مختلف تقلبات المكان . على اعتبار أن الصورة هي علامة سيميائية ، تعتمد على الرمزية المعينة المختصرة والحية في حركتها .
يأتي فيلم البشارة the good omen لفريد إضافة لعملين سابقين( حكاية بحرينية / سكون ) في محاولة استنطاق واقع ما، ربما صمت اليوم .
يبدأ العمل في تركيزه على شخصين في الستينات من عمرهما في رحلة صيد السمك أسفل جسر يربط بين جزيرتين ، يدخلان في صمت ، ينصت فيه كل منهما لمونولوج داخلي يحاكي همه اليوم ، يشتركان في رؤية المكان الذي انقض عليه الزمان الحالي في زحف العمران باسم المدنية على ملامح المكان وغيّره ، كما هو حال ملامح وعوالم من فيه . ليشتركا في صمتهما / انصاتهما لمونولوج داخلي لكل منهما .
الأول حسين ، يتحدث مع نفسه عن أولاده الذين تركوه وحيدا في بيته القديم ، والثاني جاسم يحادث زوجته الراحلة ، والرابط المشترك بينهما المكان / الزمان .
اعتمدت الصورة السينمائية على عدة نقاط نجدها جديرة في الملاحظة والرصد من باب الانطباع وليس التخصص النقدي السينمائي على الآتي :1- الزمان / المكان : حيث ركزت على مفارقة الملامح بين الحي الشعبي والمباني العمرانية الجديدة المتمثلة في حضور ناطحات السحاب مقابل المقهى الشعبي الوحيد الساكن على الضفة القديمة من البحر بما يعادل الانكسار / التوحد الروحي الداخلي لشخصيتي العمل ( جاسم و حسين ) .
وهو ما حرص عليه رمضان في دقة رسم الصورة بوصف المشاهد في السيناريو من خلال تقسيمه المشهد ما بين المكان / الزمان ، وتحديد موقع التصوير داخلي / خارجي . 2- الواقع : اعتمد على الشكل الاجتماعي في علاقة الماضي مع الحاضر والعكس ، مما يرسم أبعادا أخرى تتشكل في الجوانب الاقتصادية / التاريخية / السياسية / النفسية / الثقافية ، كما يظهر في المقابلة بين ملابس الأب والأبن ، ومدى تقبل الجيل القديم للعصرية وتطورها ، وعدم استساغة طعمها المختلف عن القديم كما هو في طعم الشاي / القهوة / ملة التمر والبخور .
إضافة لذلك ، العلاقة المبتورة بين الأحفاد والأجداد ، كما هو المشهد الجامع بين جاسم (الجد) و حفيده الذي أدار له ظهره ، ولاهي عنه بحديث عبر الماسنجر بواسطة جهاز اللابتوب ، بينما الجد يسرد قصة اعتقاله من قبل الانجليز في فترة ما من تاريخ البلد .3- الحوار : اعتمد رمضان على الحوارات القصيرة ، لنوعية الفيلم من فئة الأفلام القصيرة . وبرغم اعتماده اللهجة البحرينية ، إلا أنه قابل لأن يشمل كل مجتمع إنساني يعاني مثل هذا الشرخ بين جيلين أو عدة أجيال نتيجة مرور الزمن وتغير المكان ، دون أن تعيق اللهجة أو اللغة حدود العمل . 4- الشخصيات الدرامية : اعتمد رمضان على شخصية جاسم ( الفنان عبدالله ملك ) في إدارة السرد حولها ، إضافة لشخصية حسين ( الفنان أحمد عيسى ) كدور مساند وكلاهما يمثلان وجهة نظر الماضي ، في حين جاء الإبن محمد ( الفنان جمال الغيلان ) مقابلا لهم في التناقض حيث التطور والتقدم والواقع المعاش الآن . أما شخصية الأم الراحلـة ( الفنانة مريم زيمان ) فكان لها دور أساسي في استنطاق البيت القديم مكانيا/ تاريخيا/ اجتماعيا . واعتمد رمضان على مخيلة جاسم في استحضارها والحوار معها . واللافت أنه بعد وفاته ، ليترك مهمة حضورها في مخيلة صديقه حسين الذي أدار حوار معها في نهاية الفيلم وسؤاله لها عن سبب تأخرها عن زوجها الوحيد المغترب في حياته بعدها . 5- وجهة نظر الفيلم : جاءت منحازة للجيل القديم في بصيرته وكفاحه لبناء المدينة التي جحدت بحداثتها كل علاقة معه ، والكفاح هنا لم يقتصر على لقمة العيش عبر مهن البحر القديمة ، وإنما مقاومة المستعمر للحفاظ على استقلال الأرض ، وهو ما عبر عنه جاسم في رمزية البشارة (ثوب النشل ) عندما رفعته زوجته الراحلة وقتما خرج من سجن المستعمر ، ليرفعه بدوره عندما شعر بوقت رحيله إليها .
بدأ الكاتب العمل وأنهاه بموال شعبي للشاعر البحريني حسين بو رقبة وأداء منفرد للفنان البحريني الراحل علي بحر يقول فيه :
نيران قدر الدهر توقد في قلبي بحر
وعليّ سِلَّتْ سيوف الماضيات وبحر
الناس في ظلهم وربعي بشمس وبحر
من حيث أهل الوفا ما عاد فيهم وصل
وانقص حبل الرجا منهم فلا له وصل
لو كان بالسِّيفْ قطعت الاعادي وصل
لا شك في جزيرة حايطٍ عليّ بحــر
والموال من الفنون الشعبية التي اندثرت تقريبا من المنطقة ، بسبب طغيان الثقافة الجديدة ، وما كان من رمضان أن يبدأ الفيلم وينهيه به إلا دلالة على تلاشي تلك الروح القائمة سابقا بين الإنسان والبحر ، حيث تحالف القدر والبشر وأيضا البحر في علاقته الماضية مع الإنسان في ذلك المكان.
وبهذا تحقق الصورة خلود السرد والقص عند فريد .
فأتمنى أن تكون هذه القراءة بمنزلة مشاركة بسيطة لتخليد ذكراك يا فريد في عام رحيلك الأول.
فهد توفيق الهندال
المقال منشور مطولا في مجلة العربي عدد نوفمبر 2014 ضمن سلسلة أعلام الثقافة العربية



2 replies on “فريد رمضان.. خلود الصورة”
مقال رائع لفيلم خالد في ذاكرتنا.
شكرا فهد . الانسان ، الفنان، فريد رمضان ، تخلده أعماله بعد رحيله عنا.
إعجابإعجاب
التفاتة رائعة للزمن المنسي
حقا انه هم عالمي زحف المدنية نحو الريف واستبدال رائحة الورد والقداح برائحة عوادم السيارات.
إعجابإعجاب