التصنيفات
مدونتي

رب رواية من غير راوٍ

من أكثر ما يشدنا في قراءة أية رواية، اسم كاتبها أو الانجاز الذي حققته أو الموضوع الذي تطرحه أو الدهشة الفنية التي تتميز بها، حتى ولو كانت الرواية الوحيدة في سيرته الأدبية.

المعروف أن الطيب صالح يملك من رصيده الروائي، ثلاثة روايات، أشهرها “موسم الهجرة إلى الشمال”، للموضوع الجدلي الذي طرحته وقتها، ولتقنية السرد المعتمدة على سارد عليم مشارك غير مسمّى بالعمل، ولكونها جزءا من سيرة روائية للطيب شئنا أم أبينا. وبرغم اقتصاده في الكتابة الروائية إلا أن ذلك لم يكن عائقا لكي يكون ضمن أهم ١٠٠ روائي في العالم.

إذن، المنجز الروائي لا يحتسب بالكم المتراكم من الأعمال، وإنما المميز فيما كتبه الروائي والدهشة الفنية التي أبدع بها وأسس معها خطا روائيا جديدا يسير عليه من بعده جيل من الكتاب نحو كتابة الرواية. فالمنجز الروائي ليس رقما، بقدر ما أنه قدرٌ فني يضع كاتبه في قائمة التميز الروائي ولو كان كاتبا لعدد يسير من الأعمال.

فالروائي المبدع هو من يحصي بنفسه أعماله الناجحة دون بقية أعماله، بما يوازي قناعة المتلقي. فللروائي الحق في اقصاء أي عمل يرى فيه “عدم نضج” أو ” اخفاقا تاما” ضمن مسيرته ككاتب كما يرى الروائي ميلان كونديرا.

ولنا مثال رائع فيما اقدم عليه الروائي الراحل اسماعيل فهد اسماعيل في تخلصه من مسودات بعض أعماله لعدم اكتمالها وكان جوابه على سؤالي له إن كان قرارا مؤلما، فأدهشني باجابته بأنه كان يراوده هاجس، فلا يحب أن تنسب إليه بعد وفاته.

إذن، ما يمكن أن نخلص إليه، أن العمل الروائي هو جزء من تأملات الروائي في الحياة، وتمرينات يمارسها لتعزيز وعي هذه التأملات، ومحاولات منه لكي يرسم عالما متخيّلا افتراضيا لعالم واقعي مُعاش. فالرواية حقل تجربة الكاتب فكريا وضميره الحسي ورصيد خبرته الفنية، ولا يمكن أن يغامر كاتب عظيم بتاريخه لمجرد أنه يرغب بأن يكون كاتب موسمي أو كاتب ترند على حساب الصنعة الروائية. فالرواية لا تكتب لمجرد البوح، وإلا اعتبرت يوميات أو مذكرات شخصية، وليس من أجل الجوائز، فكم رواية فائزة غلبتها أخرى خالدة، وليس كتابة لمجرد الحضور بصرف النظر عن قيمتها الفنية وخطابها السردي، وإلا لقرأنا أعمالًا لا تنسب لأصحابها إلا اسما وتكون مجرد رمية تعتمد على الحظ فقط!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الرواية الفائزة والمفاجِئة

انتهى يوم الاحد الماضي ماراثون 2022 للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) باعلان فوز رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” للروائي الليبي محمد النعّاس، وجاء في تقرير لجنة التحكيم لدورة هذا العام 2022 والذي ألقاه رئيس اللجنة الروائي شكري المبخوت موضحا سبب اختيار الرواية ، نختار منها ما قاله : “استقر رأي اللجنة بالإجماع على تتويج رواية كُتبت بإيقاع سردي سلس في ظاهر النص، هادر متوتر في باطنه، صيغت بلغة عربية حديثة يسيره المأخذ، لكنها تخفي جهدًا في البحث عن أساليب في القول، مناسبة للعالم التخيلي الذي بناه صاحب النص”. والتقرير هنا يشير لأهمية البناء السردي والبحث الروائي الدقيق حول الموضوع بما يفيد أصالة النص وعدم استنساخ فكرته.

ثم يتناول التقرير براعة الكاتب فنيا في رسم شخصيته الأساسية بما ذكره المبخوت:”تمكن صاحب الرواية من تتبع مسار الشخصية وهي تتلعثم، وتستكشف هويتها الحائرة المخالفة للتصورات الاجتماعية السائدة في قرية محافظة، لا تشجع على الحلم”.

