التصنيفات
مدونتي

لابوبو العصر: ثقافة عادة الاستهلاك



في زمن تغمرنا فيه المنصات، وتتدفق المحتويات من كل اتجاه، يُخيّل إلينا أننا نعيش في عصر الثقافة المتوهجة. لكن الحقيقة الصامتة تقول شيئًا آخر، إذ تَحوّلت الثقافة من ممارسة إنتاجية وفضاء للتفكير إلى سلوك استهلاكي سريع، أشبه بوجبة مجمدة تُسخَّن على عجل ثم تُنسى.

أصبحت ثقافة العالم اليوم في كثير من مظاهره، نشاطًا استهلاكيًا مكررًا. نتابع، نُعجب، نُشارك، ثم ننسى. لا أثر يُترك، ولا معرفة تُبنى، ولا ذائقة تُصقل. لقد تحوّل القارئ إلى متابع، والمبدع إلى محتوى، والفكرة إلى ترند. ثقافة اللحظة قتلت التأمل، وسرعة النشر أجهزت على عمق المعنى.
إنها حالة تُشبه سباق الأرنب والسلحفاة، لكن مع فارق قاتل. فالأرنب ما زال نائمًا في وهم تفوقه، والسلحفاة لم تعد تتحرك. أصبح السباق نفسه مسرحًا للشكليات، لا مساحة للإبداع. فتحول الفعل الثقافي إلى استعراض منصّات، لا صناعة مضمون، فتُعلن الريادة في الشعارات، لكنها غائبة في العمق.
ولأن ثقافة الفرد قائمة على التفاعل اللحظي، وليس على البناء المعرفي، انعكست على الثقافة العامة، فأصبحنا رهائن حلقة استهلاكية لا تتيح وقتًا للتفكير أو لإنتاج جديد.

بل إن هذا الانحدار لا يقتصر على الأفراد، بل ينسحب على المؤسسات التي تُروّج الاستهلاك الثقافي تحت مسمى “الوصول السريع” أو “الانتشار”. في حين أن الثقافة الفعلية، كما كان يُمارسها غازي القصيبي في حياته الإدارية، تتطلب صبرًا وتخطيطًا ومثابرة، لا بهرجة:
“الإنسان الذي يرفض التغيير، إنسان يعيش في الماضي، والماضي لا يُنتج شيئًا.”

ويقبع العالم اليوم في حاضرٍ بلا إنتاج، نكرّر الأفكار ذاتها، ونتداول الوجوه ذاتها، حتى أصبح المبدع غريبًا في سوق الثقافة المصنّعة. فثقافة الاستهلاك، إن لم تُقاوَم، تتحوّل من وسيلة انتشار إلى وسيلة إلغاء. تُلغي التميّز، وتُفرّغ الجمال، وتحوّل الجمهور إلى متلقٍّ بلا وعي. والأسوأ، أنها تُغري بالعجز، فكل شيء “جاهز”، وكل مجهود “مؤجل”.

لابوبو العصر هو اسم ساخر، لكنه يحكي مأساة حقيقية، مأساة ثقافة تتجمّل بالحداثة، لكنها تفقد روحها كلما كرّرت ذاتها دون تفكير. بات اليوم سلعة ثقافية. ستجدها يوما إلى جانب موسيقى بتهوفن وجون ويليامز، ولوحات فان جوخ وبيكاسو، وكتب أرسطو وابن رشد!
لا نريد تغيير العالم، بل تغيير عادتنا اليومية في جوهر الاهتمام، علّها تخرجنا من حالة وجوم العادة المكررة وادمان الاستهلاك العبثي إلى عالم مليء بالتجدد والابتكار الفردي.

