في زمن تغمرنا فيه المنصات، وتتدفق المحتويات من كل اتجاه، يُخيّل إلينا أننا نعيش في عصر الثقافة المتوهجة. لكن الحقيقة الصامتة تقول شيئًا آخر، إذ تَحوّلت الثقافة من ممارسة إنتاجية وفضاء للتفكير إلى سلوك استهلاكي سريع، أشبه بوجبة مجمدة تُسخَّن على عجل ثم تُنسى.
أصبحت ثقافة العالم اليوم في كثير من مظاهره، نشاطًا استهلاكيًا مكررًا. نتابع، نُعجب، نُشارك، ثم ننسى. لا أثر يُترك، ولا معرفة تُبنى، ولا ذائقة تُصقل. لقد تحوّل القارئ إلى متابع، والمبدع إلى محتوى، والفكرة إلى ترند. ثقافة اللحظة قتلت التأمل، وسرعة النشر أجهزت على عمق المعنى.
إنها حالة تُشبه سباق الأرنب والسلحفاة، لكن مع فارق قاتل. فالأرنب ما زال نائمًا في وهم تفوقه، والسلحفاة لم تعد تتحرك. أصبح السباق نفسه مسرحًا للشكليات، لا مساحة للإبداع. فتحول الفعل الثقافي إلى استعراض منصّات، لا صناعة مضمون، فتُعلن الريادة في الشعارات، لكنها غائبة في العمق.
ولأن ثقافة الفرد قائمة على التفاعل اللحظي، وليس على البناء المعرفي، انعكست على الثقافة العامة، فأصبحنا رهائن حلقة استهلاكية لا تتيح وقتًا للتفكير أو لإنتاج جديد.
بل إن هذا الانحدار لا يقتصر على الأفراد، بل ينسحب على المؤسسات التي تُروّج الاستهلاك الثقافي تحت مسمى “الوصول السريع” أو “الانتشار”. في حين أن الثقافة الفعلية، كما كان يُمارسها غازي القصيبي في حياته الإدارية، تتطلب صبرًا وتخطيطًا ومثابرة، لا بهرجة:
“الإنسان الذي يرفض التغيير، إنسان يعيش في الماضي، والماضي لا يُنتج شيئًا.”
ويقبع العالم اليوم في حاضرٍ بلا إنتاج، نكرّر الأفكار ذاتها، ونتداول الوجوه ذاتها، حتى أصبح المبدع غريبًا في سوق الثقافة المصنّعة. فثقافة الاستهلاك، إن لم تُقاوَم، تتحوّل من وسيلة انتشار إلى وسيلة إلغاء. تُلغي التميّز، وتُفرّغ الجمال، وتحوّل الجمهور إلى متلقٍّ بلا وعي. والأسوأ، أنها تُغري بالعجز، فكل شيء “جاهز”، وكل مجهود “مؤجل”.
لابوبو العصر هو اسم ساخر، لكنه يحكي مأساة حقيقية، مأساة ثقافة تتجمّل بالحداثة، لكنها تفقد روحها كلما كرّرت ذاتها دون تفكير. بات اليوم سلعة ثقافية. ستجدها يوما إلى جانب موسيقى بتهوفن وجون ويليامز، ولوحات فان جوخ وبيكاسو، وكتب أرسطو وابن رشد!
لا نريد تغيير العالم، بل تغيير عادتنا اليومية في جوهر الاهتمام، علّها تخرجنا من حالة وجوم العادة المكررة وادمان الاستهلاك العبثي إلى عالم مليء بالتجدد والابتكار الفردي.
لأسرد عليكم هذه القصة التي أوردها جيمس كلير في كتابه (العادات الذرية)، وليسمح لي وقت القارئ:
في أحد أحياء طوكيو، اعتاد سائق حافلة يُدعى “سايتو” أن يُقلّ الركاب في نفس الطريق كل يوم، بنفس التوقيت، وبنفس الروتين. ومع مرور الوقت، لاحظ أن أغلب الركاب كانوا يجلسون صامتين، يحدّقون في هواتفهم أو يغطّون في النوم. بدا له المشهد آليًا، بلا حياة.
فقرر في أحد الأيام أن يُجري تغييرًا بسيطًا. لم يكن الأمر إعلانًا كبيرًا، ولا حملة ترويجية، بل عادة صغيرة: كل صباح، يرحّب بالركاب باسم الحي الذي ينطلقون منه، ويضيف جملة تحفيزية قصيرة.
“صباح الخير من شينجوكو… تذكّروا اليوم أن تبتسموا لمن بجواركم.”
في البداية، لم يُعره أحد انتباهًا. لكن بعد أسابيع، بدأ بعض الركاب يردّون التحية، ثم ظهرت على النوافذ رسائل مكتوبة من الركاب تشكره على كلماته. البعض تغيّر مزاجه طوال اليوم بسببه.
بعد عام، عُرف “سايتو” في الإعلام الياباني بلقب سائق الأمل، وتحول فعله البسيط إلى حركة اجتماعية: مؤسسات بدأت تضع عبارات تحفيزية يومية في مداخلها، ووسائل النقل تبنّت فكرة “كلمة صباحية”. كل هذا… بدأ بعادة واحدة.
يعلّق جيمس كلير على هذا النوع من القصص قائلاً:
“العادات الصغيرة تُعيد تشكيل هويتك ببطء. كل فعل هو صوت تقول به لنفسك: هذا أنا.”
وهكذا، لم يكن سايتو يحاول “تغيير العالم”، بل فقط أن يكون إنسانًا أفضل في مكانه. وكانت النتيجة: عدوى إيجابية، غيّرت المشهد بأكمله.
فكما يقول جيمس كلير:
“النجاح هو نتاج العادات اليومية، لا التحولات الدراماتيكية.”
فلنُراجع عاداتنا الثقافية. لعلنا بذلك نكتب نهاية لابوبو العصر، وبداية عصر يستحق أن نُسميه: عصر الإبداع الحقيقي، لا عصر الإعادة والتسلق على منجزات سابقة.
د. فهد توفيق الهندال










