التصنيفات
مدونتي

التلقي كفعل معرفي: فضاءات القارئ ضد سلطة النجومية



تعدّ نظرية الفضاءات الذهنية (Mental Spaces Theory) التي بلورها جيل فوكونييه Gilles Fauconnier  إحدى أبرز المقاربات المعرفية في تحليل اللغة والخطاب. تنطلق هذه النظرية من أن العقل البشري لا يتعامل مع المعنى تعاملًا مباشرًا، بل يُنشئ أثناء القراءة أو التواصل مجموعة من “الفضاءات” المؤقتة التي تتفاعل فيما بينها لتكوين الدلالة. فالفضاء الذهني ليس مجرد صورة ذهنية، بل بنية معرفية نشطة تتكوّن من العلاقات، والتمثيلات، والنماذج الثقافية، والخبرات السابقة التي تتفاعل داخل ذهن المتلقي. وبهذا يصبح الفهم عملية بناء مستمر، وليست استرجاعًا لمعنى جاهز في النص أو الواقع. من هنا، تُعدّ القراءة وفق هذه النظرية فعلًا توليديًا يتداخل فيه النص مع أنساق الثقافة ومع التجربة الذاتية للقارئ، بحيث تتحول عملية التلقي إلى بناء دلالي دينامي لا ينفصل عن البنية المعرفية للشخص.

في ضوء هذا الإطار، يصبح اختيار القارئ لكاتبه المفضل حدثًا معرفيًا مركّبًا، لا تحكمه المعايير الظاهرية أو الحراك الجماهيري، بل تحدده طبيعة الفضاءات التي يتيحها النص وقدرته على الاشتباك مع فضاءات القارئ وإعادة تشكيلها.
ويتجلّى تأثير نظرية الفضاءات الذهنية في فهم آليات اختيار القارئ لكاتبه المفضل من خلال وعيٍ بنائي يعتمد على التفاعل المتعدد الطبقات بين النص والبنية الإدراكية للقارئ. فالقارئ لا يقارب الكاتب بوصفه كيانًا واقعيًا ذا حدود واضحة، بل يصنع عبر القراءة “كاتبًا ذهنيًا” يتشكّل من جملة الأساليب، والصوت السردي، ونظام القيم الذي يستنبطه من النص. هذه الصورة الذهنية هي نتاج تفاعل فضاءات متعددة، فضاء للنص، فضاء للذات، فضاء للخبرة الثقافية، فضاء للذاكرة، وفضاء للتوقعات. وعندما يحدث تداخل بين هذه الفضاءات بطريقة تمنح القارئ إمكانات تأويلية مفتوحة، يتقدّم الكاتب ليغدو “مفضّلًا.

تبرز هذه العملية جليًا في علاقة القرّاء العرب بعالم نجيب محفوظ، حيث يتشكل فضاء قارئه من بنية ثقافية متخيلة للحارة المصرية، ومن طبقات اجتماعية ونفسية تتداخل مع خبراته الذاتية. فشخصيات مثل سعيد مهران أو كمال عبد الجواد لا تُقرأ بوصفها محض بناءات تخييلية، بل تتحول إلى وسائط معرفية يدخل من خلالها القارئ إلى فضاءات أسئلته ومشكلاته وتمثّلاته للعالم. وهو ما يفسّر استمرار محفوظ في إنتاج قرّاء جدد حتى بعد عقود من كتابته.

ويمكن تطبيق المنطق نفسه على تلقي أعمال الكاتب الروسي دوستويفسكي، إذ لا يتم اختياره ككاتب مفضل بسبب مكانته الكلاسيكية أو حضوره الطاغي في المقررات الأكاديمية، بل بسبب شدّة كثافة فضاءاته النفسية والأخلاقية التي يجد القارئ ذاته فيها. فـ”راسكولينكوف” ليس شخصية تُقرأ، بل تُعاش داخل الفضاء الأخلاقي للقارئ، حيث تتفاعل أسئلة الذنب، والعقاب، والضمير، والسلطة مع منظومة القيم الذاتية الداخلية، ما يجعل التلقي فعل حضور وجودي لا مجرد متعة سردية.

ومن جهة أخرى، يبرز “فخ النجومية” بوصفه آلية تُعطّل الفضاءات الذهنية الحقيقية وتحلّ محلّها فضاءات دعائية مُنتجة خارج النص. فالقارئ قد ينجذب إلى كاتبٍ ما لأنّه “ظاهرة” تسويقية، لا لأن نصّه قادر على بناء فضاءات معرفية جديدة. وتظهر هذه الظاهرة في السياق العربي في بعض الروايات ذات الرواج التجاري السريع التي تُبنى شهرتها على تسويق اجتماعي لا على كفاءة سردية؛ إذ يجد القارئ نفسه أمام نصوص ذات فضاءات مغلقة لا تتيح سوى استهلاك مباشر. وينسحب الأمر على الأدب العالمي عبر نماذج مثل دان براون أو باولو كويلو اللذين يُستقبلان عبر هالة جماهيرية قد تطغى على قيمة نصوصهما، على خلاف كتّاب مثل ألبير كامو أو ساراماغو الذين، رغم أدنى حضور إعلامي، يقدّمون فضاءات معرفية شديدة العمق تسمح للقارئ بخلق طبقات دلالية متجددة ترتبط بمسائل الوجود والمعنى والعقل.

إن اختيار الكاتب المفضل بعيدًا عن هذا الفخ لا يتحقق إلا عندما تُبنى علاقة تأويلية بين النص وفضاءات الإدراك، أي عندما يتحول النص إلى بنية محفّزة للوعي، تولد فضاءات من الممازجة بين الذات والآخر، قد تتخذ من الزمن والوعي مادّتَين لإنتاج فضاءات تأملية مفتوحة، مؤسّسةً بذلك علاقة تتجاوز سطح السرد إلى بنية ذهنية دائمة التفاعل.
تُبرز نظرية الفضاءات الذهنية أن اختيار الكاتب المفضل هو فعل تأويلي يتجاوز حدود الذائقة السطحية ليغدو حدثًا معرفيًا يتأسس على تفاعل مستمر بين النص والبنية الإدراكية للقارئ. فالكاتب العظيم ليس هو الذي يهيمن على المجال الإعلامي، بل هو الذي ينجح في إنشاء فضاءات ذهنية قادرة على التجدّد داخل القارئ، وتوسيع أطر فهمه، ومنحه أدوات جديدة لإعادة إنتاج العالم. وفي المقابل، يكشف فخ النجومية عن هشاشة الاختيار القائم على الضجيج، لأنه لا يتيح للقارئ سوى فضاءات مستعارة. إن القيمة الحقيقية للنص الأدبي لا تُقاس بما يحققه من انتشار، بل بما يحدثه من تحوّل داخلي في الذهن؛ فالأدب الذي يُقرأ ليُبنى لا ليُستهلك هو وحده القادر على البقاء في الذاكرة الثقافية، وعلى تشكيل كاتب مفضّل لا يُراد لقيمته أن تُستمد من شهرة عابرة، بل من فعله المعرفي العميق.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

كيف وصلوا؟ “فن حضور الأديب أمام نصّه”

لاحظت في معرض الكتاب هذا العام، حضور عدد من الكتّاب بشكل يومي إلى مقر دور نشر كتبهم، في سبيل التحاور مع القراء حول أفكارهم في اصداراتهم. وهنا، قد يعتقد رأي أن وظيفة الكاتب الكتابة فقط وليس التسويق لكتبه، ويعتقد الرأي الآخر أن ذلك ليس نقصا من مكانته ولا خروجا عن دوره ككاتب، بل استكمالا لوجوده ودعما لكتبه.

