لم يكن عنوان مسرحية فقط قدّمت في سبعينيات القرن العشرين ، بل صرخة مدوية حيال ما يشهده المجتمع الكويتي من تبدّل للقيم والعادات بشكل سريع وخطير غير مسبوق تحت شعار المدنيّة. فالمجتمع البشري معرّض لتغييرات جذرية في مختلف نواحي الحياة نتيجة تغيّر الحالة الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية، مما سينعكس على الحالة الاجتماعية.
فالمجتمعات هي نتاج السياق التاريخي الذي تمر به، فيتشكل بناء ذلك إنسانها الجديد مؤسسا لعادات وقيم جديدة، قد تكون بعضها مستلهمة لموروثه الاجتماعي السابق، وأخرى مستهلكة من ثقافات أخرى مستوردة.
واليوم نشهد تغييرا كبيرا وسريعا في تبدّل القيم والسلوكيات الفردية والمجتمعية معا، نتيجة طفرات الثورة التكنولوجية واتساع رقعة وسائل التواصل / التباعد الاجتماعي مما ساهم في خلق ظواهر سلبية كثيرة، لم يستطع المجتمع حتى هذه اللحظة السيطرة على آثارها المزلزلة لاستقرار المجتمع، أبرزها ظاهرة العنف بشتى صوره اللفظية والجسدية والفكرية، إلى جانب التسطيح الذي تشهده الساحة على مستوى الفكر والثقافة وتحليل أي قضية محلية، والذي يعود لتهميش النخب الجادة لنفسها والسماح لدخول نخب جديدة تحت مسمى “المؤثرين” ومساهمتهم في تعزيز الجرعة الاستهلاكية والسطحية دون الانتاجية والابداعية ، بعد وجود أرض خصبة تساعد على اتساع التفاهة كما يذكر آلان دونو في كتابه (نظام التفاهة).
على مستوى الأدب والفن، تراجعت المشاريع العميقة أمام غيرها السطحية التي نجحت بفعل التأثير التسويقي، فصرنا أمام ظاهرة فاشينيستات الأدب والفن للترويج الشخصي أو المؤسسي دون أي تعزيز للانتاجية الجادة المؤثرة في اكتساب أفراد المجتمع لمهارات قيمية إنسانية متطورة.
إذا كانت صرختنا اليوم هي “ضاع الديك”، فهناك صرخة أخرى “الفيل كبر يا ناس” وتلك قصة أخرى.
تابعت مسلسل سما عالية من تأليف صالح النبهان و شيخة بن عامر وإخراج محمد دحام الشمري وتمثيل مجموعة من الفنانين الذين اعتدنا حضورهم في أعمال الشمري. قصة المسلسل واجهت تحديا كبيرا لتجسيدها على خشبة الدراما يتمثل ذلك في فترة الزمنية المحكية وتمتد من نهاية الستينيات إلى الألفية الثالثة، وهي فترة زمنية طويلة لا يمكن اختصارها في ٣٠ حلقة وكل حلقة عمرها لا يتجاوز ٣٥ دقيقة إذا ألغينا تتر المقدمة والختام، فهل يمكن أن يواكب عمل درامي هذا الخط الزمني ومراحله المختلفة من التاريخ الاجتماعى في الكويت شهدت فيها تطورات وأحداث وتحولات كثيرة مع تعدد أجيال العمل؟ قد يكون الجواب أن العمل ليس توثيقيا، ولكن عندما أعود للذاكرة مع عمل درامي آخر لنفس المخرج الشمري وهو ساهر الليل نجد أن كل جزء من أجزاءه الثلاثة مثّل مرحلة لوحدها في التاريخ الاجتماعي للكويت، وربما كان بالامكان الاستفادة من التجربة السابقة في توجيه الكتابة الدرامية خاصة وأن القائمين عليها كاتبان، وهنا أتساءل أيضا كيف تم تقسيم كتابة العمل بينهما، خاصة وأننا لاحظنا تفاوتا بين مستوى الحوارات ورسم المشاهد، فهناك حوارات عميقة تحلل الواقع وتفكك خيوطه، وحوارات أخرى لا تختلف عن حوارات بعض المسلسلات الدرامية المستهلكة في رمضان ! بالنسبة للشخصية الرئيسية للعمل (الدكتور راشد المريّش) اتسمت بالاستقلالية والأفكار المتحررة والمنتقدة للمجتمع، وشجّع زوجته (شيخة) على اكمال دراستها وخلع العباءة و قيادة السيارة، ولكنه التزم بموقف الحياد مع أخته (سميرة) في مسألة العباءة التي خلعتها متأخرا جدا حتى عن الفترة الزمنية الفعلية التي شهدها المجتمع الكويتي وقتها، ولم تتمكن من الزواج من (محفوظ) المحامي اليمني بسبب ماضيه المتواضع بينهم، وهنا أتساءل هل خشي راشد مواجهة مع أهله بسبب سميرة وقد دفع شيخة لمواجهة كبرى مع أهلها تسبب بمقاطعتها والتبرؤ منها؟ كذلك اغتيال راشد أدى إلى ارتباك خط الزمن، وذلك في القفز السريع على ٣ عقود في الحلقات الست المتبقية خلاف الخط الزمني المتمهل لل ٢٤ حلقة السابقة، وأيضا لم تكن فكرة تغييب راشد بالاغتيال مقنعة لكون الكويت لم تشهد مثل هذه الأحداث مع شخصيات فكرية أو سياسية معروفة خلال تلك المرحلة، وإن كان القصد هو اغتيال الأفكار التنويرية، ولكن كان بالامكان أن تكون فكرة التغييب أكثر اقناعا وفي حلقة متأخرة، وهذا ما لمسناه بعد خروج شخصية راشد من الحدث الدرامي، فدخل العمل في متاهة مصير بقية الشخصيات! جاء عنوان العمل (سما عاليه) نسبة لشخصيتيه المتأخرتين في الظهور، عالية بنت راشد و ابنتها سما، ولم يكن مقنعا أن العمل يدور حول فكرة نسبة البنت لأمها بدلا من أبيها، وهي فكرة بعيدة عن الواقع كما هي السماء العالية، وأعتقد أن هذا مغزى العنوان إن كان فعلا في فكر فريق العمل. العمل بشكل عام متميز بما قدّمه من حوارات وأفكار ومعالجة فنية للقضايا التي طرحها، وهو ما جعله مختلفا وفريدا في رؤيته وخطابه عن بقية الأعمال الدرامية المستهلكة، وإن تغلبت في بعض مشاهده لغة المسرح. وما ذكرته من ملاحظات لا تقلل من جهود القائمين عليه من كتّاب وفنانين ومخرجين وفريق فني وموسيقى مذهلة لابراهيم شامل.