لأسرد عليكم هذه القصة التي أوردها جيمس كلير في كتابه (العادات الذرية)، وليسمح لي وقت القارئ:
في أحد أحياء طوكيو، اعتاد سائق حافلة يُدعى “سايتو” أن يُقلّ الركاب في نفس الطريق كل يوم، بنفس التوقيت، وبنفس الروتين. ومع مرور الوقت، لاحظ أن أغلب الركاب كانوا يجلسون صامتين، يحدّقون في هواتفهم أو يغطّون في النوم. بدا له المشهد آليًا، بلا حياة.
فقرر في أحد الأيام أن يُجري تغييرًا بسيطًا. لم يكن الأمر إعلانًا كبيرًا، ولا حملة ترويجية، بل عادة صغيرة: كل صباح، يرحّب بالركاب باسم الحي الذي ينطلقون منه، ويضيف جملة تحفيزية قصيرة.
“صباح الخير من شينجوكو… تذكّروا اليوم أن تبتسموا لمن بجواركم.”
في البداية، لم يُعره أحد انتباهًا. لكن بعد أسابيع، بدأ بعض الركاب يردّون التحية، ثم ظهرت على النوافذ رسائل مكتوبة من الركاب تشكره على كلماته. البعض تغيّر مزاجه طوال اليوم بسببه.
بعد عام، عُرف “سايتو” في الإعلام الياباني بلقب سائق الأمل، وتحول فعله البسيط إلى حركة اجتماعية: مؤسسات بدأت تضع عبارات تحفيزية يومية في مداخلها، ووسائل النقل تبنّت فكرة “كلمة صباحية”. كل هذا… بدأ بعادة واحدة.
يعلّق جيمس كلير على هذا النوع من القصص قائلاً:
“العادات الصغيرة تُعيد تشكيل هويتك ببطء. كل فعل هو صوت تقول به لنفسك: هذا أنا.”
وهكذا، لم يكن سايتو يحاول “تغيير العالم”، بل فقط أن يكون إنسانًا أفضل في مكانه. وكانت النتيجة: عدوى إيجابية، غيّرت المشهد بأكمله.
فكما يقول جيمس كلير:
“النجاح هو نتاج العادات اليومية، لا التحولات الدراماتيكية.”
فلنُراجع عاداتنا الثقافية. لعلنا بذلك نكتب نهاية لابوبو العصر، وبداية عصر يستحق أن نُسميه: عصر الإبداع الحقيقي، لا عصر الإعادة والتسلق على منجزات سابقة.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

سرديةُ أثينا المعاصرة: الخطابُ بوصفِه وعيا موازيا

جمعت الأساطير الاغريقية القديمة، النقيضين (الحكمة والحرب) في شخصية واحدة كأثينا، ولم يأت ذلك اعتباطًا، بل يكشف عن بنية رمزية مركبة في المخيال الإغريقي، حيث لا تُفهم الآلهة كمجرد كائنات فوق بشرية، بل كمرايا للأسئلة الكبرى في الوجود الإنساني.
فأثينا ليست إلهة الحرب بمعناها العنيف مثل الإله آريس (Ares)، الذي يمثل العنف الأهوج، والشهوة للدم، والحرب الفوضوية، بل أثينا تمثل الحرب بوصفها خيارًا استراتيجيًا، عقلانيًا، تكتيكيًا.
فالحرب هنا، عند أثينا، ليست جنونًا… بل امتدادًا للحكمة عندما تفشل السياسة. لتمثل أثينا العدل أيضًا، فهي تدخل المعارك حين يكون الحق مهددًا. فتحمل درعًا وتحمي الأبطال (مثل أوديسيوس وبيرسيوس) ولكن بعقلٍ لا بعاطفة.
لهذا تُرسم غالبًا وهي تُمسك برمح بيد وبكتاب أو بومة بالأخرى، وكأنها تقول ما قاله أفلاطون في الجمهورية:
«لا يحرس المدينة إلا من امتلك الفلسفة والشجاعة معًا».

في زمنٍ معاصر، تتقاطعُ فيه الجبهاتُ العسكرية مع نشراتِ الأخبار وخيوطِ التواصل الاجتماعي ومنابرِ الفكر، لم تَعُد الحربُ محصورةً في ميدانٍ ماديٍّ وحسب، بل أضحت صراعًا على المعنى، وعلى من يكتبه ومن يَحقُّ له أن يرويه. وكما يقول المؤرخ إريك هوبزباوم:
«الذين يروون الحكاية، يملكون العالم»
يمكن تفصيل ذلك عبر النقاط التالية:
1. الحربُ بوصفِها سرديّة: من الوقائعِ إلى التأويل
ليس السرد مجرّد نقلٍ للأحداث، بل هو إعادةُ بناءٍ معرفيٌّ وأخلاقيٌّ لها؛ إذ يُنتقى ما يُروى، ويُضخَّم أو يُخفَّف، ويُوجَّه إلى جمهورٍ بعينه. لذلك يؤكّد الفيلسوف بول ريكور: «كلُّ سردٍ هو تأويل، وكلُّ تأويلٍ هو شكلٌ من أشكال السلطة»
وبينما تُهدَّم البيوت على الأرض، تُعاد هندسةُ الذاكرة في الفضاءات الرقمية. هنا تُصبح الكتابةُ، كما يعبّر محمود درويش، فعلَ بقاء: «أكتبُ كي لا يسرق أحدٌ صمتي»
2. الخطابُ السياسيّ: شرعنةُ العنف أم تجميلُ العدالة؟
تُعيد اللغةُ الرسمية تحديدَ الحرب عبر مصطلحاتٍ بديلة، مثل: «عمليةٌ عسكرية» بدل «حرب»، و«أضرار جانبية» بدل «ضحايا مدنيين». وفي ذلك يحذّر جان بول سارتر:
«أخطرُ الكائنات ليس الذي يحمل السلاح، بل مَن يكتب ليُبرّره». فالخطابُ هنا لا يُبلِّغ وحسب، بل يسعى إلى تهذيبِ القسوة وإضفاءِ مشروعيّةٍ أخلاقيةٍ عليها.