قديما، يُعدّ الجاحظ واحدًا من أوائل الأدباء الذين فهموا أن النصّ وحده لا يكفي، وأن الكاتب لا بدّ أن يعرّف الناس بمشروعه الفكري. فلم يكتفِ الجاحظ بتأليف كتبه، بل كان يسعى لنشر أفكاره بشتى الوسائل المتاحة في عصره. فكتب الرسائل، وناظر، وجلس في الأسواق، وقدّم كتبه للوجهاء والأمراء، بل شرح لماذا كتب هذا وذاك، وما الهدف منه، وكيف ينبغي للقارئ أن يتلقاه. كان واعيًا بأن الأدب يحتاج إلى حضور صاحبه. من أشهر الأمثلة أنه كتب مقدّمات طويلة لعدد من كتبه يبرّر فيها اختياراته ويعرض رؤيته ويخاطب القارئ مباشرة، وكأنه يقول:
“أنا هنا لأقدّم أدبي، ولأكون مقدمته الأولى.”

وقد ساهم هذا الأسلوب في انتشار كتبه في أرجاء العالم الإسلامي، حتى قيل إن كتبه كانت تُنقل على ظهور الجمال من بغداد إلى مصر والأندلس.

وقبل الجاحظ بقرون، أدرك النابغة الذبياني أن الشعر يحتاج إلى صوت صاحبه. إذ كان يدخل سوق عكاظ ويقرأ شعره بنفسه، يتحدّث عنه أمام القبائل، ويشرح معانيه ويدافع عن قصائده.
لم يكن شاعرًا صامتًا، بل كان واجهة شعره، واعيًا بأن القصيدة تكتمل حين يسمع الناس صاحبها ويعرفون ملامحه وقصته.
ولهذا صار اسمه رمزًا للفصاحة، تتناقله الأجيال.

وفي تجارب كبار الكتّاب بعد قرون ما يؤكد هذه الحقيقة.
فشارلز ديكنز رائد “الجولات القرائية”، كان يسافر لقراءة فصول من كتبه أمام الجمهور، وبيعت بفضله طبعات هائلة من رواياته.
واستفاد جورج برنادشو من المسرح والصحافة ليشيع أفكاره، ويجعل كتبه جزءًا من الجدل العام، مما زاد انتشارها.
عربيا، نجد جبران خليل جبران الذي روّج لأعماله عبر المحاضرات في بوسطن ونيويورك، ومن خلال “الرابطة القلمية”. كان يكتب رسائل مفتوحة ويشارك القراء مراحل كتابة.

 ولم يكتف عميد الأدب العربي طه حسين بالكتابة، بل قدّم نفسه محاضرًا ومحاورًا وناقدًا، فلم يعتمد على نصوصه وحدها، بل استخدم الصحافة، والمحاضرات، والبرامج الإذاعية لينشر أفكاره. كان يتحدث عن كتبه قبل صدورها وبعدها، ويشرح رؤيته ويناظر، فصار اسمه مرادفًا للنهضة وأدبها.

ونجيب محفوظ، رغم هدوئه وطبعه المتحفظ، ظل حاضرًا حين يستدعي الأمر، يمهّد لأعماله بالحوار والتفسير ويتيح للقارئ فرصة الاقتراب من عالمه السردي.

وفي الخليج، نجد غازي القصيبي نموذجًا للأديب الذي حمل مشروعه بوضوح، وكتب عنه، وتحدّث بشأنه، وخلق سياقًا يعرّف القراء بما يريد قوله قبل أن يقولوه هم عنه.

كذلك أمين معلوف الذي يدرك دائمًا أن الكتاب حين يُطلق إلى العالم يحتاج إلى ضوء مرافق يوضّح مساره ويهيّئ قارئه.

ولا يختلف المشهد عالميًا. فعلى الرغم من ندرة ظهور هاروكي موراكامي، إلا أنه حين يصدر عملًا جديدًا يتحدث عنه بعمق، ويكتب يومياته عن الكتابة، ويهيئ جمهوره للدخول إلى عالمه. بينما جعل باولو كويلو من التواصل الإجتماعي جسرًا يصل به إلى قرّائه ومعجبيه. هؤلاء لم يكونوا مؤثرين، بل كانوا أصواتًا واقعيّة لمشاريع ملموسة.
إذن، لم يعد بالإمكان اليوم أن يكتفي الكاتب بالانعزال والاكتفاء برمي نصّه في البحر منتظرًا قارئًا يصله صدفة. فالعلاقة بين الأدب وجمهوره تغيّرت؛ فالنصّ مهما كان راسخًا وعميقًا يحتاج إلى من يقدّمه ويهديه إلى الناس.  والدعوة هنا إلى أن يكون الأديب واجهة مشروعه لا تعني أن يتحول إلى “بلوغر” أو “إنفلونسر”، بل أن يعي أن مشروعه الإبداعي يحتاج إلى حضور يليق به وأن صوت الكاتب هو الامتداد الطبيعي لصوت النص.
هذه التجارب ليست ترفًا بل ضرورة. ففي عالم يزدحم بالأصوات والاهتمامات، يصعب على النصّ أن يعلن عن نفسه وحده. والكاتب الذي يتوارى خلف العزلة يترك نصوصه وحيدة في زحامٍ لا يرحم. ليس المطلوب أن يبحث عن الشهرة، ولا أن يركض خلف “الترند”، بل أن يمنح مشروعه الحد الأدنى من الحضور الذي يسمح للقارئ برؤية ما يكتبه حقًا. فالقارئ يريد أن يشعر بأن هناك إنسانًا يقف خلف النص، صاحب رؤية وملامح وتجربة، لا مجرد كتابٍ صامت على رفّ بارد.
إن الكاتب الذي لا يقدّم نفسه يترك الباب مواربًا، ويعرض مشروعه لأن يضيع بين الأعمال المتراكمة. والكتابة اليوم ليست مجرد نصّ، بل مشروع حياة يحتاج إلى حضور صاحبه. ولعل أجمل ما في الأمر أن هذا الحضور لا يتطلب ضجيجًا، بل يكفيه أن يكون صادقًا، متوازنًا، متسقًا مع روح النصّ.
وهكذا يصبح الأديب واجهة أدبه ليس لأنه يسعى إلى الضوء فحسب وهذا حقّه، بل لأن العمل الجيد يستحق من يحمله إلى الضوء. فالنصّ الذي لا يجد من يعرف الناس به، كثيرًا ما يظل مختبئًا في الظل ولو كان عظيمًا. ويبقى الكاتب، في نهاية الأمر، هو الجسر الذي تعبر عبره كتبه إلى قلوب القراء.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