كذلك يرسم التقرير صلة الرواية بالواقع والمكان : “وما هذه القري إلا صورة من عالم عربي تهيمن عليه إيديلوجية موروثة مغلقة”. وعن أهمية حضور خطاب ورؤية الكاتب شدد التقرير على فكرة الفردانية في مقارعة العالم بعيدا عن الفكر الجمعي : “الرواية استعادت تجربة فردية في درب من الاعترافات التي نظم السرد المتقن المشوق فوضى تفاصيلها، ليقدم نقدًا عميقًا للتصورات السائدة عن الرجولة والأنوثة، وتقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وتأثيرهما النفسي والاجتماعي، تقع الرواية في صلب التساؤلات الثقافية الكونية اليوم حول قضايا الجندر، لكنها منغرسة في آن واحد في بيئتها المحلية والعربية، بعيدًا عن الإسقاط المسف والتناول الإيدولوجي المسيئ لنسبية الرواية وحواريتها”.

إذن لخّص التقرير معيار اختيار رواية النعّاس لموضوعها الآني حول الجندرة والهويات المضطربة، وهي حديث العالم اليوم. ولعل هناك سببا آخر لم يذكر في التقرير، وهو أن العمل هو الثاني روائيا لمحمد النعّاس وهو ما أشار إليه المبخوت في لقاء تلفزيوني بأن رواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) هي شهادة ميلاد روائي كبير وهو محمد النعّاس ، وهذا يدل على حدس اللجنة وتوقعها، فإلى جانب المبخوت وهو الروائي والناقد الفذ، والقارئ المتمرس نجد أعضاء اللجنة لا يقلون عنه خبرة وتمرسا في الكتابة والنقد والقراءة كالشاعرة والصحفية سعدية مفرح والروائية والباحثة إيمان حميدان وأستاذة الأدب العربي بجامعة صوفيا ببلغاريا بيان ريحانوفا، والشاعر والمترجم عاشور الطويبي. ويسحب لهم عملهم الصامت بعيدا عن ضغوط الاعلام وتوقعات القراء.

ثمة ملاحظة أخيرة، أن الروايات التي وصلت للقائمة القصيرة لم يكن معظمها متوفرا في المكتبات ولابد من طلبها مباشرة من الناشر، مع أنها وصلت للقائمة الطويلة ومن ثم القصيرة، ومنها الرواية الفائزة، ولا أعلم موطن الخلل هنا، وأتمنى أن تحرص إدارة الجائزة على أن تولي الأمر هذا اهتمامها لتكون الأعمال المرشحة في المتناول مع اعلان قائمة الروايات التي تقدمت للمسابقة دعما لها وتشجيعا معنويا لكتابها على الأقل .