قد يرى البعض الفن السابع مرآة عاكسة للواقع ، شأنه في ذلك شأن الأدب وبقية الفنون ، إلا أن الحبكة التي يدير حولها السينمائي عدسته ، وينسج حولها خيوط السيناريو ، ستضيف حتما للنص الأصلي ، سواء كان رواية أو قصة أو واقعة أو فكرة ما في حياة المجتمع الإنساني . كما أن البراعة في الدهشة المنتظرة في المشهد الأخير، وإن اختلفت عن النص الأصلي ، ستضيف مخيلة أخرى للنص الأول . فللسينمائي قدرته المذهلة على رسم الكلمات صورا و مشاعر متنوعة .
في فيلمه THE SECRET LIFE OF WALTER MITTY يقدم الممثل والمخرج الهوليوودي بن ستيلر أحد انتاجاته النوعية والمختلفة عن بقية الأعمال السابقة كسلسلة شخصية جريج فوكر أو فيلم Night at the Museum وغيرها من الأفلام التي يجمع فيها الفكرة المختلفة لحياة ما مع كوميديا الموقف . ليأتي فيلمه المذكورأعلاه الذي يدور حول وولتر ميتي وهي شخصية مستوحاة من قصة كتبت في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين عن شخصية مضطربة تعيش حياة مختلفة أو سرية مليئة بالخيال وأحلام اليقظة . تم اختيار مجلة لايف LIFE أشهر مجلة عالمية متخصصة بالصور الملتقطة للحياة من بقاع العالم المتنوعة مكانا للحدث ، حيث الإنسان المختلف هنا أو هناك ، بكل تاريخه وارثه الإنساني . ولعل الحدث الرئيسي هو قرار الملاك تعيين إدارة من الشباب المتحفز لاثبات نظريته التطويرية لعمل المجلة ، ليقوموا بفصل جميع موظفي الإدارة السابقة بحجة مواكبة التغيير والتطور ، متناسين دورهم على مدى عقود في تأسيس واستمرار المجلة ، وميتي أحدهم الذي يعمل رئيسل لقسم تحميض الأفلام ، وأكثر فرد قادر على التعامل مع لقطات أفلام المصورين المحترفين ، خاصة شين أوكونيل الذي أدى دوره باقتدار والحائز على الأوسكار أكثر من مرة شين بين بالرغم أن ظهوره بالفيلم لم يتجاوز 10 دقائق ، إلا أن شخصية أوكونيل كانت تحمل لغز الصورة رقم 25 التي بنيت عليها حبكة الفيلم وحتى نهايته المدهشة معنى وقيمة وموقفا .
فبقدر ما الفيلم يتمتع بالكوميديا ، بقدر ما يحمله من رسائل مباشرة لا تحتمل أن تكون ضمنية لكونها لكل المستويات والثقافات ، لتكون متاحة في ذهنية الجميع دون تمييز أو نخبوية ما . فالإنسان عندما تضيع حياته كلها في قضاء احتياجاتها والانطواء عليها ضمن قوالب العمل وروتينه وعلاقات اجتماعية تقليدية ، يفقد جانبا مهما منها ، وأعني روح المغامرة . فمنذ المشهد الأول للفيلم بدأت المغامرة مع ميتي حيث المحاولات الفاشلة له بعد تردد طويل في ارسال غمزة صداقة / اعجاب إلى إحدى زميلاته بالعمل عبر موقع اجتماعي لسبب واحد أن طلب تسجيله لم يقبل في الموقع لكونه ترك الخانة الخاصة بالسفر والمغامرة خالية!
من أجمل الحوارات العميقة بالفيلم، ما قاله ميتي للمدير التنفيذي الشاب الذي جاء بصورة شخص يتمتع بأنانية وبرود ولامبالاة، عندما أحضر له ميتي الصورة المفقودة قائلا له:
“يجب أن تعرف أن هؤلاء الناس يعملون بجد لبناء هذه المجلة.لقد آمنوا بالشعار. وحصلت عليه.