في غابة السؤال: قراءة في صحوة الأقدمين

في كتابه (6 نزهات في غابة السرد)،
يستعير أمبرتو آيكو، الروائيّ والسيميائيّ الإيطاليّ، صورة الغابة لوصف فعل القراءة، بوصفه رحلةً معقّدة تعبر طبقاتٍ متشابكة من العلامات والدلالات. فالغابة عند آيكو ليست فضاءً للمشي فقط، بل مجازٌ للتيه المنتج؛ ذلك التيه الذي لا يفقدنا الطريق بقدر ما يفتح أمامنا دروبًا جديدة، ويسائل يقيننا عمّا نعرفه، وكيف نعرفه، ولماذا نعرفه.
هكذا استرجعت غابة ايكو في قراءتي لرواية (صحوة الأقدمين) للكاتب حسين علي غلوم.
ربما ما شدّني للرواية ما صرّح به كاتبها قبل نشرها بالحرف:
“الآن الرواية جاهزة للطباعة، ولكن ربما بسبب ما تحتويه عملية كتابتها من انفتاح على اللغة وما ورائها، مع استمرار صناعة النشر في العالم العربي في جموده وعدم إنصافه للكاتب، لا يمكن لهذا النص بكل ما ضخ به من طاقة تأويلية أن يكون أسيرًا للجمود وخادمًا لعملية لا تنصف الكاتب، وهذا الأمر بالإضافة للموقف المبدئي ضد الظلم جعلني أرفض عرضًا لنشره مع دار نشر كويتية، كان ممثلها غاية في الاحترام إلا أنني لم أستطع أن أنتزع منه أي كلمة تدل على الرغبة في التغيير الحقيقي لواقع النشر غير المنصف.”
فقد أثار لدي الفضول أكثر من الرواية ذاتها، مما جعلني في هوس كبير لاقتنائها وقراءتها، فطلبتها من موقع سديم، الذي خصصه الكاتب لبيعها. وهنا ثمة سؤال يفرض ذاته:
هل يمكن أن يخوض الكاتب غمار مغامرة بجهود ذاتية مستقلة، معتمدا على ذائقة المتلقي لا بروباجاندا وتسويق دور النشر، لا سيما الكبيرة، حفاظا على منتجه وأصالة إبداعه دون وصاية؟
هل سيكون النشر المستقل ملاذ الكتّاب في عالم بات النشر فيه تجاريا بحتا ووفق احتياج السوق؟
كان علي أن أدخل عالم الرواية، لأبحث عن اجاباتي.
الرواية أو بالأحرى النوفيلا، لايمكن هضمها بسهولة برغم قصر عالمها الضمني، واقتصارها على مستويين سرديين، كان سليمان فيها متلفظا في مستواه السردي الأول في داخل الكراسة، ومسرود عنه في مستواه السردي الثاني فيما تناقلت الأخبار عن سر اختفاءه، والتعريف المتأخر قصدًا بشخصية سليمان، واعترافات أو بوح عبدالعزيز عن ابن خالته سليمان، وإن لم تكن مجزأة فصليا.
تسرد الرواية الغموض الذي لفّ حول كراسة وجدها السارد الأول غير المسمى لكوننا داخل النص، سواء كان المؤلف أو غيره، برغم المكان الذي شخّصه بأسمائها مواقعه. فهذه الكراسة  مخطوط يوميات شخصية، تبحث عن تاريخ خاص بها بين تاريخ الطبري وغيره من المؤرخين. ليتتبع السرد فصوله بتلفظ صاحب الكرّاس مع تدوين السارد لمداخلاته في الهامش، ويمضي الكراس متلفّظا بأسماء شخصياته، الواقعية والغرائبية باحثا نحو حقيقة وحيدة ثابتة، نافية للريبة والشك:
” لا أعلم ما الذي يجعل البعض أو يدفعهم نحو العبث مع الثابت الوحيد في هذا العالم؟ الحقيقة الوحيدة في بحر الريبة. اليقين الأوحد. الموت.” !
ليتابع السارد توكيل المخطوط بتلفظ صاحبه (سليمان) بحثا حول حقيقة ذلك، وما ارتبط به من الغيبيات والغرائبيات، وخليط فلسفي روحاني ميثولوجي، مستعينا على معرفة عميقة في موروث أسطوري وأسماءه (آزاثوث)، (كثولو) وغيرهما، ما يدل على قراءات شتى عميقة في هذه العلوم ومجالاتها.
تحمل الرواية النوفيلا سؤالا حول ماهية الوجود، وما يمكن أن يستدل على أسبابه، مكوناته، أسراره، عجائبه ورعب اكتشافاته. فالحقيقة قد تكون صادمة، لكنها المبرر الضائع حول تفسير ما يحدث حولنا، لأصل نزاعات الإنسان بعدالخلق الأول.
من أراد قراءة (صحوة الأقدمين) للكاتب حسين علي غلوم، عليه أن يتابعه أولا، للتعرف على أفكاره المُتعبة في جريها المستمر نحو سر ميلاد الإنسان، فكريا، جسديا، أسطوريا، عقائديا، فربما ثمة خيوط تشترك، تتعاقد، تتشابك، تكوّن عقدتها المستحيلة على حلها دون التمهيد.
لقد أثبت حسين علي غلوم، عبر هذا العمل، أن النشر المستقل ليس مجرد خيار ضد مؤسسةٍ متكلّسة، بل موقف إبداعي يعيد للكاتب حريته، وللنص صوته، وللقارئ دوره في صناعة المعنى. وهنا تتجلى أهميته ليس بصفته نُوفيلا غامضة فحسب، بل بوصفه إعلانًا عن إمكانية أخرى للكتابة، أكثر توترًا وصدقًا، وأقرب إلى روح المغامرة التي فقدها كثير من الأدب الحديث.
لهذا لا تمنح الرواية إجابات مكتملة، لأنها ليست معنية بإغلاق الباب، بل بفتحه على مصراعَي الأسئلة الكبرى التي تُرعب الإنسان وتفتنه، حول الخلق، الوجود، الموت، والبحث الدائم عن ذلك الخيط الخفي الذي يشدّنا إلى أصلٍ لا نعرفه ولا نكفّ عن الحنين إليه.
لذلك.شخصيا، كنت اقرأ عشر صفحات وأعيد قراءتها ثانية، وربما ثالثة لكي استطيع الوقوف على أرضية مشتركة مع النص وكاتبه.
فليست صحوة الأقدمين روايةً تُقرأ بطمأنينة، ولا نصًا يسمح للمتلقي بالانزلاق فوق سطحه دون مقاومة. إنها عمل يتطلّب عبورًا حقيقيًا في «غابة السرد»، كما أراد آيكو—غابة لا تكشف دروبها إلا لمن يقبل المشي فيها بلا توقعات جاهزة، ويمنحها سعة الشك والصبر، ويستسلم لندائها الداخلي. فالنص، بقدر ما يقدّم حكاية، يزرع أسئلة، ويُربك الحدود بين المدوّن والنص، بين التاريخ والميثولوجيا، بين الكائن الباحث والمجهول الذي يبحث فينا.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