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

زهور الحرب

من أجمل فرص عطلة نهاية الأسبوع ، قائمة الأفلام العالمية التي تبحث عنها وفقا لبعض الترشيحات التي تأتيك من اصدقاء ، أو أن الصدفة وحدها التي تضعها أمامك ، فيكون حظك سعيدا في متابعتها والتعرف عليها ، ومن ثم البحث عن أصل القصة وظروف انتاجها ، بما قد يضيفه إليك من خبرة جديدة في تذوق الفن العالمي .
من جملة الأفلام المميزة التي شاهدتها مؤخرا ، الفيلم الصيني ” The Flowers of War” زهور الحرب المقتبس عن رواية بعنوان 13 Flowers of Nanjing للروائية الصينية جيلين يان حيث تدور أحداث الرواية في الصين عام 1937 إبان الاجتياح الياباني للصين في الحرب بينهما ، من ضمنها مدينة نانجينغ التي تشهد مذبحة فظيعة شهيرة تتحول بعدها إلى مدينة أشباح بسبب الدمار الهائل الذي لحق بها ، وهروب من تبقى من أهلها بحثا عن فرص النجاة ، في حين تبقى مجموعة من الطالبات الصينيات محاصرات في كنيسة المدينة التي تتحول إلى المكان المسكون الوحيد في العمل ، فيصل أثناء ذلك جون ميلر متعهد دفن الموتى الذي أدى دوره الفنان العبقري كريستيان بيل لدفن كاهن الكنيسة المتوفى ، فيقوم بتقمص شخصيته مضطرا يساعده في ذلك صبي الكاهن السابق ، حتى مجيء مجموعة من مومسات المدينة بعدما هجرن الماخور الذي كن يعملن فيه هربا من جنون وبطش الجنود اليابانيين ، ليجد ميلر نفسه متورطا مسؤولا عن المكان دون إرادته .
حمل الفيلم أبعادا إنسانية أفرزتها ويلات الحروب ، وما يعيشه الناس في ظل انعدام قوانين وحقوق الإنسان ، وكيف يتحول البشر إلى ذئاب تأكل كل ما يسد حاجتها ويشبع غريزتها ، وهو ما ظهر في شخصية ميلر الذي حاول الانتصار لشهواته ، إلا أنه تخلى عنها في سبيل الانتصار لروحه الإنسانية الساكنة في جسده المخمور المعربد . كما ظهرت القسوة والبشاعة في تعامل الجنود الغزاة مع المكان ومن فيه ، لاسيما الطالبات اللاتي كتمن سر وجود الأخريات المومسات فدفعن براءتهن ثمنا عنهن ، مما أوقع الأخيرات”المومسات” في حيرة ما بين واقع عملهن الأساسي كمصادر متعة للآخرين ، وبين إنسانيتهن في تعاطفهن مع الطالبات وما حدث لهن بسببهن . أو ذلك الضابط الياباني الذي فرض حماية على الكنيسة ومنع التعدي على من فيها ، مقابل أن يستمع لغناء الطالبات بشكل دوري ، قبل أن ينقل ويأتي آخر لا يفكر خلاف جنوده المغتصبين لكل منابت البراءة . لنضيف أيضا شخصية المرشد الياباني في المنطقة عندما أوكل ابنته إلى ميلر لتكون في عهدته بجانب الطالبات ، فيكتشف حقيقة وجود المومسات لاحقا ، ويصمت ولا يفضح المكان ، ليموت والسر معه .
لهذا جاء الفيلم متضمنا جملة من التناقضات حفل بها المكان الواحد ، تنوعت بين شخصيات العمل الذين عاشوا صراعا بين البحث عن فرصة النجاة على حساب الآخرين ، أو الانتصار للروح الإنسانية ولو كان على حساب حقها في الحياة ، فتأتي رسالة الرواية / الفيلم بأن الشرف ليس في أن يحفظ الإنسان نقاءه وطهارته ، بقدر ما أن يحفظ أيضا إنسانيته في تضحيته من أجل الآخرين .
العمل قد لا يتطرق للجانب العقائدي ، إلا أن المكان المستعار في الرواية / الفيلم ، وما يمكننا أن نستبدله بأمثلة أخرى قرينة له بالرمزية ، يجعلنا نتساءل .. هل يكتسب المكان رمزيته ودلالته بما يشكله الظاهر أم بما يضمنه من جوهر ؟
من هنا ، كان المكان دائما في حالة تفاضل بين منزلته ووظيفته ، فالأماكن ليست سواء في رتبتها وتأثيرها وكثافتها الروحية . فوجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر روحانية وفضلا من وجودها في أمكنة أخرى – كما يرى ابن عربي – حيث تتحقق للمكان منزلته ، وتنمو في ضفافه الموحشة زهوره التي لا تذبل أبدا !

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

مع وقف التنفيذ

تابعت المسلسل السوري (مع وقف التنفيذ) الذي عرض في رمضان الماضي، وهو من تأليف يامن حجلي وعلي وجيه واخراج الفنان سيف سبيعي وبطولة عباس النوري وسلاف فواخرجي وغسان مسعود وآخرون، و سأتوقف بداية مع شخصية (حليم) التي أدّاها باقتدار الفنان غسان مسعود، حليم المثقف المناضل الذي يحلم بمستقبل اجتماعي وسياسي افضل لمجتمعه، ولكنه لم يكن حليما مع ماضيه الذي قضاه في السجن ورغبته بالانتقام الشخصي والطبقي من مجتمعه، ليدفع ثمن غروره وكبريائه أبناءه ( رولا و جبران). قدّم العمل شخصية مثقف مختلفة غير تقليدية، فهو قد يدعو لأفكار ومبادئ، سهلٌ عليه التنازل عنها في لحظة عندما يشعر بالخطر يقترب من أبنائه، إلا أنه وبسبب غروره يمكن أن يضحي بهما في لحظة أخرى أيضا.
شخصية المثقف الذي تحوّل لكتابة المقالات الثقافية التي تدر عليه المال بعد المقالات السياسية الناقدة والتي لم تجلب له سوى المشاكل، لذا فهي ليست غريبة عن واقعنا اليوم، في انتهاز الأفكار والمبادئ الحالمة والاستعراض بها نحو تحقيق مصالح لا تقل فداحة عن واقع السياسي الفاسد و المتسلّق. فشخصيته هنا لا تختلف عن محفوظ عجب في (دموع صاحبة الجلالة) ولا محجوب عبدالدايم في (القاهرة الجديدة) وإن اختلفت التفاصيل، ولكن النتيجة واحدة، صدام مع كل القيم والشعارات وسقوط أخلاقي مدويا جدا هذه المرة!