أنت حصلت على مكانك من خلال أوامر رؤساءك، وعليك أن تفعل، عليك أن تفعل. لكن ليس لديك ما لديهم”.
مرورا باختفاء صورة رقم 25 لكونها صورة الغلاف الأخير للعدد الورقي للمجلة قبل تحولها إلى مجلة الكترونية ، وتحمله للمسؤولية في البحث عنها ، لدرجة السفر وراء أوكونيل في جرينلاند وآيسلند وغيرها من المناطق عبر مواقف كثيرة ، حتى التقائه شخصيا به أثناء انتظار أوكونيل لتصوير نمر ثلجي نادر جدا ، ومع ذلك لم يلتقط له الصورة برغم تمكنه من ذلك ، بما يقدم رسالة أن الحياة دون مغامرة والتمتع بها لا تعني شيئا !
هل فكرنا يوما أن نعيش متعة كبيرة في أن تنقطع أخبارنا عن العالم ، ولا نخبر أحدا عن مكان تواجدنا ، ولا نتحدث كثيرا عن ذلك . أعتقد ممكن لرغبتنا ، لا في العزلة ، وإنما في الحياة ، بشكل مختلف جدا ومتعة أكبر.
فكم حياة سرية نملك القدرة في أن نملكها ، وكم مغامرة نعيشها ، وقبل ذلك .. كم مرة فهمنا معنى الحياة ؟
كان الكولوسيوم المدرج الروماني الشهير أشهر حلبة قتال بين المصارعين حتى الموت، فقد جاء في فترة الألعاب الرومانية التي أحياها القياصرة لصرف نظر الأمة عن الاهتمام بغيرشؤون حياتها ومتعتها، فيعيشون مهرجانا ماتعا من القتال في الكولوسيوم، حيث متى ما تمكن أحد المصارعين من الثاني حتى ينتظر اشارة قيصر إما 👍 وتعني الابقاء عليه حيا أو 👎 وتعني الحكم عليه بالإعدام، وهكذا الجمهور الروماني إذا ترك القيصر الحكم بين أيديهم لتقرير مصير الخاسر. وبعد قرون عديدة، أستبدل الكولوسيوم بأشكال مختلفة من التغافل والالهاء الجماهيري، فبات العالم على موعد مع كولوسيوم جديد في وسائل التواصل الإجتماعي وسط صراعات الأفكار والأهواء البشرية في مختلف القضايا، في حشد كبير لهاشتاقات التناحر وتوظيف وسائل الاعجاب والتعليقات واعادة النشر وايموجي 👍 أو 👎 في مختلف المنصات الاجتماعية نحو تعبئة الرأي العام، مع استخدام وسائل استفتاءات أو استطلاعات الرأي وتسجيل أكبر عدد ممكن من المؤيدين. هكذا انتقل الصراع من السلطة والنخبة إلى الشارع و الجماهير، فبدلا من السيف والرمح والبلطة والبنادق والدبابات والصواريخ العابرة للقارات والاغتيالات إلى وسائل حديثة لا تسبب عنفا دمويا بقدر ما قد تسببه من عنف فكري ونفسي كبير قد يؤدي لقتل الشخص المستهدف معنويا نتيجة التنمر الالكتروني الحاشد والتحريض على إعدامه حيا. في إحدى حلقات المسلسل البريطاني The black mirror والمعنونة باسم Hated in the Nation تقول إحدى شخصيات العمل:” بفضل الثورة التكنولوجية ،لدينا القدرة على الغضب والاتهام “. ووسط حالة التنمر التي تعرض لها أحد ضحايا التنمر الالكتروني ، تتوقف عند جملة أحدهم :”عندما ترى شيئًا كهذا ، فإنه يغيرك. إما أن تكون مهزومًا أو أن تؤمن أكثر بما كنت تعتقده”. قد تتحول قبة برلمان إلى كولوسيوم، وتتحول المنصات إلى وسائل تقاتل اجتماعي بدلا من التواصل، حيث يمكن أن تطغى أصوات معينة تحت حجة الأغلبية على حساب الأقلية لدرجة قد تُسلب حقوق الفرد ويُصادر صوته وسط توهم الجماهير بأنها تسير نحو الحقيقة، والحقيقة أنهم قد يسيرون نحو الوهم الإجتماعي. فالجماهير كما يرى غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجيا الجماهير) :”لم تكن في حياتها أبدا ظمأى للحقيقة. وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم باتجاه آخر، ويفضلون تأليه الخطأ، إذا ما جذبهم الخطأ. فمن يعرف إيهامهم يصبح سيدا لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم”.