وجوه صاحبة الجلالة

بدأت قبل مدّة بقراءة رواية «سبعة» للأديب الراحل غازي القصيبي، فشدّتني منذ الصفحات الأولى بسردها الهادئ الذي يُخفي وراءها اضطرابًا إنسانيًا عميقًا. في رواية القصيبي، تتقاطع سبعة وجوه بين الخطايا والأوهام، لكن الوجه الذي ظلّ راسخًا طويلاً كان وجه الصحافي مسعود أسعد.
إذ يمشي مسعود في دهاليز المهنة كمن يسير في متاهة من المرايا، يرى في كل انعكاس ملامحه تتبدّل. فلم يقدّمه القصيبي كخائن للمهنة، بل ككائن يُهزم ببطء، كمن يكتشف أن الكلمة قد تُشترى في الطريق قبل أن تصل إلى الورق. يظهر التردّد في لغته مثل نَفَسٍ متقطّع بين جملٍ طويلةٍ مثقلةٍ بالضمير. فليس مسعود أسعد مجرد رئيس تحرير صحفي، بل هو ضمير يتعلّم الخيانة على مهل، فيتحول صوته من نبرة البحث عن الحقيقة إلى البحث عن الفضيحة، كما لو أنه فقد صلته الأولى بالنار التي أوقدته.
أثناء قراءة الرواية، تذكرت مشاهدتي  لفيلم The Post كنموذج آخر لمهنة المتاعب، إذ لم يصوّر ستيفن سبيلبرغ غرفة التحرير كمكانٍ عادي، بل كخيمةٍ عسكريةٍ يخوض فيها الصحافيون حربًا بوسائل الورق والحبر. الضوء هنا بطلٌ موازٍ؛ يتسرّب من النوافذ على الوجوه المتوترة كأنه يُنقّب عن الحقيقة في العتمة.
فكاثرين غراهام، التي أدّت دورها ميريل ستريب، ليست ناشرة فحسب، بل امرأة تواجه عالم الرجال لا بالسلاح بل بالكلمة، امرأةٌ تتعلّم في منتصف العمر أن الشجاعة قد تأتي متأخرة لكنها تأتي مكتملة. خلفها مجلس إدارة من الرجال يتصارعون بين فكرة النشر كوسيلة ربح، أو الابتعاد عن أي خسارة محتملة بسبب النشر أيضا. ولعل شخصية بن برادلي التي أدى دورها توم هانكس في حماسها لنشر أكاذيب الحكومة الأمريكية حول حرب فيتنام، هي أقرب من مسعود أسعد في السعي نحو المجد الشخصي لا المهني.
مقابل شخصيتي مسعود أسعد و بن برادلي، استدعيت من ذاكرتي شخصية محفوظ عجب في رواية «دموع صاحبة الجلالة» للكاتب موسى صبري، فمحفوظ هنا  ليس فارسًا يطارد الحقيقة، بل صيّادًا يترصّد ثقة الآخرين به، بحثا عن القمة والسلطة، متسلقًا مستغلًا كل فرص ذلك حتى لو كلفه ذلك خيانة ثقة آمال صدقي، زميلته الأقرب، من ساعدته في بداية مشواره، من أظهر لها الحب وأضمر مصلحته وراء ذلك.
ليقف على حافة الأضواء أو الهامش، ولا يعرف أيّهما يخصّه أكثر. فهو الوجه الذي خسر المعنى حين صار للمعنى ثمن.
بين تلك الوجوه، يقف مسعود أسعد في المسافة البينية. فلا مثالية The Post السينمائية، ولا واقعية دموع صاحبة الجلالة الدرامية. هو مجرّد إنسانٍ يحاول أن يكتب بمهنية في زمنٍ يبيعها بالعناوين. ففيه طموح  كاثرين غراهام حين تكتشف أن الكلمة قد تكلّف إمبراطورية، وفيه أنانية بن برادلي،  وقسوة محفوظ عجب حين يكتشف أن الصعود لعرش صاحبة الجلالة أكثر ربحًا وأغلى من دموعها.
جاءت شخصية مسعود أسعد مكتوبة بلغةٍ تقترب من لغة اعتراف جمعي، إذ يذوب الحوار في التأمل، وتمشي الجملة على نصل الحقيقة. ليجعل منها القصيبي صوتًا داخليًا للرواية، كأنّ كل الشخصيات الأخرى وجوها له أو احتمالاتٌ لنجاته.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

“تأصيل” السرد التاريخي لدعم الوجود الفلسطيني


في حوار مسجّل ومصوّر بين المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد وبعض السيدات الفلسطينيات، وسؤاله لهن: ” هل يجب أن يحبّنا الغرب؟” فردت احداهن بكل عفوية: “ولماذا لا يحبّونا مثل ما يحبوا الاسرائليين ويدعموهم لقتلنا”!

من فجر الصراع العربي الصهيوني، لم تكن المعركة حول فلسطين عسكرية أو سياسية فحسب، بل وأصبحت اليوم معركة مصير سرديات قديمة وأخرى جديدة، في من يملك الحق في رواية التاريخ؟ ومن يملك سلطة تعريف الأرض والهوية؟

لقد استخدمت الحركة الصهيونية منذ بداياتها خطابًا تاريخيًا وأثريًا لتبرير «حق مزعوم» في الأرض، معتمدة على إعادة تفسير النصوص الدينية، والبحث الأثري الانتقائي، وصناعة صورة الفلسطيني بوصفه غائبًا أو عابرًا. هذه ليست أخطاء عابرة، بل بروباغندا معرفية ممنهجة.
ويمكن العودة لكتاب (اختلاق اسرائيل القديمة واسكات التاريخ الفلسطيني) للايرلندي كيث وايتلام. للوقوف على الاساطير القديمة والسياسات الحديثة التي دعمت ذلك الاختلاق.
لكن المفارقة أن كشف هذا «الاختلاق» لا يجب أن يقود إلى بروباغندا مضادة، بل يمكن توظيفه بشكل علمي وأخلاقي لبناء رواية فلسطينية راسخة وموثوقة.

كيف ذلك؟

يمكن ذلك بتحويل النقد إلى أدلة في الكتب والدراسات التي تكشف التلاعب بالتاريخ (مثل كتاب اختلاق إسرائيل القديمة) تقدّم مادة ثمينة. بدل الاكتفاء بالاحتجاج بها، يمكن تلخيصها بلغة مبسطة، ترجمتها وتعميمها، وهو ما استفادت منه الأجيال الجديدة في استعمالها في،وسائل التأثير الاجتماعي العالمية، واستخدامها في المحافل الحقوقية والإعلامي. مما أثّر في وعي شعوب العالم، التي،بدورها دفعت حكوماتها للاعتراف بالدولة الفلسطينية وحق شعبها بالحياة والسيادة والاستقلال.
إن إعادة سرد التاريخ من الداخل ليس كافياً لتفنيد سرد الآخر، بل يجب تقديم سرد فلسطيني أصيل، كشهادات أهل الأرض، الوثائق العائلية، الأسماء، الحكايات، الذاكرة الشعبية، الأدب، العمارة و كل ذلك يثبت استمرارية الوجود الحضاري، وبلغات العالم المختلفة.

كذلك، ربط الأدلة بالوجدان، لكون العالم لا يقتنع بالأرقام فقط، بل بالقصص، وهو ما استفادت منه القضية الفلسطينية أثناء حرب الابادة الحالية، بأن تمتزج الحقائق التاريخية بلغة إنسانية وفنية، مثل: (أفلام، روايات، معارض، وثائقيات) تُظهر فلسطين كحياة نابضة، ومصير شعب، لا كملف سياسي جامد.
مع مخاطبة العالم بلغته، من خلال استخدام مصطلحات مثل حقيقة الاستعمار الاستيطاني وابادته المستمرة بمحو الأجيال وذاكرتها، وتسييس الآثار الانسانية. ولعل هذا يضع القضية في إطار حقوقي عالمي مفهوم، ويُخرجها من خطاب الصراع الديني أو القومي الضيق.
وتحويل المسار من الدفاع إلى المبادرة، بدل الرد الدائم على رواية الآخر، يمكن امتلاك زمام المبادرة، بنشر دراسات، إطلاق مشاريع أرشيفية، تنظيم معارض، تقديم ملفات قانونية، أي الانتقال من موقع “الضحية” إلى موقع “المنتج للمعرفة”.

إن كشف اختلاق إسرائيل للسرد التاريخي ليس غاية بحد ذاته، بل فرصة لبناء خطاب فلسطيني وقومي أكثر فاعلية يجمع بين الدليل العلمي والرمزية الثقافية والشرعية القانونية.
فالقوة الحقيقية لا تأتي من فضح الكذب فقط، بل من بناء حقيقة واضحة، موثقة، وجذّابة إنسانياً.
هذا هو مسار التأثير العميق. وهذا ما يصنع الذاكرة التي  لا تُمحى أبداً.