أما شخصية (جنان) والتي جسدتها الفنانة سلاف فواخرجي فهي نموذج للتحالف السياسي والاقتصادي الذي يقبض على مفاصل الواقع ويسعى لشراء الذمم والأملاك في خطة لتشديد القبضة أكثر على صنع القرار بما فيه مصلحته ومصالح حلفائه.

أخيرا شخصية (فوزان) والذي جسّده باقتدار كبير الفنان عباس النوري، فهو يمثل رجل الشارع الانتهازي الذي يحاول نيل ما تبقى من فتات تحالف المال السياسي مع الاقطاعيين تحت شعار الولاء للسلطة أينما كانت، سعيا منه للصعود من درك أسفل الحياة الحقيرة لاستعادة كرامة مفقودة عبر أي نوع من السلطة والعز على حساب أمثاله من المسحوقين في المجتمع.

لقد جاء العمل (مع وقف التنفيذ) وكما هو عنوانه تعبيرا عن وقف الكثير من مشاريع التنمية الفكرية والاقتصادية والسياسية بسبب شخصيات تسلقت هذه الشعارات نحو مصالحها الضيقة وتركت المجتمع يسبح في القاع دون حراك اجتماعي واع ومستنير!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

في اليوم العالمي للكِتاب

منذ اشتغالي في عالم النشر، لا تنفك عن بالي تلك الأسئلة التي أواجهها مع زملائي المؤمنين بقيمة النشر الثقافي، حول الجدوى من مشروع قد لا يدر ربحا تجاريا بقدر عائده الثقافي. قد تحتاج إجابتي لسطور أكثر، ولكنني سأختصرها بشاهد قصة الأديب عبدالحميد جودة السحار و صديقه الأديب العالمي نجيب محفوظ حول جدوى مثل هذا المشروع، حيث كان الاثنان طالبين في مدرسة واحدة، وسكنا حيا واحدا، وأحلامهما واحدة، إحداها فكرة إنشاء دار للنشر. فيقول السحار عن ذلك في كتابه ( صور وذكريات ): «ولدت الفكرة وما أيسر ولادة الأفكار وما أعسر إخراجها إلى عالم النور لمن كان مثلي لا يملك أية أداة من أدوات التنفيذ. ومنذ ذلك اليوم أصبحنا نلتقي أنا ونجيب محفوظ في قهوة الفيشاوي وفي قهوة عرابي في ميدان الحسينية وصرنا لا نفترق لا حديث لنا إلاّ حديث الأدب، نعيش على أمل واحد أن تعرف كتبنا رفوف المكاتب، فما كنا نطمع في أن تحتل مكاناً في الواجهات الزجاجية التي خصصت لكبار المحظوظين وعرفت أن نجيب دار بقصصه الفائزة بجوائز الدولة على دور النشر فاعتذرتْ له لأنه ليس من مشاهير الكتّاب. كأنما ولد هؤلاء وهم من المشاهير، فزاد ذلك في تصميمي على إنشاء دار للنشر هدفها نشر آثار المغمورين».

ويذكر أن السحار لجأ إلى مصوغات زوجته فباعها ، وكون مع محفوظ وثلة من أصدقائهما الأدباء لجنة النشر للجامعيين التي قدمت المؤلفات الاولى لهم ، ولأبناء جيلهم ، ثم توقف المشروع بعد الخسارة المادية التي تعرض لها السحار لقاء اصراره على القيام بهذا المشروع . ومع ذلك استمرت أعماله و أعمال أصدقائه خالدة حتى هذا الوقت ، لتفوز رواية صديقه نجيب محفوظ بجائزة نوبل بفضل تلك الأماني و الطموحات و الجهود في خدمة الأدب و الثقافة.

قد يختلف معي البعض حول وصفي الكتاب ب”سلعة حياتية”، أو حتى مجرد وصفه بـ ” سلعة ” لما يحمله من قيمة معنوية أكثر منها مادية ، وهذا مرده إلى الصورة التقليدية الراسخة في ذهنية الكثيرين، بأن الكتاب قيمة ثقافية أو أدبية بحتة ، دون التفكير للحظة أنه بمجرد شرائك إياه فأنك دخلت دائرة التسويق لكونك شاري سلعة من بائع، لا يختلف عن بقية السلع الاستهلاكية الأخرى !