آخر الأفلام التلفزيونية العربية المنتجة من Netflix الذي تتجه نحو تقويض الصورة التقليدية للدراما الفنية سواء السينمائية أو التلفزيونية والخروج نحو الواقع وما يمثله من قضايا اجتماعية ساخنة غالبا ما تتجاوزها الدراما العربية إما انشغالا بالشكل أكثر من المحتوى بحثا عن مشاهدات أعلى، وبالتالي رعايات ودعايات أكثر، أو تختبئ تحت مفاهيم أو قصص مستهلكة هربا من مقص الرقابة والمساءلة. (أصحاب ولا أعز) لا يمثل سوى غيض من فيض مما يعيشه المجتمع العربي اليوم الذي مازالت شريحة كبيرة منه تنكر وجود قضايا وظواهر قد تكون سببا في اهتزاز صورة الحياة المحافظة في عالم مفتوح جدا باتت الرقابة الأبوية فيه مجرد شعار لا يعدو كونه محاولة تعزيز إعادة الثقة بما تبقى من ملامح المجتمع الشرقي القديم. ما هو الشئ الجديد الذي طرحه الفيلم ولم يكن معروفا من قبل؟ ما هي القيم التي خُدشت هذه المرة وكأنها لم تُخدش سابقا؟ ما هو الخطر الذي مثّله الفيلم ونحن نعيش فوضى أخلاقية منذ عصور الانحطاط لم ولن تعالجها الدراما في هذا الوقت؟ باختصار.. ما الحجر الذي أثار به فيلم أصحاب ولا أعز دون غيره في بئر المجتمع؟ ألا توجد بيننا شخصيات مثل “مريم” التي تعيش ذنب تحمّل زوجها “شريف” ذنبها، فتعيش معه في تذمر مستمر من كل شيء وأنانية مفرطة؟ أو شخصية “مي” الاستشارية النفسية التي أدخلت الجميع في لعبة الثقة، ولم تنتبه أنها سقطت معهم في ذات الفخ أو الاختبار ؟ أو شخصية “زياد” المنافح والمدافع عن القيم والأخلاق وهو يدوسها سرا ويوميا، وهو اللعوب الذي يطارد شبقه أينما كان ومع من صار ؟ على الجانب الآخر، ألا نجد بيننا شخصية “وليد” المتساهل في دوره كأب وزوج ويفضل أن يضع لكل من زوجته مي و ابنته صوفي خيارهما في قرارهما دون اجبارهما؟ أو شخصية “جنى” التي تحتفظ بعلاقتها الودودة مع خطيبها السابق برغم خروجه من حياتها ودخولها حياة زوجية جديدة مع زياد، وتستمر بينهما الصداقة بعيدا عن أية كراهية متوقعة بعد نهاية أية علاقة؟ أو شخصية “شريف” الذي يؤدي دور المضحّي ثانية مع صديقه “رابح” الذي يعيش حياة سرية خاصة به لم يفرضها على أحد.
فقط، نستبدل الأسماء والأدوار، ونتيقن بعدها أننا نعيش عالما مثاليا معلن وآخر خفي مناقض! يمر المجتمع بظاهرة كونية أشبه بالخسوف القمري، تحتاج لأكثر من تليسكوب أو منظار مجهري لكي نصل إلى جوانبه المعتمة التي لم تعد تُخفى على أحد. فإما نقف على الأسباب بكل جرأة لنعالجها، أو نصمت ونتفرج ونعيش الحياة بسعادة مفرطة في عوالمنا الخفية!
أخيرا.. صحيح أن الفيلم مقتبس عن فيلم أجنبي، وبالمناسبة ليس العمل الوحيد الذي قام بذلك، هناك أعمال كثيرة اقتبست عن أعمال أجنبية فنية أو أدبية دون إشارة لا من قريب ولا من بعيد عن هذا النقل أو الاقتباس!
ومنصة Netflix تجارية بحتة ليس دورها تربية المجتمع، ويتسابق كثيرون لتقديم أعمالهم عليها لما لها من انتشار قوي وحضور انتاجي ضخم، حتما لها سياسة وتوجه قد لا تختلف عن توجهات بقية المنصات، كما هو حال الإعلام العربي الغارق بشعارات وقيم أكل الدهر عليها وشرب!
لاشك أن الكثير من الأعمال الفنية الخالدة التي تلقاها الإنسان على مر عصور الابتكارات والمخترعات التي واكبت تقدمه ، بدءا من السينما والإذاعة والتلفزيون ، جاءت مكملة للفنون التي تأسست عليها الحضارة الإنسانية كالشعر والمسرح والرواية التي كان لاختراع المطبعة دور مهم في انتشارها ، عندما شكلت القصة أو الحكاية محور الحدث اليومي والاهتمام لدى المتلقي ، خاصة المعنية بجزء من حياته و ثقافته . فلولا ارتباط العمل الفني بخيط من نسيج المجتمع الحاضن له ، لما كان له الأثر والدور في استمراره لاحقا .
كانت السينما في بداياتها بحاجة ماسة لأرضية من الدراما المبنية على أسس قصصية ، تسرد بموجبها الحدث وتطور مجراه مما يثير فضول المتلقي ومتابعته ، لهذا نهلت السينما من الأعمال القصصية و الروائية والموروث الشعبي مادة خصبة للإنتاج السينمائي ، ومن ثم الإذاعي والتلفزيوني . ولعل لتصبح الشاشة الصغيرة بعدها النافذة اليومية والمهمة التي تطل هذه الأعمال برأسها على المتلقي في كل ساعات حياته وعلى مختلف فئاته العمرية .