د. فهد توفيق الهندال

عودة

هروب

التصنيفات
مدونتي

الفكر الاستعماري: من الاستشراق إلى المرايا


حين نتأمل في خطاب “إحياء الحرب الصليبية” أو استعادة الفكر الاستعماري في صور معاصرة، فإننا لا نواجه مجرد سياسات دولية، بل نواجه أيضًا بنى فكرية ومعرفية كرّست التبعية منذ زمن طويل. هنا، يبرز دور مفكرين ونقاد مثل إدوارد سعيد الذي فضح خطاب الاستشراق والثقافة الإمبريالية، وعبد العزيز حمودة الذي نقد “النقد الغربي” عبر مشروعه الثلاثي: المرايا المحدبة (1998)، المرايا المقعرة (1998)، والمرايا المستوية (2001). ولم يكن هذا المشروع مجرد تنظير نقدي، بل محاولة لإعادة بناء هوية ثقافية عربية مستقلة في مواجهة مرايا الغرب المشوهة.

المرايا المحدبة – صورة الآخر المشوهة
في هذا الجزء، قدّم حمودة نقدًا جذريًا للنقد الغربي البنيوي وما بعد البنيوي، ورأى أنه يقدم لنا صورة “محدبة” مشوهة عن أنفسنا. تشبه هذه المرآة صورة الغرب للشرق في الاستشراق؛ تكبير للعيوب، تقزيم للذات، وتقديم الشرق باعتباره كائنًا تابعًا لا يملك أدوات إنتاج المعرفة (حمودة، 1998).
إذن العلاقة هنا واضحة مع الفكر الاستعماري، فالغرب يبرر سيطرته بادعاء أن الآخر ضعيف، وأنه يحتاج إلى “وصاية حضارية”.

المرايا المقعرة – صورة الآخر المنكمشة
يتنقل حمودة في المرايا المقعرة إلى نقد التبعية الداخلية؛ أي كيف أن المثقف العربي حين يتبنى النقد الغربي دون مساءلة، يصبح أسيرًا لمرآة “مقعرة”. ولا تكبّر هذه المرآة العيوب فحسب، بل تصغر الذات حتى التلاشي، وتجعل المثقف العربي في موقع التابع الذي لا يملك إلا أن يردد ما يقوله الغرب.
بهذا تصبح “الحرب الصليبية” ليست فقط مواجهة عسكرية، بل مواجهة معرفية حيث يُفقد العربي ثقته بنفسه ويُستدرج إلى الاستلاب.

المرايا المستوية – البحث عن البديل
حاول حمّوده في الجزء الثالث المرايا المستوية أن يرسم أفقًا لخطاب نقدي عربي مستقل. فالمرآة المستوية هي التي تعكس الذات كما هي، بلا تضخيم ولا تصغير. ويشبه هذا المشروع دعوة المفكرين المناهضين للاستعمار إلى بناء لغة بديلة تقاوم المركزية الغربية. ففي سياق “إحياء الحرب الصليبية”، يصبح هذا المسار هو السبيل لمواجهة الصورة النمطية، بأن نعيد صياغة خطابنا المعرفي والثقافي بأدواتنا الخاصة، لا بمرايا الآخرين.

تقاطعات حمودة وسعيد
فضح سعيد الاستشراق باعتباره خطاب سلطة يبرر السيطرة.
ونقد حمّودة البنية النقدية والفكرية التي تجعل المثقف العربي أسيرًا للمرايا الغربية. ليتفقا بأن الاستعمار لم ينتهِ، بل تحول من مدافع وجيوش إلى خطابات، أسواق، ومرايا فكرية.

لم يكن إحياء الفكر الاستعماري فقط باستعادة لمعركة تاريخية، بل هو إعادة إنتاج متواصلة للصور المشوهة عن الشرق والعرب. لذلم، يقدّم مشروع عبد العزيز حمودة، عبر المرايا المحدبة والمقعرة والمستوية، دروسًا بليغة، أن مقاومة الاستعمار لا تكتمل إلا عبر تفكيك المرايا المشوهة وبناء مرآة مستوية تعكس الذات العربية بأصالتها وحداثتها.
بهذا المعنى، تصبح المواجهة الثقافية والمعرفية الوجه الآخر للمواجهة السياسية، ويصبح تحرير “الصورة” شرطًا لتحرير “الأرض”.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

نقد وتحليل الخطاب الإمبريالي


يشكّل إدوارد سعيد أحد أبرز أعلام النقد الثقافي في القرن العشرين. فمنذ كتابه الأشهر الاستشراق (1978) وحتى الثقافة والإمبريالية (1993)، فتح سعيد الباب أمام جيل كامل من الدراسات التي أعادت النظر في علاقة الثقافة بالسلطة، وفضحت كيف شكّلت المعرفة الأوروبية عن الشرق والعالم الثالث أداة من أدوات الإمبراطورية.
غير أن إسهامه الأكبر تجلّى في صياغة مفهوم الخطاب الإمبريالي، باعتباره نسقًا معرفيًا ولغويًا وأدبيًا منح المشروعية الثقافية للاستعمار الغربي.

1. مفهوم الخطاب الإمبريالي

ليس الخطاب عند سعيد مجرد كلمات، بل بنية فكرية وثقافية تتجاوز النصوص لتؤسس رؤية للعالم. الإمبراطورية الغربية لم تعتمد فقط على المدافع والبوارج، بل على الرواية، الشعر، الفلسفة، والعلوم الإنسانية التي أعادت إنتاج صورة “الآخر” كموضوع للهيمنة. بذلك يصبح الأدب الغربي – من جين أوستن إلى جوزيف كونراد – جزءًا من آلة الاستعمار، وإن بدا للوهلة الأولى محايدًا أو إنسانيًا.

2. الأدب كمرآة للإمبراطورية

في رواية مانسفيلد بارك لجين أوستن، يظهر ذكرٌ عابر لمزارع السكر في أنتيغوا، وهي المزارع التي قامت على استغلال العبيد. هذا الحضور الصامت يفضح كيف كانت الإمبراطورية متجذرة في تفاصيل الحياة الأدبية اليومية.
وفي قلب الظلام لكونراد، نجد نقدًا أخلاقيًا للاستعمار، لكن من داخل مركزية أوروبية ترى أفريقيا كـ”فراغ مظلم”، وتُغيب أصوات أهلها.
ويبرهن سعيد أن الأدب الغربي هو نص إمبريالي بامتياز، ليس لأنه يمجّد الاستعمار دائمًا، بل لأنه يرسّخ مركزية أوروبا في تمثيل العالم.

3. الثنائية الحضارية: “نحن” و”هم”

يقوم الخطاب الإمبريالي على تقسيم حاد:
“نحن” الغرب: العقلانية، التقدّم، النظام.
“هم” الآخرون: العاطفة، البدائية، الفوضى.
هذه الثنائية ليست بريئة، بل هي آلية أيديولوجية لتبرير السيطرة. فالشرق، في المخيال الغربي، يحتاج إلى “وصاية” أوروبية، ما يجعل الاحتلال فعلًا “حضاريًا” في نظر الأوروبي.

4. المقاومة الثقافية وإعادة الكتابة

إدوارد سعيد يرفض أن يكون المثقف مجرد قارئ خاضع. بل يدعو إلى قراءة مضادة تكشف آثار الاستعمار في النصوص الأدبية والفكرية، وتعيد سرد التاريخ من منظور الشعوب المستَعمَرة.
من هنا تأتي أهمية ربط الأدب الغربي بأدب المقاومة في فلسطين والهند وأفريقيا، حيث يصبح الكتابة نفسها فعلا مقاوما.

5. الامتداد المعاصر للخطاب الإمبريالي

يحذر سعيد من الاعتقاد بأن الخطاب الإمبريالي انتهى بانتهاء الاستعمار الكلاسيكي. بل هو يعيد إنتاج نفسه اليوم عبر:

– وسائل الإعلام الغربية التي تهيمن على تمثيل العرب والمسلمين (خصوصًا بعد 11 سبتمبر).

