التصنيفات
مقالات

المجد للظلام !

في سلسلة من المقالات الخاصة عن عدد من أدباء الكويت، نشرت مقالا عن الأديب الدكتور خليفة الوقيان بتاريخ ٤ أكتوبر ٢٠٠٧، أعيد نشره ثانية في وقت لا يقل سوءا عن زمن القصيدة.

untitled image

أسماء قليلة هي التي تشغل ذاكرة الحاضر والمستقبل بعطائها الفكري وموقفها الثقافي ورأيها الثابت حول قضايا الثقافة والوطن، تستمد أصالة هويتها الفكرية من جوهر حياة تقاسمت فيها الفرص ما بين التضحية والعطاء، تنتمي في ذلك إلى جوهر وسبب هذا الوجود، وأعني الإنسان المفكر والساكـن فينا، مهمـا حاول الزمـن أن يتغافل عـنه وعن دوره الأساسي في رقي الأمم والحضارات، وهو الذي يرفض الركون إلى ميـراث سابق أو ذكرى مجد عابر يجمّد العقل ويقصي التفكير الحر عن خارطته المنطقية والواقعية. فالمفكر، نتاج و عقل أمة كافحت من أجل تنوير أجيالها ضد شراك الجهالة والوصاية المقيّدة.وهذا المفكر، مثقف يصنع موقفا يستمد فيه فكره، يطول لزمن غير محدود، يتعاقب عليه أكثر من جيل في الأمة الواحدة. دون أن يوقعنا في انفصام ثقافي، يتمثل في الفجوة المعرفية والفكرية بين النخبة والعامة.وأمام معركة القلم ضد الجهل والتشدد الفكري، نقف عند موقف شاعر مفكر مؤمن بموقفه الثابت والرافض لكل أشكال القهر والتلقين الأعمى ومحاربة الظلام الذي يحمل المجد لمن يتلثمون به في القارعات الملتوية في هذه الحياة، فيفضحهم بقوله:المجد للظلامللصوص السارقين من فم الرضيعلثغة الكلامالغاصبين من جفون أمهشهية المنامالنصر للرممللخارجين من حفائر العصورسطورهم شواهد القبوروجوههم ملامح الحجرالفوز للعدمللسائرين في جنازة الربيعالنائمين حين تنهض الجموعكأنهم سوائم البهمالموت للقلملكل ريشة وفمإذا تفجرت منابع الألم.بهذه الأبيات، فضح شاعرنا الدكتور خليفة الوقيان ذلك المجد الزائف الذي يصنعه الظلام لدبيبه من الكائنات الزاحفة على وجوهها، يعتلي ظهورها المتسلقون نحو بروج التماثيل، دون رأي أو موقف أو فكر صريح يميط لثام الظلام عن المتسترين خلف غياهب المناصب، المتسمرين على كراسي العناكب.وهو ما رفضه فكر شاعرنا في عزوفـه عن الأمانة العامة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في موقف شهد له التاريخ أنفته ورفضه لمنصب مفروغ من قيمته واستقلال قراره، كما وثقها لنا الزمن في كتاب استقالة فريد ووحيد في شكله ومضمونه لوزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء عام 1987، عندما احترم فيها اعتزازه بنفسه ودوره المؤسس والرائد في بناء هذا الصرح الثقافي الوطني مع شخصيتين وطنيتين، وأعني المرحومين الأستاذ عبد العزيز حسين والشاعر أحمد العدواني، وهما اللذان استمد الوطن من وحي فكرهما المستنير وبصيرة رؤيتهما لواقع الثقافة في الكويت عندما وضعا حجر الأساس لها في مؤسسة وطنية ترعى الثقافة والمثقف، ليساهم الدكتور خليفة في تأسيسه ووضع تصوراته وهيكلة عمله القائمة على احترام العقل واعتماد المعايير الموضوعية في تقويم الإنتاج والمنتجين واستبعاد أساليب المداراة، وبموجب هذا النهج الفكري والشعور الوطني تخطى هذا الصرح في فترة ازدهاره كل مجالس الثقافة في دول أخرى. ليكمل الدكتور خليفة درب أستاذيه الراحلين في هذه المؤسسة، ويختمه بإخلاص ووفاء عندما رفض أن يكون معولا هادما في تجريد هذا الصرح من دوره التنويري المستقل، رافضا كل مغريات المنصب وبهرجة الموقع القائم على مجرد مناصب استشارية وثقافة بروتوكولات. كما علّق عليها في كتاب الاستقالة:«أما المناصب والمسميات الوظيفية فلعلكم تعلمون أنها لا تعني بالنسبة لي شيئا سوى التضحية والمشقة، فمجيؤها لا يضيف إليّ فخرا و ذهابها لا ينتزع مني مجدا».فأي مجد يكون على حساب العقل والموقف والصلاح ؟ أي فخرٍ يُرجى من حرف يضيع هباء في ثنايا الرياح؟ أي حلم يتحقق دون معاناة الفكر والرأي المباح؟وكأني بشاعرنا الوقيان عندما قال:قدر أن يكونالذي لا يكونحين تبقى العناكبتنسج أكفان طفل قتيلحيث لا يعتلي صهوة الدربغير الظلام الثقيلوحدك الآنتحرث في البحرتغرس في الريحكل البذوررفة الحلمنفح الأزاهيرشدو العصافيرقمح العصوروحدك الآنتحصد في مهرجان الغنائمشوك القبور.ويكمل الدكتور الشاعر خليفة الوقيان مهمته الشاقة كمفكر وشاعر في تنوير دروب الثقافـة وتنمية وعي الأجيال القادمة من المبدعين الشباب، ونحن المحظوظون به و بأصدقائه الأدباء الكبار، عندما تسنت لنا فرص الالتقاء به كثيرا، ومجالسته في رحب صدره الكبير، فمد معنا وصال المحبة والأبوة، فنبادله بجسور قائمة لا تحركها الرياح، أساسها الثابت في ذلك، التقدير والاعتزاز بشخصه الكريم، ولذاك التألق الكامن في فكره المستنير في توثيقه أصالة ومسيرة الثقافة وتاريخها العتيد دون تحيّز أو مداراة. وإلى ذاك الألق الساكن بين جنبيه، كشاعر يرصد بعينيه مشاهد الحياة. فعين تحاكي عناوين الحب وجمال الليل ملاذ العشاق ودوحة المحبين:الليلحين تسكن النجوم داره سكينةتنام في سريرهاعواصف المدينةالطير في أعشاشهاالريح في فجاجهاوللجبال للوهاد للبحار للشجرلعاشقين يغزلان خيط الفجربردة بديعة الصورللحب للجمالهدأة حزينةوعين على وطنه، وعلى أبناء وطنه، عندما دعانا للحذر من مغبة طريق زلق، تقوده غواية الرياء نحو الأوحال. لكونه يهوى أن يرانا نعلو فوق السحاب، بتسامي الروح في طرق الغد الذي يراه:إني عشقت الغد المأمول تبعثهمن مَهْمَهِ التيه صيحاتٌ لمطعونلتدفن الليل في أسماله مزقاوتجعل الأرض حبلى بالبراكينوتطلق الطير تسعى في مساربهاوتغرس الحب وردا في البساتين

فهد الهندال