لهذا اتخذت الدراما التلفزيونية مسارها المستقل في استقطاب المشاهدين ، مما جعلها منافسا رئيسيا لبقية الفنون عبر حرب الفضائيات ، ويشتد الاستحواذ من قبلها على المتلقي أكثر في ظل الإعلام الاجتماعي بعدما قطعت ثورة الاتصالات و المعلوماتية الكثير من مراحل التطوروالتقدم التقني ، لتكون قنوات اليوتيوب اليوم متاحة أكثر على الأجهزة اللوحية الذكية ، فيمكنك أن تشاهد أي عمل فني أو قناة عبر تطبيقاتها وروابطها المنتشرة في البرامج المرافقة لها .
من هنا ، فعندما يدخل أي عمل فني لدائرة الإنتاج الدرامي ، فهو محفوف بهذه العاصفة التي تشده بين أصابع المتابعين له . سابقا كان الرهان على الأعمال الدرامية التي يسبق فكرها القصصي و طرحها الفني في المعالجة الإنسانية توقعات المتلقي بكثير من التخييل والدهشة المنطلقين من الواقع المعاش. واليوم بات الرهان على أسماء المشاركين في العمل، فبات نجم الدراما النجم ليس محصورا بالفنان، بل شمل من دخلوا الفن من بوابة السوشيال الميديا ، وليس ضروريا أن يكون ملما بأي مفهوم ، ولو قدر ضئيل عن الفن!.
اليوم لا نتحدث عن شاشة قناة فضائية ، وإنما عن منظومة إعلامية متكاملة مواكبة لها في الدعم والإنتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي المروجة لها ، بشكل مسبق أو آني أو لاحق . اليوم بات الشكل متحكما أكثر من المضمون، وتغييب متعمد للمتلقي عن السياق الذي ينتمي إليه.
عندما كنا ناتبع الأعمال الدرامية الخالدة في رمضان في حقبة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين ، فإننا كنا أمام فكر قصصي في قوالب درامية تلفزيونية تعتمد الحوارات التي تفتح أبواب الفضول للمتابعة عبر سيناريو يحترم ذكاء المتلقي ، كان ذلك قبل دخول المنتج المقاول على الخط ، وعبثه بخيوط وخارطة الدراما والإنتاج الفني عموما ، وهو مايستلزم إعادة الثقة الواعية في اختيار الأعمال الروائية والقصصية لتحويلها دراميا تلفزيونيا أو إذاعيا والتي يمكن أن تؤسس لوعي أجيال قادمة ، قادرة على مواكبة العولمة المزدحمة بشتى صراعاتها ، بعدما أضحى العالم بنية واحدة ، وفي كف واحدة .
سُئل مرة الكاتب الفرنسي أندريه موروا: هل جميع الروائيين مجانين أو عُصابيون؟
فأجاب موروا : «لا، الأصح أن نقول انهم كانوا سيصيرون جميعهم عُصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين. فالعُصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه». بموازاة ذلك، يقول الفيلسوف نيتشه: «دائما ما يوجد في الحب بعض الجنون، لكن دائما ما يوجد في الجنون منطق أيضا».
عند محاولة الوقوف أمام هذين القولين، نجد أن خيطا رفيعا يمتد بينهما، يتلون بحسب الظرف الكائن لكلا المبدع والمحب. فكلاهما، أو هو معا، يتشكل عبر فن ما، يكتسب وجوده في الحالة التي يمر بها الإنسان، بعدما أشبع بطاقة كونية هائلة، سرها ذرة صغيرة تفجرت في داخله مسببة هذا الانفجار الهائل من العاطفة والأحاسيس. فهل سبق ذلك دربة ما، أم أن الفطرة سلقت صاحبها منذ نعومة أظفاره؟
عرّف أحد الكتاب الانكليز الإبداع بأنه نتيجة التعب والجهد بنسبة 99 في المئة ونتيجة الإلهام بنسبة 1٪ في المئة فقط. فكل فنان في مجاله، غالبا ما يقف محتارا أمام بياض/ فراغ لوحة أو صفحة العمل المراد انتاجه وابداعه، ولا يمكن انجاز ما يريد إلا بعد وقت وجهد كبيرين.
يقول فلوبير في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه: «لقد داخ رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجوه ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها… إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب».
طرحنا في مناسبة سابقة، ما قاله الشاعر رامبو بأن الحب، كما نعلم، يجب أن يُبتكر من جديد. فكيف يُبتكر؟
بالفن نبتكر ذلك، حيث يحتوي لك الدفء، ويحمل لك الشمعة التي توقظ قناديل الطريق من تثاؤب الانتظار، ليستعبد الضياء قسوة الظلمة الموحشة في مكمن المشاعر ويحيلها جمرة شوق وشغف وشبق لا يستكين، والموجة التي تجرح كبرياء صخور النفـس العنيدة بجنـون. فوحده الجنون ما يكسر القيود، ويلغي حدود المعقول والمنطق، ولو كان ثمة منطق للجنون، كما ذكر نيتشه سابقا، فهو في الجنون ذاته كملاذ أخير للعبور للحياة أو منها.
فربما يكون الإبداع ضربا من الجنون، وقد يكون عُصابا يجد الشخص المريض به علاجه بالكتابة أو الفن حتى يستفرغ ما بداخله من أخطاء الماضي أو يهرب منها متخفيا بهالة الإعجاب من الآخرين حتى يجد ذاته ثانية، ويودعها الثقة من جديد.