تعتبر الثقافة اليوم قيمة و سلعة في آن، ولا يمكن الفصل بينهما، فالقيمة لوحدها تحددها جودة المنتج، والسلعة مرتبطة بذلك، وإلا لماذا تحرص الدول الصناعية مثلا على دعم صناعة الكتاب ضمن مجالات التصنيع لديها ؟

في أوربا ، لا يقل الدخل السنوي من إيرادات الكتب مثلا عن 20 مليار يورو سنويا منذ عام 2011، وهو ما لا أعتقده مقاربا للدخل السنوي العربي من صناعة الكتاب. ما يعني ضرورة إعادة النظر في مفهوم معارض الكتب العربية ضمن رؤية جديدة لا تقل عن الرؤية الأوربية أو الآسيوية في صناعة الكتاب، مما يتطلب جهودا وقناعة مكثفة و عملا دؤوبا يرتقي بصناعة الكتاب بدءا بتخفيف قيود الرقابة وتخفيض سقفها نحو اطلاق مساحة أوسع من الحرية المسؤولة للتأليف والنشر والترجمة ، وصولا بتنويع المنتج للكتاب وجودته، حتى نصل إلى صناعة شاملة لكل من الكاتب والمتلقي والناشر ليكملون سيرة الكتاب وحضوره المستمر.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

قهرمان

عنوان الفيلم الإيراني الجديد للمخرج أصغر فرهادي أحد ألمع المخرجين الإيرانيين على مستوى العالم والحائز على عدة جوائز عالمية منها الأوسكار في دورتين مختلفتين.

يتحدث الفيلم والحائز على جائزة مهرجان كان السينمائي عن شخص ساذج صنعت منه الظروف بطلا وهميا بسبب اعادته لحقيبة مفقودة تحتوي على عملات ذهبية بعدما فشل في بيعها على محلات الذهب، لينخدع بهذا الوهم جهة خيرية قامت بتنظيم حملة لتجميع تبرعات مالية لسداد دينه والذي يقضي عقوبة السجن بسببها، لتتسلق الجهة الاصلاحية التي يقضي بها العقوبة هذا الخبر وتدعي أنها وراء عمليه اصلاحه المجتمعي وتطوير مواهبه كرسام فني، تغطية منها على فضيحة انتحار احد المساجين بين جدرانها.

الفيلم يتناول فكرة صنع البطل الوهمي لمجرد قيامه بفعل كان من الواجب عليه القيام به دون ضجة اعلامية أو تنظيم حملات ترويجية من قبل جهات تتربح اعلاميا وراءه، الأمر الذي جعل هذا البطل الوهمي يقع في مشاكل متلاحقة وتكبر معها حبكة القصة وتتعقد أكثر، حتى يصل إلى نقطة يرفض فيها استغلال سذاجته وظرفه الخاص بالعودة للسجن بعدما فشل في إجازته الممنوحة له من قبل ادارة الاصلاحية لتعديل وضعه المالي وتسديد مديونيته، ليكون هذا حلا لكل عُقد القصة.

اللافت في الفيلم قدرة الصورة على محاكاة النص عبر تفاصيل دقيقة تجسّد حالة السذاجة عند بطل العمل، وهو ما يعكس السياق الاجتماعي المشارك في صنع بطل وهمي لمجرد تصديق كذبة توالت بعدها كذبات كثيرة. ولعل فرهادي طرح عبر هذا الفيلم الكذبة التي يعيشها المجتمع الإنساني اليوم في صنع أبطال وهميين قد يكونوا مؤثرين سلبا عليه إذا ما ساهموا في تفكيك ما تبقى من منظومته الأخلاقية.

ما أعجبني أيضا كتابة الفيلم وقدرتها على التغلغل بهدوء لعمق المجتمع وتشريحه دون اطلاق أحكام وترك القرار للمشاهد بصرف النظر عن مستواه الاجتماعي والمعرفي.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الصخرة التي حطمت سميث

حادثة النجم الهوليودي والحائز على أوسكار أفضل ممثل دور أول في ذات الحفل لهذا العام والذي اعتلى منصته وصفع مضيفه كريس روك أمام الملايين من الحاضرين والمشاهدين بسبب تجرأ الأخير بالسخرية من الشعر الحليق لزوجة سميث في فقرته التي تتميز عادة بالدعابة الساخرة، لتتحول الصفعة إلى قصة وترند يتناولها الإعلام الاجتماعي، مع انقسام الآراء بين أحقية ما فعله سميث وبين إدانة فعلته، وهنا أصبحنا أمام جمهورين واضحين، جمهور مؤيد لسميث أيا كانت مبرراته للصفعة وآخر معارض له ولم تؤثر به دموع البطل الهوليودي.

