جمعت الأساطير الاغريقية القديمة، النقيضين (الحكمة والحرب) في شخصية واحدة كأثينا، ولم يأت ذلك اعتباطًا، بل يكشف عن بنية رمزية مركبة في المخيال الإغريقي، حيث لا تُفهم الآلهة كمجرد كائنات فوق بشرية، بل كمرايا للأسئلة الكبرى في الوجود الإنساني.
فأثينا ليست إلهة الحرب بمعناها العنيف مثل الإله آريس (Ares)، الذي يمثل العنف الأهوج، والشهوة للدم، والحرب الفوضوية، بل أثينا تمثل الحرب بوصفها خيارًا استراتيجيًا، عقلانيًا، تكتيكيًا.
فالحرب هنا، عند أثينا، ليست جنونًا… بل امتدادًا للحكمة عندما تفشل السياسة. لتمثل أثينا العدل أيضًا، فهي تدخل المعارك حين يكون الحق مهددًا. فتحمل درعًا وتحمي الأبطال (مثل أوديسيوس وبيرسيوس) ولكن بعقلٍ لا بعاطفة.
لهذا تُرسم غالبًا وهي تُمسك برمح بيد وبكتاب أو بومة بالأخرى، وكأنها تقول ما قاله أفلاطون في الجمهورية:
«لا يحرس المدينة إلا من امتلك الفلسفة والشجاعة معًا».
في زمنٍ معاصر، تتقاطعُ فيه الجبهاتُ العسكرية مع نشراتِ الأخبار وخيوطِ التواصل الاجتماعي ومنابرِ الفكر، لم تَعُد الحربُ محصورةً في ميدانٍ ماديٍّ وحسب، بل أضحت صراعًا على المعنى، وعلى من يكتبه ومن يَحقُّ له أن يرويه. وكما يقول المؤرخ إريك هوبزباوم:
«الذين يروون الحكاية، يملكون العالم»
يمكن تفصيل ذلك عبر النقاط التالية:
1. الحربُ بوصفِها سرديّة: من الوقائعِ إلى التأويل
ليس السرد مجرّد نقلٍ للأحداث، بل هو إعادةُ بناءٍ معرفيٌّ وأخلاقيٌّ لها؛ إذ يُنتقى ما يُروى، ويُضخَّم أو يُخفَّف، ويُوجَّه إلى جمهورٍ بعينه. لذلك يؤكّد الفيلسوف بول ريكور: «كلُّ سردٍ هو تأويل، وكلُّ تأويلٍ هو شكلٌ من أشكال السلطة»
وبينما تُهدَّم البيوت على الأرض، تُعاد هندسةُ الذاكرة في الفضاءات الرقمية. هنا تُصبح الكتابةُ، كما يعبّر محمود درويش، فعلَ بقاء: «أكتبُ كي لا يسرق أحدٌ صمتي»
2. الخطابُ السياسيّ: شرعنةُ العنف أم تجميلُ العدالة؟
تُعيد اللغةُ الرسمية تحديدَ الحرب عبر مصطلحاتٍ بديلة، مثل: «عمليةٌ عسكرية» بدل «حرب»، و«أضرار جانبية» بدل «ضحايا مدنيين». وفي ذلك يحذّر جان بول سارتر:
«أخطرُ الكائنات ليس الذي يحمل السلاح، بل مَن يكتب ليُبرّره». فالخطابُ هنا لا يُبلِّغ وحسب، بل يسعى إلى تهذيبِ القسوة وإضفاءِ مشروعيّةٍ أخلاقيةٍ عليها.
3. الخطابُ الإعلاميّ: بين الاستقطابِ والتزييف
تتنافس شاشاتُ العالم على صياغة صورةٍ «موضوعيّة»، لكنها كثيرًا ما تُخفي بنياتٍ استعماريةً أو تحشيديّة. يقول جورج أورويل:
«في زمنِ الكذب، يصبح قولُ الحقيقة فعلًا ثوريًّا».
بينما يذكّرنا الشاعر سليم بركات بمرآة البثّ:
«الدمُ لا يُرى في البثّ المباشر، يُغطّيه التعليقُ الصوتي»
وهكذا تتأرجح الرواية بين خطابٍ يوازن شكلًا ويُقصي جوهرًا، وخطابٍ آخر مقاومٍ يلجأ إلى التاريخ والصراع المستمر، وخطابٍ ثالث فوضويٍّ يُنتج سرديّاتٍ بديلةً قد تكون ملهمةً أو مضلّلة.
4. الخطابُ الثقافيّ والفنّي: فالحربُ كجرحٍ لا يلتئم
في الهامش المشتعل، يكتب الفنّان ما تعجزُ البياناتُ العسكريّة عن إظهاره؛ يكتب وجعَ الإنسان، لا وجاهةَ المنتصر. تقول نازك الملائكة:
«في الحرب لا ينتصرُ أحد؛ الجميعُ يخسر: الأم، الطفل، اللغة، وحتى الشعر».
وتضيف سوزان سونتاغ في حول الألم والآخرين:
«لقد فقدنا القدرةَ على الحزن كما ينبغي، لأنّ الصور سبقت المشاعر».
لتتحول الرواية، والمسرح، والسينما إلى سجلٍّ عاطفيٍّ مضاد، تبني ذاكرةً أعمق من العنوان العاجل.
5. سؤالُ الحياد: هل يمكن كتابةُ سرديّةٍ بلا انحياز؟
الحيادُ في ذاته موقف؛ فلا يوجد سرد محايد، لأن اختيار زاوية السرد هو بحد ذاته موقف. وبالتالي، كل خطاب عن الحرب، إن لم يكن منحازًا للحقيقة، فهو منحاز لوجهة نظر ما.
فما نختارُ أن نصمتَ عنه يُرسّخ ظلمًا ما؟
يقرِّر إدوارد سعيد بصرامة:
«الحياد في وجه الظلم خيانةٌ للمعنى».
بذلك يصبحُ المبدع بين خيارَين: إمّا أن يُؤرِّخ للضحية، أو يُنظّر للجلّاد؛ فحتى الصمتُ اصطفافٌ ضمنيّ.
لذلك، السردُ سلاحُ مَن لا سلاحَ له.فحين تسيطر القوى الكبرى على العتاد، يبقى الخطابُ حقلَ الضعيف الأخير. من لا يروي تجربتَه سيجد مَن يكتبُ عنه بما يَخدم مصلحتَه. يقول الطاهر بن جلّون:
«الكتابةُ فعلُ نجاة، لا رفاهية»
ويصرخ إلياس خوري:
«أكتبُ، لأنهم لا يكفّون عن القتل»
هكذا يغدو السردُ وطنًا بديلًا، وذاكرةً مضادةً للنسيان، وجبهةً لا بدَّ أن تُخاض بالكلمة، قبل أن تُخاض بالسلاح.
وأن نُعيد رسم الحرب لا كغريزةٍ، بل كمسؤوليةٍ فكرية وأخلاقية، وأن نُدافع عن السرد بوصفه مجالًا لمقاومة العنف، لا فقط للتوثيق.
وكأنّ أثينا، في نسختها المعاصرة، تنادينا عبر شاشات الأخبار وصفحات الكتابة، لتقول:
«لا تدعوا الجنون ينفرد بالسرد. فكروا، ثم احموا تفكيركم.»
وهكذا، يصبح الوعي النقدي والكتابة الحيّة درع أثينا الجديد في وجه طغيان الخطاب الواحد.
د. فهد توفيق الهندال
لوحة أثينا المعاصرة عبر AI


