وأختم بما قاله قاسم حداد:
سينال منك الجنون/ ما دام الأسلاف يرصدونك/ ويجمعون لك القرائن/ ليروك في الأخطاء./ جنونٌ تظن أنه نصـك الحصين/ فيما ترى نصلاً في الحنجرة/ والكتاب بيتك الأخير./ جنونٌ لك/ تناله و ينال منك.
أسلافٌ من الصـلد وفساد الروح/ لا تأمن ولا تأخذك غفلة عما يصفون./ جُنّ عليهم/ فليس فيهم من يرأف بك، ولا يسمعون لك/ ولا يريدون الحجة، وعلى مضضٍ يـقصلون.
أسلاف لك وأنت وحدك/ ينتخبونك مثل خصوم الله/ عدواً تتكفل به النقائض.
غالبا ما يحُاك المعنى من خيوط الحياة اليومية ، حيث تسحب التفاصيل لونها من الحدث ومن يشعلوه ، بدءا من اليقظة من الغفلة ، طقوس الاغتسال ، الخروج للعالم بوجه جديد ، المرور بأماكن عدة ، مقابلة ناس معينين صدفة أو بموعد سابق ، في زحام لا ينتهي من الالتزامات والمشاغل . وحده الفن الذي ينظر للعالم بعين أخرى مختلفة ، عين وكأنها مركبة على زئبق ، حائرة قلقة ، كما وصفها المتنبي .
والفن كون واسع يحتمل الكثير من الابداعات المشكلّة له ، ومنها فن الأدب المرتكز على اللغة كنسيج خيالي للكلمات ، فينقل لنا الناقد والروائي البحريني أمين صالح في كتابه ( السوريالية في عيون المرايا ) عن الروائي والشاعر الفرنسي أندريه بورتون بأن الشاعريخترق اللغة ويتغلغل فيها ، ومن خلالها يؤسس علاقة حميمة وعميقة مع العالم المادي . ولهذا أبدى السورياليون نفورا صريحا من الآلية المنطقية للجملة . لأن خلق غلة جديدة يعني خلق علاقات جديدة بين الكلمات ، خاصةعندما تقطع علاقتها مع السياق التقليدي لها أو العالم الذي نشأت فيه وتقطع الروابط التي تشدها الى مواقعها الأولى ، ولا تعود تحمل الا القدرالقليل من الأواصر اليومية ، عندئذ تكتسب معنى جديدا غير متوقع لا تعمل بموجبه الكلمات للمعنى الاعتيادي لها ولا السياق اليومي ، أي بمعنى تكسرولادة الاشراق مبكرا !
في حين يرى الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا ، رأيا آخر في كتابه ( حديث اللاطمأنينة ) عن تشكلّ المعنى : ” سوف نترك الغروب للغروب، معتنين بالفن وحده ، مستوعبينه شفوياً، ناقلينه هكذا بواسطة موسيقى تفهم بالقلب. لننصنع نحتاً للأجساد التي ستحتفظ، مرئية وممسوسة، برونقها متحركاً وبدورها ناعمة، سننشئ بيوتاً، فقط لنقيم فيها، وهو ما من أجله وجدت البيوت في النهاية، أما الشعر فسيبقى ليقرب الأطفال من النثر المستقبلي،لأن الشعر، بالفعل، طفولي وأولي وتحضيري.”
ما نحاول الوصول إليه ، قد لا يتشكل المعنى من المعاناة قبل الكتابة فقط ، وإنما من المعاناة ما بعدها أيضا ، لكونها صراع يعيشه الكاتب بشكل مستمر ، وقلق الوجود . فاللغة تحتمل الصنعة الفنية لا الصعلكة اللغوية ، في تنافرها المستمر مع الهيمنة السائدة للتفاصيل المملة ، وثورة المعنى على تكرره المُجرد من التجريب ، وتكرار اللفظ اعتباطيا . فيقول السوريالي البلجيكي بول نوجيه: “ليس كافيا خلق الشيء، ليس كافياً للشيء أن يكون أو يوجد، يجب أن نظهر قدرة الشيء، عبر وسيلة أو أداة بارعة ما، على إيقاظ رغبة المتفرج، أو حاجته، لتنويره”. وهو من أشار إلى محدودية وقصور اللغة بأن هناك كتّابا يستخدمون الكلمات بطريقة خاصة جدا. هم في الواقع يحسبون أنفسهم سادةً، أحراراًفي ممارسة هيمنة كاملة على اللغة. يحسبون أن في مقدورهم الاحتفاظ ببعض خاصيات الكلمات، مهملين الأخرى، لم يخامرهم أي شعور بأن ثورة اللغة عليهم ممكنة . ولهذا فإنه ستحقق ثأر المعنى وتكشف ضعف الفكرة أمام هزالة اللفظ ، ولو طال المدى !