– الخطاب الأكاديمي في الجامعات الغربية.

– السينما والأدب الحديثين.
بذلك، فإن المعركة مع الإمبريالية مستمرة ثقافيًا، وإن تغيّرت أدواتها.

هكذا، فإن الفكر العربي النقدي وجد في سعيد مرجعية عالمية، وفي الوقت نفسه قدّم مقاربات محلية أكثر التصاقًا بالسياق العربي. ويمكن قراءة مشروع سعيد بوصفه تفكيكًا لمفهوم الحقيقة الكونية في الفكر الغربي. فالخطاب الإمبريالي ادّعى امتلاك الحقيقة حول “العالم الآخر”، بينما في جوهره هو خطاب قوة. وهنا يلتقي مع فوكو في ربط المعرفة بالسلطة، لكنه يذهب أبعد بالتركيز على الاستعمار كتجسيد لهذه العلاقة.

إذن، الخطاب الإمبريالي الذي حلّله إدوارد سعيد ليس مجرد دراسة أدبية، بل مشروع تحرري يسعى إلى إعادة كتابة العلاقة بين الثقافة والسلطة. وهو مشروع ما يزال حاضرًا اليوم في مواجهة الصور النمطية والعنف الرمزي الذي تمارسه وسائل الإعلام والسياسة العالمية على الشرق والعالم العربي.
لإن مقاومة الاستعمار – كما يقول سعيد-  لا تبدأ بالبندقية، بل تبدأ بـ الكلمة، وبفضح كيف صيغت الحكاية ومن يملك حق روايتها.

التصنيفات
مدونتي

الفكر العربي بين نقد المفهوم والتكرار : قراءة في الندوات الثقافية



في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن العشرين، عقدت في الكويت ندوة بعنوان ( ندوة الفكر العربي المعاصر)* في أكتوبر من العام 1997. أتذكر الندوة بكل تفاصيلها، الأوراق المقدمة والمداخلات والمشاحنات التي رافقتها، في حدث استثنائي لأهمية الأسماء المشاركة، والمحاور الفكرية الجريئة التي تضمنتها، فكانت حدثا ثقافيا استثنائيا وقتها، ووعيا ناضجا بالثقافة العربية وروادّها.
استمرت الندوة لمدة أربعة ايام على فترتين، وشارك فيها عدد من المثقفين والمفكرين العرب، عولجت فيها ثلاثة محاور أساسية هي:

المحور الأول: “اتجاهات الخطاب الفكري العربي المعاصر: تقييم نقدي” ، وتوزع على خمسة أبحاث هي:
1- الاتجاه السلفي، قدمها: د. حيدر ابراهيم، د. سليم العوا، د. فهمي جدعان، د. رضوان السيد.  2- الاتجاه الليبرالي، قدمها:  د. علي الدين هلال، د. عبد الخالق عبدالله، المستشار طارق البشري، د. جابر عصفور. 3- الاتجاه القومي، قدمها: د. علي حرب ود. علي اومليل. 4- الاتجاه التوفيقي، قدمها: د. محمد جابر الأنصاري ود. ناصيف نصار. 5- الاتجاه الماركسي، قدمها: شوقي جلال وأحمد الديني.

وتضمن المحور الثاني: “إشكاليات الفكر العربي المعاصر: تقييم واستشراف”، ضمت اربعة أبحاث هي:
1- التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية وانعكاساتها الفكرية، قدمها: د. محمد السيد سعيد ود. باقر النجار. 2- اشكاليات الفكر العربي المجتمعية والسلطوية، قدمها: د. خلدون النقيب ود. أحمد أبو زيد. 3- الفكر العربي والجماهير (إشكالية النخبة)، قدمها: د. تركي الحمد ود.فؤاد زكريا. 4- الفكر العربي بين النظرية والواقع، قدمها: د. محمود أمين العالم وأياد مدني.

في حين جاء عنوان المحور الثالث: “استشراف المستقبل”، وتضمن العناوين:
1- الفكر العربي والزمن: أين نحن من نهضة مطلع القرن، قدمها:  د. السيد يسين ود. الحبيب الجنحاني.  2 -الفكر العربي والمستجدات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية في العالم، قدمها: د. اسماعيل صبري عبدالله ود. رمزي زكي. 3- الفكر العربي وجدلية التقدم والتأخر، قدمها: جورج طرابيشي ود. محمد الرميحي.
تخيّل معي هذه الأسماء الجليلة والأوراق التي قدموها، والأفكار التي طرحت، وأثارت الحوار والنقاش والجدل والخلاف حولها.
وقد نشرت الأوراق في عدد يناير من مجلة عالم الفكر العام 1998.
وجدير بالذكر، أنه سبق الندوة بعامين عددٌ خاص من المجلة العربية للعلوم الإنسانية الصادرة عن جامعة الكويت بالتعاون مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن ندوة نُظمت في عنوان مشابه، تناولت بعض المواضيع مبكرا قبل عقد الندوة، وهو أمر لا ننتقده، بل نشيد به كثيرا لكونه من جهة أكاديمية كجامعة الكويت مما يوضح دورها الطليعي آنذاك في طرح هذه القضايا. فلا ضير بأن تكمل الندوات مشاريع بعضها البعض، على خلاف اليوم. إذ أن هناك الكثير من الندوات الثقافية العربية التي تُطرح فيها عناوين كبرى برّاقة ومثقلة بالمصطلحات، لكن حين يُرفع الستار، سرعان ما نكتشف أن العنوان أكبر من المتن، وأن الطرح يراوح مكانه بين التعميم والإنشاء، دون تفكيك حقيقي، بل مجرد نسخ للمفاهيم، بلا مواجهة صادقة للأسئلة. ناهيك عن تكرار الأسماء، مما يفيد ثبات الآراء والأفكار دون تجديدهما.
سنحاول أبراز ملامح الخلل، وهي:

1. التهويل المفاهيمي:
كثير من العناوين توظّف مصطلحات فلسفية أو فكرية معقدة، لا يتم تفكيكها داخل الجلسات، وكأنها ديكور خطابي لشدّ الانتباه لا أكثر، وكأن عناوين الأوراق اجتمعت واتفقت على ذات العنوان!

2. التكرار والتدوير:
نفس العناوين تعود كل عام، بصياغات مختلفة، ولكن بالمحتوى ذاته، دون طرح جديد أو زوايا مغايرة.

3. الانفصال عن الواقع:
الندوات تناقش “الهوية” أو “ما بعد الحداثة”، بينما لا علاقة لها بتجربة المتلقي أو المبدع اليوم، ولا تقدّم توصيات أو حلول قابلة للتنفيذ.

4. غياب سؤال “لماذا؟”
إذ تُطرح العناوين من أجل الندوة، لا من أجل حاجة فكرية أو جدل مجتمعي حقيقي، فتغيب الأسئلة الجذرية وتحضر الشعارات.

5- عدم التنسيق بين الجهات المنظمة، بحيث تكون الندوات أشبه بسلسلة فكرية، تكمل بعضها البعض، وليس تغريدا في كل عنوان يهيمون، المهم سد ثغرة جدول، دون بحث في أرشيف الندوات ومحاولة امساك خيط ما من ندوة سابقة، ليكون أساس أخرى لاحقة.

نحن لا نرفض العناوين الكبرى بذاتها، بل ننتقد تحويلها إلى قوالب بلاغية فارغة بدل أن تكون مداخل لمساءلة الواقع وتوسيع أفق الفهم. فالعنوان، في الندوة كما في النص، يجب أن يكون وعدًا بالمضمون. لا بديلاً عنه.