هل ما فعله سميث كان بسبب التنمر اللفظي الذي طال زوجته مباشرة، وهل صفعته لا تعد تنمرا جسديا على روك؟

هل تصرف سميث يتماشى مع مبدأ الرجولة في رد اعتبار زوجته ، أم أنه يعتبر خلل أخلاقي في عدم التصرف بحكمة مع الموقف كرجل في مثل سنه وموقفه؟

هل تصرف روك يعتبر تنمر مع زوجة سميث ولا يعد كذلك مع الآخرين الذي ضحكوا من مداعباته كما كان سميث قبل أن ترمقه زوجته بنظرة عاتبة فصعد على إثرها المسرح وصفع روك وتفوه بما لا يليق في مناسبة الأكاديمية العريقة ؟

أسئلة كثيرة أحاول أن يجيب عليها كلا الجمهورين المؤيد والمعارض لسميث.

ولكن ما حدث هو الأهم فعلا، وأعني صورة ويل سميث بعد الصفعة، وبعد رفض روك تقديم أي شكوى أو طلب اعتذار منه أو ما يمكن أن يرد له اعتباره، هناك قد يتساوى الفعلان، السخرية والصفعة وكلاهما يمثلان تنمرا بحق الآخر، ولكن عدم الرد بالمثل وعدم المطالبة برد الاعتبار هو ما جعل كفة روك تتفوق على كف سميث.

ولكن لنتخيّل معا أن سميث كظم غيظه ولم يرد، وحالما صعد لاستلام الجائزة استغل المنصة لكي يعلن عن رفضه التنمر أيًا كان شكله ودعى للمساهمة في تبني حملة عالمية لمكافحة المرض وآثاره التي تعاني منه زوجته والملايين من النساء في العالم، لكان ردة الفعل أكبر ولصالحه وسجّلت بحروف الذهب في تاريخه.

ما تعرض له ويل سميث لاحقا من انتقادات والغاء عقود واجباره على الاستقالة من الأكاديمية وربما سحب الجائزة منه، هو درس لكل نجم ومشهور، بأن يراقب تصرفاته وسلوكه مهما علا نجمه وطالت قائمة منجزاته .

أخيرا.. برر سميث صفعته بأنها ناتجة عن الجنون الذي يخلقه الحب تجاه من يحب، ولكن فات على سميث على أن الحب يخلق الوعي أكثر من الجنون. والمضحك أن زوجة سميث خرجت عن صمتها مؤخرا ورأت فعل سميث مبالغ فيه وأن روك لا يستحق ما لحق به!!.

إذن، بسمو الأخلاق نعلو كثيرا، وبسوئها ننحدر ونسقط سريعا مهما ارتفعنا في زمن باتت فيه منصات التواصل الاجتماعي تاريخا جديدا مفروضا على العالم اليوم.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

خادمات المقام.. المكان المحايد

هل الكتابة النسوية هي سرد عن ما يحدث بين النساء من جهة وما بينهن ومجتمعهن من جهة أخرى؟

هل الكتابة عن المرأة تتطلب أن تكون ضحية فقط، لكون الجلاد الأبدي هو الآخر الرجل؟

وأخيرا.. هل الكتابة عن مكان ما يعتبر جزءا من تاريخ مكان أكبر، تفترض الموضوعية والواقعية أكثر مما قد يكون متخيّلا افتراضيا؟