ونقف كما البرتغالي ألفارو دي كامبوس في هذا المشهد :
“أن تشعر بكل الأشياء بكل الطرق،
أن تعيش كل الأشياء من كل الجهات،
أن تكون الشيء نفسه بكل الطرق الممكنة في الوقت نفسه،
عندما كنا صغارا ، كانت متعتنا في مرحلة التعليم العام عندما نعلم أنه لدينا اليوم رحلة ، وكانت غالبا ما تكون للمتحف العلمي أو معرض الكتاب من باب الاستفادة من النشاط العلمي والتربوي . من ضمن الزيارات أيضا ، كانت حديقة الحيوان ، من باب الترفيه والترويح والمعرفة بدل يوم دراسي مقره الفصل . ولعلنا في تلك السن كنا نتمتع برؤية الأسد في قفصه ، مع بقية الضواري ، كما هي حالة الغزلان والطيور والكائنات الأليفة ، ولا تخلو الرحلة من وجود متطفلين و مزعجين يضايقون الحيوانات عبر سلوكيات مرفوضة في حق الحيوان .
استذكر هنا مقال للروائي العالمي خوسيه ساراماجو أنه يمكن الاستفادة من البرامج الوثائقية الكثيرة حول حياة الحيوانات متوفرة على قنوات فضائية عديدة ، دون الزيارات التي أصبحت نوعا من الماضي ومضيعة للوقت لعدم وجود أي أثر تعليمي أو تربوي بالقدر نفسه اليوم . ليربط ذلك أيضا بمعاناتها – الحيوانات – في خيم السيرك وما تتعرض له من ترويض / تعذيب لتكون أليفة / مطيعة لوحشية وسخرية الإنسان !
بعيدا عن قضبان حدائق الحيوان ، هناك نوع آخر من قضبان الترفيه ، حيث الموضة وكل ما يتعلق بالمظاهر بما نشاهده يوميا من آخر صرخاتها و موديلاتها التي أضحت متعلقة بثقافة المجتمع وهويته ، فبات يحكم على تحضره وتقدمه بحسب مدى اقباله وتأثره بما يتم ابتكاره من جديد الموضة ، وقد ساهمت كثيرا وسائل التواصل الاجتماعي في استعباد المشاعر والعواطف للمشاهير أو المؤثرين الذين انقلبوا إلى أدوات للترويج الاستهلاكي ووسائل تحركها الشركات بكل مستوى حضورها وقوتها على الساحة الشرائية ، فبات العقل مغيبا وراء هؤلاء ، لدرجة التقليد الأعمى ، لمجرد المتعة فقط . والقضبان هنا مشتركة متبادلة بين الفاشينيستا والمتابع ،الأول فرض على نفسه هذا القيد والدخول السافر في حياته الخاصة بحجة أننا في زمن العولمة والسوشيال ميديا و” البزنس ” ، والثاني قيّد نفسه إراديا وراء حياة الأول ليكون قدوته الأولى في نهج حياته وسلوكياته!.
استذكر هنا فيلم ( عالم ترومان ) لجيم كاري الذي كان مقدمة لما سمّي بتلفزيون الواقع ، حيث تتم مصادرة حياة الإنسان ليكون مادة للـ show بحسب قياس المنتج والممول . كذلك فيلم( EDTV ) لماثيو ماكونهي وتعاقد رجل مع إحدى الفضايات ليكون مادة عرض على مدى اربع وعشرين ساعة بمرافقة الكاميرا المتجولة / المتدخلة بكل خصوصياته ، حيث ضاق ذرعا من هذا القيد والبقاء خلف قضبان الترفيه والتاجر !
ما نحاول هنا هو الربط بين هذه القضبان ، أن الإنسان والحيوان ، باتا معا خلف القضبان باختلاف أنواعها ، تدفع جميعها ثمن الفضول والوحشية اليوم في انتهاك حقوق الحياة .
في موضوع آخر ، نعود عبره إلى ساراماجو ، يذكر في مقال مقارب عن أن الريش الصيني المستخدم في حشو الوسائد الفاخرة ، يتم نتفه من الطيور وهي حية ، قبل أن ينظف ويطهر ويصدّر إلى المجتمعات الغربية المتحضرة ، التي تعرف ما هو الأفضل لشعوبها وما هي آخر الموضة . ليكتفي ساراماجو بتعليقه أخيرا ( هذا الريش يتكلم عن نفسه ) !!
بعد عدة أعمال روائية وقصصية ونصوص مشتركة ، قدّم فريد رمضان عدة تجارب في كتابة السيناريو السينمائي ، موازيا في ذلك هاجسه السردي ،لاسيما الروائي، ونفسه اللغوي مع عينه الراصدة / المتحركة مع الزمن في مختلف تقلبات المكان . على اعتبار أن الصورة هي علامة سيميائية ، تعتمد على الرمزية المعينة المختصرة والحية في حركتها .
يأتي فيلم البشارة the good omen لفريد إضافة لعملين سابقين( حكاية بحرينية / سكون ) في محاولة استنطاق واقع ما، ربما صمت اليوم .
يبدأ العمل في تركيزه على شخصين في الستينات من عمرهما في رحلة صيد السمك أسفل جسر يربط بين جزيرتين ، يدخلان في صمت ، ينصت فيه كل منهما لمونولوج داخلي يحاكي همه اليوم ، يشتركان في رؤية المكان الذي انقض عليه الزمان الحالي في زحف العمران باسم المدنية على ملامح المكان وغيّره ، كما هو حال ملامح وعوالم من فيه . ليشتركا في صمتهما / انصاتهما لمونولوج داخلي لكل منهما .
الأول حسين ، يتحدث مع نفسه عن أولاده الذين تركوه وحيدا في بيته القديم ، والثاني جاسم يحادث زوجته الراحلة ، والرابط المشترك بينهما المكان / الزمان .