3. الخطابُ الإعلاميّ: بين الاستقطابِ والتزييف
تتنافس شاشاتُ العالم على صياغة صورةٍ «موضوعيّة»، لكنها كثيرًا ما تُخفي بنياتٍ استعماريةً أو تحشيديّة. يقول جورج أورويل:
«في زمنِ الكذب، يصبح قولُ الحقيقة فعلًا ثوريًّا».
بينما يذكّرنا الشاعر سليم بركات بمرآة البثّ:
«الدمُ لا يُرى في البثّ المباشر، يُغطّيه التعليقُ الصوتي»
وهكذا تتأرجح الرواية بين خطابٍ يوازن شكلًا ويُقصي جوهرًا، وخطابٍ آخر مقاومٍ يلجأ إلى التاريخ والصراع المستمر، وخطابٍ ثالث فوضويٍّ يُنتج سرديّاتٍ بديلةً قد تكون ملهمةً أو مضلّلة.

4. الخطابُ الثقافيّ والفنّي: فالحربُ كجرحٍ لا يلتئم
في الهامش المشتعل، يكتب الفنّان ما تعجزُ البياناتُ العسكريّة عن إظهاره؛ يكتب وجعَ الإنسان، لا وجاهةَ المنتصر. تقول نازك الملائكة:
«في الحرب لا ينتصرُ أحد؛ الجميعُ يخسر: الأم، الطفل، اللغة، وحتى الشعر».
وتضيف سوزان سونتاغ في حول الألم والآخرين:
«لقد فقدنا القدرةَ على الحزن كما ينبغي، لأنّ الصور سبقت المشاعر».
لتتحول الرواية، والمسرح، والسينما إلى سجلٍّ عاطفيٍّ مضاد، تبني ذاكرةً أعمق من العنوان العاجل.

5. سؤالُ الحياد: هل يمكن كتابةُ سرديّةٍ بلا انحياز؟
الحيادُ في ذاته موقف؛ فلا يوجد سرد محايد، لأن اختيار زاوية السرد هو بحد ذاته موقف. وبالتالي، كل خطاب عن الحرب، إن لم يكن منحازًا للحقيقة، فهو منحاز لوجهة نظر ما.
فما نختارُ أن نصمتَ عنه يُرسّخ ظلمًا ما؟
يقرِّر إدوارد سعيد بصرامة:
«الحياد في وجه الظلم خيانةٌ للمعنى».
بذلك يصبحُ المبدع بين خيارَين: إمّا أن يُؤرِّخ للضحية، أو يُنظّر للجلّاد؛ فحتى الصمتُ اصطفافٌ ضمنيّ.
لذلك، السردُ سلاحُ مَن لا سلاحَ له.فحين تسيطر القوى الكبرى على العتاد، يبقى الخطابُ حقلَ الضعيف الأخير. من لا يروي تجربتَه سيجد مَن يكتبُ عنه بما يَخدم مصلحتَه. يقول الطاهر بن جلّون:
«الكتابةُ فعلُ نجاة، لا رفاهية»
ويصرخ إلياس خوري:
«أكتبُ، لأنهم لا يكفّون عن القتل»
هكذا يغدو السردُ وطنًا بديلًا، وذاكرةً مضادةً للنسيان، وجبهةً لا بدَّ أن تُخاض بالكلمة، قبل أن تُخاض بالسلاح.
وأن نُعيد رسم الحرب لا كغريزةٍ، بل كمسؤوليةٍ فكرية وأخلاقية، وأن نُدافع عن السرد بوصفه مجالًا لمقاومة العنف، لا فقط للتوثيق.
وكأنّ أثينا، في نسختها المعاصرة، تنادينا عبر شاشات الأخبار وصفحات الكتابة، لتقول:
«لا تدعوا الجنون ينفرد بالسرد. فكروا، ثم احموا تفكيركم.»
وهكذا، يصبح الوعي النقدي والكتابة الحيّة درع أثينا الجديد في وجه طغيان الخطاب الواحد.