في روايتها الجديدة (خادمات المقام) اتخذت الروائية والقاصة منى الشمري جزيرة فيلكا مكانا في عالمها السردي، تسرد من خلالها حكايتها الجديدة وأبطالها وفكرتها التي تحاول ايصالها للمتلقي. يبدأ السرد بالتقاط جثة امرأة حامل غريقة وغريبة، لفظها البحر في غموض وحيرة حطت على رؤس شخوص الرواية، فكان المقام مسقط ولادة وليدها وسط حارساته/ خادماته، والسؤال الذي دار في ذهني، كيف تشبث الجنين بالحياة وقد فارقت أمه الحياة من مدة غير قصيرة، مع ما تم وصفه في أول الرواية لجثة الأم: “شعرها الأسود الفاحم بدا كثيفا وطويلا وقد نشبت به بعض طحالب اليابسة، والتهمت الأسماك شيئا من أطراف أصابع يديها وقدميها، ولم ينج من قضماتها إلا لحمها تحت ثوبها المخطط الذي ستر كل جسدها عدا وحمة داكنة تأخذ شكل التينة كبيرة تحت أذنها اليسرى، وشامة بارزة فوق الحاجب الأيمن، وأخرى تحت الشفة السفلى التي تقوست يابسة على نصف ابتسامة”! ويدور الجميع حول مصدر هذه الجثة إيران أم البصرة، والمسافة بينهما والجزيرة ليست بالقصيرة، وغالبا ما تأخذ أيام بحسب التيار. إذن نحن أمام اشكالية في رسم الأحداث منذ البداية والتي ستكون تمهيدا لبقية أحداثها وشخصياتها النسائية التي خصصت الكاتبة فصولها الست الأولى للحديث عنها، وهو سرد تقليدي في عموم الروايات العربية، مما أنهى مبكرا فرصة التقاطعات بين الشخصيات بغير رابطة المكان(المقام). كان من الممكن أن تحافظ الرواية على لقطة البداية المدهشة إذا ما كانت التفاصيل محكمة جدا مع غموض الحدث الأول، العثور على جثة الغريقة المجهولة، واستمرار ذلك الغموض بالولادة العجائبية للوليد داخل مكان عادة ما يكون مسرح السير العجائبية (المقام) لتأخذ الحكاية شكلا آخر يتجسد بشخص الوليد لاحقا، ولكن بقيت الكتابة ذات السرد التقليدي بالنسوة اللاتي يعشن القلق وعدم الاستقرار بسبب تاريخهن الاجتماعي وهو ما قرأناه ولانزال في بعض السرد الأنثوي العربي!

أين الفكرة الجديدة من كون المقام مكان الحدث الروائي، سوى استمرار القصص المرتبطة بالخرافة والغموض؟ وإن حاولت الكاتبة ربط نشأة المقام بماريا الحبشية لكونها جاءت من بيئة تكثر فيها المعتقدات الخرافية والوثنية، ولكن يدخل ذلك ضمن وجهة نظر الكاتبة.

ومع ذلك، أين تحوّل الشخصيات ونموها على مدار الرواية، وهو ما كان مختصرا وعابرا بسبب قصر الرواية ذاتها؟

وإلى أي مدى استفادت الكاتبة من المكان (جزيرة فيلكا) المتعدد مذهبيا وعرقيا في محاولة رسم المجتمع ككل وليس فقط الاكتفاء بحضوره محايدا؟

عندما نتناول عملا روائيا عادة ما نبحث في فنية المكونات التقنية للعمل، وكيفية توظيف الزمن والمكان، ورسم الشخصيات وتحولاتها، والأهم الرسالة التي يتضمنها خطاب العمل السردي، وكيف يمكن أن يتصل بسياقه الاجتماعي والثقافي والتاريخي، لاسيما وأن الخط الفاصل بين الواقع والمتخيّل هو فاصل وهمي، قد يثبت احترافية الكتابة أو حاجتها لاحترافية أكثر. وهذا ما كنت أتمناه أثناء قراءتي لرواية خادمات المقام، وننتظر العمل القادم لمنى الشمري, فمهما كان الكاتب يتمتع بسلطته أثناء كتابة النص، فإنه بات مهدور السلطة حال نشره ليشارك الكاتب أيضا ملاّك آخرون، وهم المتلقون له.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

سابقٌ لعصره!

بينما كنا نجتمع لتخليد ذكرى شخصية كويتية رفيعة للفكر والعطاء كالأستاذ عبدالعزيز حسين في ندوة نظمها الملتقى الكويتي ممثلا بمؤسسه ومديره الأديب طالب الرفاعي مع جهود الدكتور عبدالله الجسمي، فإننا بالواقع كنا نستذكر ماضي الكويت التنويري الذي تأسس وقام على يد كوكبة من الشخصيات التنويرية والفكرية والأدبية، كان لها قياد المجتمع وتوعيته وتوجيهه فكرا وإبداعًا.

ونحن بذلك، كأننا نقف على أطلال ذاك الفكر المستنير والعمل المؤسس لنهضة الثقافة والإبداع في الكويت، مستشعرين أهمية تلك المرحلة في زمن بتنا أكثر حاجة لاستلهام الجهود والأفكار المؤسسة لمواجهة ما نعانيه اليوم من تراجع كبير على المستوى المؤسسي والفردي، بتطوير مستوى الوعي المجتمعي من ثقافة الاستهلاك إلى فعل الانتاج المؤسس على الحرية المسؤولة والعمل المؤسسي المفترض.