اعتمدت الصورة السينمائية على عدة نقاط نجدها جديرة في الملاحظة والرصد من باب الانطباع وليس التخصص النقدي السينمائي على الآتي :1- الزمان / المكان : حيث ركزت على مفارقة الملامح بين الحي الشعبي والمباني العمرانية الجديدة المتمثلة في حضور ناطحات السحاب مقابل المقهى الشعبي الوحيد الساكن على الضفة القديمة من البحر بما يعادل الانكسار / التوحد الروحي الداخلي لشخصيتي العمل ( جاسم و حسين ) .
وهو ما حرص عليه رمضان في دقة رسم الصورة بوصف المشاهد في السيناريو من خلال تقسيمه المشهد ما بين المكان / الزمان ، وتحديد موقع التصوير داخلي / خارجي . 2- الواقع : اعتمد على الشكل الاجتماعي في علاقة الماضي مع الحاضر والعكس ، مما يرسم أبعادا أخرى تتشكل في الجوانب الاقتصادية / التاريخية / السياسية / النفسية / الثقافية ، كما يظهر في المقابلة بين ملابس الأب والأبن ، ومدى تقبل الجيل القديم للعصرية وتطورها ، وعدم استساغة طعمها المختلف عن القديم كما هو في طعم الشاي / القهوة / ملة التمر والبخور .
إضافة لذلك ، العلاقة المبتورة بين الأحفاد والأجداد ، كما هو المشهد الجامع بين جاسم (الجد) و حفيده الذي أدار له ظهره ، ولاهي عنه بحديث عبر الماسنجر بواسطة جهاز اللابتوب ، بينما الجد يسرد قصة اعتقاله من قبل الانجليز في فترة ما من تاريخ البلد .3- الحوار : اعتمد رمضان على الحوارات القصيرة ، لنوعية الفيلم من فئة الأفلام القصيرة . وبرغم اعتماده اللهجة البحرينية ، إلا أنه قابل لأن يشمل كل مجتمع إنساني يعاني مثل هذا الشرخ بين جيلين أو عدة أجيال نتيجة مرور الزمن وتغير المكان ، دون أن تعيق اللهجة أو اللغة حدود العمل . 4- الشخصيات الدرامية : اعتمد رمضان على شخصية جاسم ( الفنان عبدالله ملك ) في إدارة السرد حولها ، إضافة لشخصية حسين ( الفنان أحمد عيسى ) كدور مساند وكلاهما يمثلان وجهة نظر الماضي ، في حين جاء الإبن محمد ( الفنان جمال الغيلان ) مقابلا لهم في التناقض حيث التطور والتقدم والواقع المعاش الآن . أما شخصية الأم الراحلـة ( الفنانة مريم زيمان ) فكان لها دور أساسي في استنطاق البيت القديم مكانيا/ تاريخيا/ اجتماعيا . واعتمد رمضان على مخيلة جاسم في استحضارها والحوار معها . واللافت أنه بعد وفاته ، ليترك مهمة حضورها في مخيلة صديقه حسين الذي أدار حوار معها في نهاية الفيلم وسؤاله لها عن سبب تأخرها عن زوجها الوحيد المغترب في حياته بعدها . 5- وجهة نظر الفيلم : جاءت منحازة للجيل القديم في بصيرته وكفاحه لبناء المدينة التي جحدت بحداثتها كل علاقة معه ، والكفاح هنا لم يقتصر على لقمة العيش عبر مهن البحر القديمة ، وإنما مقاومة المستعمر للحفاظ على استقلال الأرض ، وهو ما عبر عنه جاسم في رمزية البشارة (ثوب النشل ) عندما رفعته زوجته الراحلة وقتما خرج من سجن المستعمر ، ليرفعه بدوره عندما شعر بوقت رحيله إليها .
بدأ الكاتب العمل وأنهاه بموال شعبي للشاعر البحريني حسين بو رقبة وأداء منفرد للفنان البحريني الراحل علي بحر يقول فيه :
نيران قدر الدهر توقد في قلبي بحر
وعليّ سِلَّتْ سيوف الماضيات وبحر
الناس في ظلهم وربعي بشمس وبحر
من حيث أهل الوفا ما عاد فيهم وصل
وانقص حبل الرجا منهم فلا له وصل
لو كان بالسِّيفْ قطعت الاعادي وصل
لا شك في جزيرة حايطٍ عليّ بحــر
والموال من الفنون الشعبية التي اندثرت تقريبا من المنطقة ، بسبب طغيان الثقافة الجديدة ، وما كان من رمضان أن يبدأ الفيلم وينهيه به إلا دلالة على تلاشي تلك الروح القائمة سابقا بين الإنسان والبحر ، حيث تحالف القدر والبشر وأيضا البحر في علاقته الماضية مع الإنسان في ذلك المكان.
وبهذا تحقق الصورة خلود السرد والقص عند فريد .
فأتمنى أن تكون هذه القراءة بمنزلة مشاركة بسيطة لتخليد ذكراك يا فريد في عام رحيلك الأول.
فهد توفيق الهندال
المقال منشور مطولا في مجلة العربي عدد نوفمبر 2014 ضمن سلسلة أعلام الثقافة العربية