تعدّ نظرية الفضاءات الذهنية (Mental Spaces Theory) التي بلورها جيل فوكونييه Gilles Fauconnier إحدى أبرز المقاربات المعرفية في تحليل اللغة والخطاب. تنطلق هذه النظرية من أن العقل البشري لا يتعامل مع المعنى تعاملًا مباشرًا، بل يُنشئ أثناء القراءة أو التواصل مجموعة من “الفضاءات” المؤقتة التي تتفاعل فيما بينها لتكوين الدلالة. فالفضاء الذهني ليس مجرد صورة ذهنية، بل بنية معرفية نشطة تتكوّن من العلاقات، والتمثيلات، والنماذج الثقافية، والخبرات السابقة التي تتفاعل داخل ذهن المتلقي. وبهذا يصبح الفهم عملية بناء مستمر، وليست استرجاعًا لمعنى جاهز في النص أو الواقع. من هنا، تُعدّ القراءة وفق هذه النظرية فعلًا توليديًا يتداخل فيه النص مع أنساق الثقافة ومع التجربة الذاتية للقارئ، بحيث تتحول عملية التلقي إلى بناء دلالي دينامي لا ينفصل عن البنية المعرفية للشخص.
في ضوء هذا الإطار، يصبح اختيار القارئ لكاتبه المفضل حدثًا معرفيًا مركّبًا، لا تحكمه المعايير الظاهرية أو الحراك الجماهيري، بل تحدده طبيعة الفضاءات التي يتيحها النص وقدرته على الاشتباك مع فضاءات القارئ وإعادة تشكيلها.
ويتجلّى تأثير نظرية الفضاءات الذهنية في فهم آليات اختيار القارئ لكاتبه المفضل من خلال وعيٍ بنائي يعتمد على التفاعل المتعدد الطبقات بين النص والبنية الإدراكية للقارئ. فالقارئ لا يقارب الكاتب بوصفه كيانًا واقعيًا ذا حدود واضحة، بل يصنع عبر القراءة “كاتبًا ذهنيًا” يتشكّل من جملة الأساليب، والصوت السردي، ونظام القيم الذي يستنبطه من النص. هذه الصورة الذهنية هي نتاج تفاعل فضاءات متعددة، فضاء للنص، فضاء للذات، فضاء للخبرة الثقافية، فضاء للذاكرة، وفضاء للتوقعات. وعندما يحدث تداخل بين هذه الفضاءات بطريقة تمنح القارئ إمكانات تأويلية مفتوحة، يتقدّم الكاتب ليغدو “مفضّلًا.
تبرز هذه العملية جليًا في علاقة القرّاء العرب بعالم نجيب محفوظ، حيث يتشكل فضاء قارئه من بنية ثقافية متخيلة للحارة المصرية، ومن طبقات اجتماعية ونفسية تتداخل مع خبراته الذاتية. فشخصيات مثل سعيد مهران أو كمال عبد الجواد لا تُقرأ بوصفها محض بناءات تخييلية، بل تتحول إلى وسائط معرفية يدخل من خلالها القارئ إلى فضاءات أسئلته ومشكلاته وتمثّلاته للعالم. وهو ما يفسّر استمرار محفوظ في إنتاج قرّاء جدد حتى بعد عقود من كتابته.
ويمكن تطبيق المنطق نفسه على تلقي أعمال الكاتب الروسي دوستويفسكي، إذ لا يتم اختياره ككاتب مفضل بسبب مكانته الكلاسيكية أو حضوره الطاغي في المقررات الأكاديمية، بل بسبب شدّة كثافة فضاءاته النفسية والأخلاقية التي يجد القارئ ذاته فيها. فـ”راسكولينكوف” ليس شخصية تُقرأ، بل تُعاش داخل الفضاء الأخلاقي للقارئ، حيث تتفاعل أسئلة الذنب، والعقاب، والضمير، والسلطة مع منظومة القيم الذاتية الداخلية، ما يجعل التلقي فعل حضور وجودي لا مجرد متعة سردية.
ومن جهة أخرى، يبرز “فخ النجومية” بوصفه آلية تُعطّل الفضاءات الذهنية الحقيقية وتحلّ محلّها فضاءات دعائية مُنتجة خارج النص. فالقارئ قد ينجذب إلى كاتبٍ ما لأنّه “ظاهرة” تسويقية، لا لأن نصّه قادر على بناء فضاءات معرفية جديدة. وتظهر هذه الظاهرة في السياق العربي في بعض الروايات ذات الرواج التجاري السريع التي تُبنى شهرتها على تسويق اجتماعي لا على كفاءة سردية؛ إذ يجد القارئ نفسه أمام نصوص ذات فضاءات مغلقة لا تتيح سوى استهلاك مباشر. وينسحب الأمر على الأدب العالمي عبر نماذج مثل دان براون أو باولو كويلو اللذين يُستقبلان عبر هالة جماهيرية قد تطغى على قيمة نصوصهما، على خلاف كتّاب مثل ألبير كامو أو ساراماغو الذين، رغم أدنى حضور إعلامي، يقدّمون فضاءات معرفية شديدة العمق تسمح للقارئ بخلق طبقات دلالية متجددة ترتبط بمسائل الوجود والمعنى والعقل.
إن اختيار الكاتب المفضل بعيدًا عن هذا الفخ لا يتحقق إلا عندما تُبنى علاقة تأويلية بين النص وفضاءات الإدراك، أي عندما يتحول النص إلى بنية محفّزة للوعي، تولد فضاءات من الممازجة بين الذات والآخر، قد تتخذ من الزمن والوعي مادّتَين لإنتاج فضاءات تأملية مفتوحة، مؤسّسةً بذلك علاقة تتجاوز سطح السرد إلى بنية ذهنية دائمة التفاعل.
تُبرز نظرية الفضاءات الذهنية أن اختيار الكاتب المفضل هو فعل تأويلي يتجاوز حدود الذائقة السطحية ليغدو حدثًا معرفيًا يتأسس على تفاعل مستمر بين النص والبنية الإدراكية للقارئ. فالكاتب العظيم ليس هو الذي يهيمن على المجال الإعلامي، بل هو الذي ينجح في إنشاء فضاءات ذهنية قادرة على التجدّد داخل القارئ، وتوسيع أطر فهمه، ومنحه أدوات جديدة لإعادة إنتاج العالم. وفي المقابل، يكشف فخ النجومية عن هشاشة الاختيار القائم على الضجيج، لأنه لا يتيح للقارئ سوى فضاءات مستعارة. إن القيمة الحقيقية للنص الأدبي لا تُقاس بما يحققه من انتشار، بل بما يحدثه من تحوّل داخلي في الذهن؛ فالأدب الذي يُقرأ ليُبنى لا ليُستهلك هو وحده القادر على البقاء في الذاكرة الثقافية، وعلى تشكيل كاتب مفضّل لا يُراد لقيمته أن تُستمد من شهرة عابرة، بل من فعله المعرفي العميق.
د. فهد توفيق الهندال


