*نقلت تفاصيل الندوة من جريدة السفير اللبنانية عدد 7834 بتاريخ 1997-10-29

د. فهد توفيق الهندال

#نقد_ثقافي #الندوات_الثقافية #خطاب_ثقافي #العناوين_الكبرى #فكر_نقدي

التصنيفات
مدونتي

جدلية الفنون في الخطاب الإعلامي الجديد



في عالم يتقاطع فيه الفن والإعلام على نحو غير مسبوق، تبرز جدلية الفنون في الخطاب الإعلامي الجديد كإحدى الإشكاليات الثقافية والفكرية المعاصرة. فلم يعد الفن ذلك الكيان المستقل الذي يعيش في صالات العرض أو صفحات الكتب، بل صار اليوم أداة مركزيّة داخل المنظومة الإعلامية الرقمية، يُعاد تشكيله باستمرار لخدمة أجندات، أو التأثير في وجدان الجمهور، أو حتى بوصفه لغة خطابية بحد ذاتها.

1. تحولات المشهد: من الجماليات إلى الوظيفة
مع صعود الإعلام الجديد القائم على التفاعلية والبصرية الفائقة، تغيّر مفهوم “الفن” من كونه تعبيرًا عن الذات أو الجماعة، إلى أداة توصل الرسائل وتبني الرأي العام. وهنا تبرز إشكالية: هل ما يُنتَج اليوم فن، أم دعاية؟
قد يجيب مارشال ماكلوهان، المفكر الكندي في وسائل الإعلام:
“الفن هو رادار المجتمع، يكشف عنه قبل أن يعي هو ذاته ما يحدث.” وهذا يكشف كيف بات الفن مستبقًا لتحولات الواقع، لكنه حين يدخل دائرة الإعلام يتحول أحيانًا إلى أداة استهلاك لحظي، لا كشف مستقبلي. ورغم جاذبية الصورة الاستعارية التي يقدمها ماكلوهان، إلا أن تشبيه الفن بـ”الرادار” يحمل نزعة حتمية مفرطة. لا يكون الفن دومًا استباقيًا لتحولات المجتمع، بل في أحيان كثيرة يكون ارتكاسيًا أو حنينيًا، يعيد إنتاج الماضي أو يحاول مقاومة الحاضر لا كشف مستقبله.
كما أن هذا التصور يتجاهل البعد الفردي والذاتي للفن، باعتباره ممارسة شخصية أو حدسية، لا تُختزل في وظيفة استشرافية.


2. الفن كخطاب: هل يمكن أن يكون محايدًا؟
في عالم اليوم، تُستخدم الصور، الموسيقى، وحتى تصميم الشعارات، كأدوات إقناع أو مقاومة. ومع ذلك، لا يمكن للفن أن يكون محايدًا حين يُستخدم ضمن خطابٍ إعلامي مصمم للتأثير والتوجيه. وربما هو ما حدا بالإعلامية الأميركية سوزان سونتاغ لأن تصرّح:
“كل صورة هي أيضًا تلاعب بالواقع… ليست الصورة محايدة، إنها إعلان موقف.”
في ظل هذا، يصبح الفن في الإعلام حقلًا ملغومًا بالنيات والسياقات، لا مجرد تعبير حر. في هذا القول، تميل سونتاغ إلى تسييس الصورة بوصفها أداة موقف، ما قد يُفضي إلى إفراغ الفن البصري من إمكاناته التجريبية أو التأملية. فلا يمكن اختزال كل صورة في موقف. فبعض الأعمال الفنية تعمد إلى الغموض، الإيهام، أو حتى العبث، دون نية مسبقة لصناعة موقف أو خطاب.
كما أن هذا الرأي قد يُستخدم لتجريم الصور بحسن نية، فيتحول الفنانون إلى متهمين بالرسائل المضمَنة حتى إن لم يقصدوها.

3. المنصات الرقمية: ساحة جدل وأداة انتقاء
فرضت المنصات الرقمية إيقاعًا جديدًا للفنون، من خلال: السرعة، القابلية للمشاركة، والتفاعل اللحظي. ليصبح العمل الفني مطالبًا بالإيجاز والجاذبية البصرية أكثر من العمق.
فيقول الناقد الإعلامي نيل بوستمان: “نحن نمرح أنفسنا حتى الموت. الثقافة المرئية تستهلك المعنى لتحوله إلى ترفيه.”
وهنا يكمن الخطر: أن يصبح الفن مجرّد عنصر تسويقي في صناعة المحتوى، لا مساحة للتأمل الجمالي. وبوستمان – رغم دقته في رصد ظاهرة ترفيهية طاغية – يتبنى لهجة تشاؤمية قاتمة تُخفي احتمالات مهمة:
فالثقافة المرئية ليست دومًا استهلاكية، بل يمكنها أن تكون أداة للتحفيز المعرفي أو إثارة التساؤلات الكبرى بصيغة مختزلة.
ثم إن تحويل المعنى إلى ترفيه لا يعني بالضرورة سقوط القيمة، بل ربما هو تحوّل في أدوات التأثير لا في عمقه.


4. الفن الشعبي والإعلام الجماهيري
باتت الفنون الشعبية – مثل الرقصات، الأغاني القصيرة، والميمات البصرية – تُقدَّم كجزء من الهوية الإعلامية، لكنها غالبًا تفقد بعدها التاريخي العميق وتُختصر في الاستعراض.
لتقول آريانا هافينغتون، مؤسسة “هافينغتون بوست”:
“في عصر الإعلام الجديد، يتم اختزال الفكرة في ما يمكن مشاركته، لا في ما يمكن التفكير فيه.” وتمثّل رؤية آريانا هافينغتون موقفًا نقديًا صحيحًا تجاه التفاهة المُنتشرة في بعض منصات الإعلام الجديد، لكنها تُعمّم بشكل يُهمّش جهود المبدعين الرقميين الذين يبنون محتوىً عميقًا ضمن شروط العصر.
كذلك، المشاركة ليست نقيضًا للتفكير، بل يمكن أن تكون مدخلًا له، خاصة لدى الأجيال التي تتعلم من خلال التفاعل الرقمي، لا القراءة التأملية وحدها.


5. هل نحن أمام إعلام فني أم فن إعلامي؟
كتب المفكر الفرنسي رولان بارت مرة: “الصور ليست أشياء تُرى فحسب، بل أشياء تُقرأ”. في هذا الطرح البنيوي، يُحمّل بارت الصورة عبئًا تأويليًا لغويًا، كأنما الفن لا يكتمل إلا إذا خضع لسلطة القراءة والنقد. لكن هذه النظرة تتناسى أن بعض الصور أو الأعمال الفنية لا تُقرأ بل تُحسّ، تُعاش، وتُتذوق دون حاجة إلى تحليل لغوي أو تأويلي.
بمعنى آخر، ليست كل تجربة جمالية بحاجة إلى “قراءة”، وبعض الفن ينتصر للصمت لا للنص. واليوم، تذوب الحدود، ويزداد التداخل، وبات الفن أحد أدوات تشكيل الخطاب الإعلامي، ليس كزينة بل كمكوّن جوهري في البنية السردية. فالمتلقي اليوم يُطلب منه أن يفكك الرسائل الفنية كما يفكك خطابًا إعلاميًا، لأن الجمال بات يحمل وظيفة، والدلالة تتجاوز الشكل.