د. فهد توفيق الهندال

لوحة أثينا المعاصرة عبر AI








التصنيفات
مدونتي

النقد الثقافي وأرخبيل الخطابات “المُفرّغة” !



يخبرنا فوكو أن النقد ليس تمرينًا على التفكيك بقدر ما هو ممارسة للحرية. حرية التفكير خارج الأطر الجاهزة، وحرية النظر إلى الواقع من زوايا غير مأهولة. فالنقد عنده لا يهدف إلى الهدم، بل إلى كشف البُنى الخفية التي تُنتج أفكارنا، وتشكّل وعينا دون أن نشعر.

ولهذا، لا يشترط أن يكون النقد انعكاسًا لرغبات الجمهور أو أهوائهم، بل قد يتقاطع معها أو يناقضها، لأن وظيفته ليست الإرضاء، بل الإضاءة. زاوية النقد ليست مرآةً لما أحبه الناس أو كرهوه، بل عدسة تُعيد ترتيب المشهد وتُبرز ما خفي تحت سطح الخطاب.

وإذا ما رأى صاحب النص أن النقد عبءٌ أو تطفّلٌ أو تسلّقٌ على جهده، فهو بذلك يكشف عن رفضٍ ضمني للمساءلة، وتمسّكٍ مريح بالسلطة التي يعتقد أنها حصرية له. كأن النص ينبغي أن يُقرأ بإجلال لا باشتباك، وأن يُترك معصومًا لا معروضًا على طاولة السؤال.

لكن الحقيقة أن النص الذي لا يُستدعى إلى ساحة النقد، نصٌ محكومٌ عليه بالعزلة. فكما أن الفكر لا يتطور دون صراع، فإن الكتابة لا تنضج دون أن تمر بمحكّ الفحص. وفقط حين يتقبل صاحب النص هذا الامتحان، يُصبح شريكًا في مشروع المعرفة، لا مجرد صدى لها.

في عالم يفيض بالخطابات والصور والرموز، لا يكفي أن ننظر إلى الظواهر من سطحها، بل علينا أن نسبر أعماقها لنكشف ما تُخفيه من سلطات ومعانٍ خفية. وهنا يأتي دور النقد الثقافي كما يُعرّفه الدكتور عبد الله الغذامي، بوصفه أداة لكشف البُنى الفكرية والسلطوية الكامنة وراء المنتجات الثقافية، سواء كانت نصوصًا أدبية أو مظاهر اجتماعية أو حتى أنماطًا استهلاكية.

لا يرى الغذامي في النقد مجرد تحليل جمالي أو لغوي، بل يرى فيه تفكيكًا للخطاب وكشفًا للعلاقات غير المرئية بين النص والمجتمع، بين اللغة والسلطة، بين الهوية والتمثيل. إنه يحرّكنا من سؤال “كيف كُتب النص؟” إلى سؤال “لماذا كُتب بهذا الشكل؟ ولصالح من؟”.

من هذا المنظور، تصبح كل ظاهرة ثقافية قابلة للقراءة بوصفها نصًا اجتماعيًا، يحمل في طياته تمثيلات طبقية، جندرية، أيديولوجية. سواء كانت إعلانًا تجاريًا، أو مهرجانًا، أو حتى لبسًا شائعًا، فإنها تحوي في داخلها خطابًا يُشكّل وعينا ويعيد إنتاج النظام الرمزي للمجتمع.

لذا، فدراسة الظاهرة من منظور النقد الثقافي لا تهدف إلى إدخالها في قوالب جامدة، بل إلى تحرير وعينا منها، وفهم كيف نُشكَّل نحن من خلالها. وكما يؤكد الغذامي، فإن هذا النوع من النقد ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة لفهم أنفسنا والواقع الذي نعيشه، بعيدًا عن الانبهار الساذج أو الرفض الغاضب.