من التعليقات التي علقت في ذهني، ما ذكره أستاذ الفلسفة في جامعة الكويت الدكتور عبدالله الجسمي في معرض حديثه عن الأستاذ عبدالعزيز حسين حول تفكيره العقلاني في تناوله لقضايا الوطن، وأن هذا التفكير كان سائدا المجتمع الكويتي في مرحلة سبقت الاستقلال. ولعل الدكتور الجسمي قصد تفكير العقل النقدي العملي، حيث أن أفراد المجتمع كانوا منشغلين بالعمل أكثر، بعيدا عن أي تجاذبات سطحية حول أحداث أو قضايا قد لا تشكل أهمية عامة كما هو الوقت الراهن.

كذلك تكررت جملة (سابق لعصره) التي شغلت أيضا تفكير وتساؤل الحضور، فهل يكون الإنسان سابقا لعصره إن كان عصره بالأصل متأخرا ثقافيا وعلميا عن بقية المجتمعات؟

واليوم، هل يكون الإنسان متأخرا عن عصره لكونه بات منشغلا بقضايا عفى عنها الزمن وتجاوزتها الأمم المتقدمة؟

عندما أحاول قياس تقدم المجتمع على مستوى التعليم، لكونه المحك الفعلي والعملي لتقدم الأمم، وأجد أننا نعيش ذات التفكير المنهجي المعتمد على التلقين والحفظ وانحسار حرية البحث العلمي وتسطيح مسألة التحصيل العلمي على أن نتيجته الحتمية هي التوظيف فقط، أدرك بؤس الواقع التعليمي والمهني في وقتنا الحالي، وهو عكس ما حلم به أولئك المؤسسون بمجتمع أكثر انتاجية وعملية وواقعية.

المفارقة في ندوة الأستاذ عبدالعزيز حسين، أنه سبقتها بأيام وفاة الأستاذ عبدالله النيباري الذي لحق برفيق دربه الدكتور أحمد الخطيب رحمهم الله جميعا ومن سبقهم من رجال الكويت المفكرين ، لأدرك فعلا بأن الزمن سريع جدا وسابق لعصرنا .

فهد توفيق الهندال

اللوحة للفنانة سهيلة النجدي

التصنيفات
مدونتي

ضاع الديك

لم يكن عنوان مسرحية فقط قدّمت في سبعينيات القرن العشرين ، بل صرخة مدوية حيال ما يشهده المجتمع الكويتي من تبدّل للقيم والعادات بشكل سريع وخطير غير مسبوق تحت شعار المدنيّة. فالمجتمع البشري معرّض لتغييرات جذرية في مختلف نواحي الحياة نتيجة تغيّر الحالة الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية، مما سينعكس على الحالة الاجتماعية.

فالمجتمعات هي نتاج السياق التاريخي الذي تمر به، فيتشكل بناء ذلك إنسانها الجديد مؤسسا لعادات وقيم جديدة، قد تكون بعضها مستلهمة لموروثه الاجتماعي السابق، وأخرى مستهلكة من ثقافات أخرى مستوردة.

واليوم نشهد تغييرا كبيرا وسريعا في تبدّل القيم والسلوكيات الفردية والمجتمعية معا، نتيجة طفرات الثورة التكنولوجية واتساع رقعة وسائل التواصل / التباعد الاجتماعي مما ساهم في خلق ظواهر سلبية كثيرة، لم يستطع المجتمع حتى هذه اللحظة السيطرة على آثارها المزلزلة لاستقرار المجتمع، أبرزها ظاهرة العنف بشتى صوره اللفظية والجسدية والفكرية، إلى جانب التسطيح الذي تشهده الساحة على مستوى الفكر والثقافة وتحليل أي قضية محلية، والذي يعود لتهميش النخب الجادة لنفسها والسماح لدخول نخب جديدة تحت مسمى “المؤثرين” ومساهمتهم في تعزيز الجرعة الاستهلاكية والسطحية دون الانتاجية والابداعية ، بعد وجود أرض خصبة تساعد على اتساع التفاهة كما يذكر آلان دونو في كتابه (نظام التفاهة).

على مستوى الأدب والفن، تراجعت المشاريع العميقة أمام غيرها السطحية التي نجحت بفعل التأثير التسويقي، فصرنا أمام ظاهرة فاشينيستات الأدب والفن للترويج الشخصي أو المؤسسي دون أي تعزيز للانتاجية الجادة المؤثرة في اكتساب أفراد المجتمع لمهارات قيمية إنسانية متطورة.

إذا كانت صرختنا اليوم هي “ضاع الديك”، فهناك صرخة أخرى “الفيل كبر يا ناس” وتلك قصة أخرى.

فهد توفيق الهندال