في ظل هذا التداخل، تبرز الحاجة إلى نقد ثقافي يُحلل كيف تُستخدم الفنون في الخطاب الإعلامي: هل تُستنبت لأجل التأثير العاطفي فقط، أم تُستثمر في بناء وعي جماعي؟

إن جدلية الفنون في الخطاب الإعلامي الجديد لا تُحسم بإجابات قاطعة، لكنها تستدعي يقظة فكرية تقاوم الانزلاق نحو الاستهلاك الخالي من المعنى.
وكما قال الناقد الإعلامي الأميركي هربرت شيلر في كتابه الشهير (المتلاعبون بالعقول):
“من يتحكم بالثقافة، يتحكم بالعقول”. وهنا تعبير عن قلق مشروع تجاه سلطة الإعلام وصناعة الثقافة الجماهيرية، لكنها قد تقود إلى نظرية مؤامرة شمولية مبالغ فيها. فالثقافة – رغم التوجيه – ليست فضاءً خاضعًا بالكامل للسلطة، بل تمتلك طاقة مقاومة كامنة، تتجلى في الفن المتمرد، والمحتوى التفاعلي، والخيال الشعبي.
كما أن العقول لا تُستَعبد فقط، بل تُبدع وتنتقد وتُسائل.

د. فهد توفيق الهندال

مارشال ماكلوهان – فيلسوف كندي متخصص في الإعلام

رولان بارت – ناقد فرنسي

سوزان سونتاغ – كاتبة وناقدة أميركية

نيل بوستمان – ناقد ثقافي أميركي

آريانا هافينغتون – مؤسسة موقع “هافينغتون بوست”

هربرت شيلر – ناقد إعلامي أمريكي





التصنيفات
مدونتي

لابوبو العصر: ثقافة عادة الاستهلاك



في زمن تغمرنا فيه المنصات، وتتدفق المحتويات من كل اتجاه، يُخيّل إلينا أننا نعيش في عصر الثقافة المتوهجة. لكن الحقيقة الصامتة تقول شيئًا آخر، إذ تَحوّلت الثقافة من ممارسة إنتاجية وفضاء للتفكير إلى سلوك استهلاكي سريع، أشبه بوجبة مجمدة تُسخَّن على عجل ثم تُنسى.

أصبحت ثقافة العالم اليوم في كثير من مظاهره، نشاطًا استهلاكيًا مكررًا. نتابع، نُعجب، نُشارك، ثم ننسى. لا أثر يُترك، ولا معرفة تُبنى، ولا ذائقة تُصقل. لقد تحوّل القارئ إلى متابع، والمبدع إلى محتوى، والفكرة إلى ترند. ثقافة اللحظة قتلت التأمل، وسرعة النشر أجهزت على عمق المعنى.
إنها حالة تُشبه سباق الأرنب والسلحفاة، لكن مع فارق قاتل. فالأرنب ما زال نائمًا في وهم تفوقه، والسلحفاة لم تعد تتحرك. أصبح السباق نفسه مسرحًا للشكليات، لا مساحة للإبداع. فتحول الفعل الثقافي إلى استعراض منصّات، لا صناعة مضمون، فتُعلن الريادة في الشعارات، لكنها غائبة في العمق.
ولأن ثقافة الفرد قائمة على التفاعل اللحظي، وليس على البناء المعرفي، انعكست على الثقافة العامة، فأصبحنا رهائن حلقة استهلاكية لا تتيح وقتًا للتفكير أو لإنتاج جديد.

بل إن هذا الانحدار لا يقتصر على الأفراد، بل ينسحب على المؤسسات التي تُروّج الاستهلاك الثقافي تحت مسمى “الوصول السريع” أو “الانتشار”. في حين أن الثقافة الفعلية، كما كان يُمارسها غازي القصيبي في حياته الإدارية، تتطلب صبرًا وتخطيطًا ومثابرة، لا بهرجة:
“الإنسان الذي يرفض التغيير، إنسان يعيش في الماضي، والماضي لا يُنتج شيئًا.”

ويقبع العالم اليوم في حاضرٍ بلا إنتاج، نكرّر الأفكار ذاتها، ونتداول الوجوه ذاتها، حتى أصبح المبدع غريبًا في سوق الثقافة المصنّعة. فثقافة الاستهلاك، إن لم تُقاوَم، تتحوّل من وسيلة انتشار إلى وسيلة إلغاء. تُلغي التميّز، وتُفرّغ الجمال، وتحوّل الجمهور إلى متلقٍّ بلا وعي. والأسوأ، أنها تُغري بالعجز، فكل شيء “جاهز”، وكل مجهود “مؤجل”.

لابوبو العصر هو اسم ساخر، لكنه يحكي مأساة حقيقية، مأساة ثقافة تتجمّل بالحداثة، لكنها تفقد روحها كلما كرّرت ذاتها دون تفكير. بات اليوم سلعة ثقافية. ستجدها يوما إلى جانب موسيقى بتهوفن وجون ويليامز، ولوحات فان جوخ وبيكاسو، وكتب أرسطو وابن رشد!
لا نريد تغيير العالم، بل تغيير عادتنا اليومية في جوهر الاهتمام، علّها تخرجنا من حالة وجوم العادة المكررة وادمان الاستهلاك العبثي إلى عالم مليء بالتجدد والابتكار الفردي.

لأسرد عليكم هذه القصة التي أوردها جيمس كلير في كتابه (العادات الذرية)، وليسمح لي وقت القارئ:
في أحد أحياء طوكيو، اعتاد سائق حافلة يُدعى “سايتو” أن يُقلّ الركاب في نفس الطريق كل يوم، بنفس التوقيت، وبنفس الروتين. ومع مرور الوقت، لاحظ أن أغلب الركاب كانوا يجلسون صامتين، يحدّقون في هواتفهم أو يغطّون في النوم. بدا له المشهد آليًا، بلا حياة.
فقرر في أحد الأيام أن يُجري تغييرًا بسيطًا. لم يكن الأمر إعلانًا كبيرًا، ولا حملة ترويجية، بل عادة صغيرة: كل صباح، يرحّب بالركاب باسم الحي الذي ينطلقون منه، ويضيف جملة تحفيزية قصيرة.
“صباح الخير من شينجوكو… تذكّروا اليوم أن تبتسموا لمن بجواركم.”
في البداية، لم يُعره أحد انتباهًا. لكن بعد أسابيع، بدأ بعض الركاب يردّون التحية، ثم ظهرت على النوافذ رسائل مكتوبة من الركاب تشكره على كلماته. البعض تغيّر مزاجه طوال اليوم بسببه.
بعد عام، عُرف “سايتو” في الإعلام الياباني بلقب سائق الأمل، وتحول فعله البسيط إلى حركة اجتماعية: مؤسسات بدأت تضع عبارات تحفيزية يومية في مداخلها، ووسائل النقل تبنّت فكرة “كلمة صباحية”. كل هذا… بدأ بعادة واحدة.
يعلّق جيمس كلير على هذا النوع من القصص قائلاً:
“العادات الصغيرة تُعيد تشكيل هويتك ببطء. كل فعل هو صوت تقول به لنفسك: هذا أنا.”
وهكذا، لم يكن سايتو يحاول “تغيير العالم”، بل فقط أن يكون إنسانًا أفضل في مكانه. وكانت النتيجة: عدوى إيجابية، غيّرت المشهد بأكمله.
فكما يقول جيمس كلير:
“النجاح هو نتاج العادات اليومية، لا التحولات الدراماتيكية.”
فلنُراجع عاداتنا الثقافية. لعلنا بذلك نكتب نهاية لابوبو العصر، وبداية عصر يستحق أن نُسميه: عصر الإبداع الحقيقي، لا عصر الإعادة والتسلق على منجزات سابقة.

د. فهد توفيق الهندال