إن ظاهرة “الجزر الثقافية”، بحسب توصيف الغذامي، تُشير إلى تَشظّي الخطاب الثقافي إلى دوائر مغلقة، كل منها تتكلم مع ذاتها وتُعيد إنتاج قيمها، دون انفتاح فعلي على الآخر. وهي ظاهرة تتفاقم في المجتمعات التي تُهيمن فيها الهويات الضيقة، سواء كانت فئوية أو مناطقية أو أيديولوجية.

هذا التشظي يُفضي إلى انحسار الثقافة العامة بوصفها فضاءً مشتركًا للحوار والتفاعل. إذ لم تَعُد الثقافة في هذا السياق مشروعًا جامعًا أو حوارًا نقديًا يطمح إلى تشكيل وعي جماعي، بل تحوّلت إلى أرخبيل من الخطابات المتوازية، لاسيما المفرّغة، التي لا تتقاطع إلا لتصطدم.

وتكمن خطورة هذه الظاهرة في أمرين:

1. تفريغ الثقافة من بعدها الجدلي: إذ تضعف قيم الحوار والنقاش المفتوح، ويتم استبدالها بالتكرار داخل الدائرة المغلقة، مما يؤدي إلى جمود الفكرة وركود الذائقة.

2. تراجع دور المثقف النقدي: لأن المثقف الذي يخرج من نسقه الضيق يُتَّهم غالبًا بالتخلي عن “الهوية”، فيُقصى أو يُشكك في دوافعه، فتخسر الثقافة صوتًا حيويًا كان يمكن أن يُحدث الأثر المطلوب.

وهكذا، فإن الجزر الثقافية لا تنعزل فقط عن بعضها، بل تُعزل الثقافة ذاتها عن أفقها الأوسع، وتحاصرها داخل قوالب الهويات الفرعية. وبمرور الزمن، تُصبح الثقافة هامشية في حياة المجتمع، غير قادرة على التأثير أو التغيير، لأن سلطة الانتماء تتغلب على سلطة السؤال، وسلطة العُرف تتغلب على حرية النقد.

إن تفكيك هذه الجزر وإعادة وصل الحقول الثقافية ببعضها، هو أحد أهم أهداف النقد الثقافي. لأنه لا يدافع عن ثقافة “موحَّدة” بل عن ثقافة متداولة، حرة، ومتقاطعة، تُنتج ذاتها من خلال الاختلاف لا الانعزال.

في هذا الإطار، يصبح النقد الثقافي ضرورة لفهم هذه الظواهر لا كمشكلات طارئة، بل كبُنى مترسّخة تُعيد إنتاج نفسها داخل المنظومة الثقافية. فالنقد هنا لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يُسائل علاقتها بالهوية، والتاريخ، والخطاب السائد، في محاولة لتفكيك أسباب تشكّل هذه الجزر، وتحليل آليات اشتغالها ضمن النسيج الاجتماعي الأشمل.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

أخوة ليلى.. المجتمع في مواجهة المرأة


يُعد فيلم “أخوة ليلى” لكاتبه ومخرجه سعيد روستايي أحد أبرز الأفلام الإيرانية الحديثة التي تعكس الصراعات العائلية في ظل التغيرات الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالمجتمع الإيراني. 

يدور الفيلم حول ليلى، المرأة القوية التي تحاول إنقاذ عائلتها من الفقر المدقع، وسط إخوة يتصارعون فيما بينهم بسبب الطموحات الشخصية والميراث.
يتناول الفيلم بواقعية لاذعة المشكلات الاجتماعية مثل البطالة، الفساد، والصراع بين القيم العائلية والتغيرات الاقتصادية. ومن خلال سيناريو متقن، يبرز الفيلم العلاقة المتوترة بين أفراد الأسرة، حيث تحاول ليلى جاهدةً إقناع إخوتها بمشروع استثماري قد يكون طوق النجاة لهم، لكن الطمع والتقاليد يقفان عقبة أمام ذلك.
جاء الحوار في الفيلم عميقا وواقعيا، يعكس التوتر النفسي والاجتماعي الذي يعيشه الأفراد. لا توجد مبالغات أو خطب مفتعلة، بل تسلسل درامي ينساب بسلاسة، مما يجعل المشاهد ينغمس في تفاصيل الحياة اليومية
لشخصيات الفيلم.

الشخصيات
يتميز فيلم “أخوة ليلى” بشخصياته المعقدة التي تمثل جوانب مختلفة من المجتمع الإيراني. من خلال هذه الشخصيات، يقدم الفيلم دراسة نفسية واجتماعية للعائلة الإيرانية، حيث يتصارع كل فرد مع ظروفه وطموحاته في ظل القيود الاقتصادية والثقافية.
1. ليلى (ترانه عليدوستي) – المرأة القوية والمهمشة
• الدور: البطلة ومحور القصة، تمثل العقل المدبر للعائلة.
• التحليل: ليلى هي شخصية قوية، ذكية، وعملية، لكنها تعاني من التهميش بسبب كونها امرأة في مجتمع ذكوري. تحمل على عاتقها مسؤولية إنقاذ إخوتها من الفقر، لكنها تواجه عقبات بسبب تقاليد العائلة والطمع الداخلي.
• الرمزية: تمثل المرأة الإيرانية العصرية التي تسعى للاستقلال والنجاح، لكنها تُحاصر بين المسؤوليات الأسرية والتقاليد الاجتماعية التي تعيق تقدمها.
2. الأب (سعيد بورصميمي) – رمز السلطة والتقاليد القديمة
• الدور: الأب المتسلط الذي يتمسك بالماضي ويرفض التغيير.
• التحليل: يرى الأب أن الميراث العائلي مرتبط بالشرف والمكانة الاجتماعية أكثر من كونه وسيلة للنجاة الاقتصادية. يصر على استخدام المال بطريقة تعزز نفوذه التقليدي بدلاً من التفكير في مستقبل أولاده.
• الرمزية: يمثل الأبوية التقليدية التي تعرقل التقدم من خلال التمسك بالهيبة الفارغة بدلاً من التفكير الواقعي في التحديات الاقتصادية.
3. بيمان معادي (منوشهر) – الفشل القيادي
• الدور: الأخ الأكبر الذي يفترض أن يكون قائد العائلة، لكنه ضعيف وغير قادر على اتخاذ قرارات صحيحة.
• التحليل: يتمتع بصفات قيادية شكلية لكنه يفتقر إلى البصيرة الاقتصادية، مما يجعله مجرد واجهة للسلطة العائلية دون تأثير حقيقي.
• الرمزية: يجسد القيادات الفاشلة في المجتمع، حيث يحاول التمسك بالمكانة التقليدية دون امتلاك القدرة على مواجهة التحديات الحديثة.
4. نويد محمد زاده (علي رضا) – الغضب والاندفاع
• الدور: أحد الإخوة الذي يعاني من الغضب وعدم الاستقرار النفسي.
• التحليل: شخص متمرد، لا يؤمن بالسلطة العائلية، لكنه يفتقر إلى استراتيجية واضحة لتغيير وضعه. يعبر عن إحباطه بالتصرفات العدوانية بدلاً من البحث عن حلول عملية.
• الرمزية: يمثل الشباب الغاضب في إيران، الذين يشعرون بأنهم ضحايا للنظام الاجتماعي والاقتصادي، لكنهم غير قادرين على إيجاد طريق واضح للخروج من الأزمة.
5. الإخوة الآخرون – الطمع والانقسام الداخلي
• الدور: شخصيات ثانوية لكنها تعكس التشرذم داخل العائلة.
• التحليل: كل واحد منهم يسعى لتحقيق مكاسب شخصية على حساب العائلة، مما يعكس كيف تؤدي الأنانية والطمع إلى تدمير الروابط العائلية.
• الرمزية: يمثلون الانقسامات الداخلية في المجتمع، حيث يسعى كل فرد لتحقيق مصالحه الخاصة بدلاً من التفكير في الحل الجماعي.
6. الأم مثلت العاطفة والصبر والتضحية، لكنها في الوقت ذاته شخصية سلبية لا تملك قوة التأثير على قرارات العائلة. رغم حضورها الهادئ، إلا أنها تعكس مأساة المرأة الإيرانية التقليدية التي تجد نفسها وسط صراعات لا تملك القدرة على التحكم فيها.
هي الركيزة العاطفية للعائلة، تحاول تهدئة الأوضاع بين الأب والأبناء، لكنها لا تمتلك سلطة حقيقية. تعيش دور المراقِبة الصامتة، فهي ترى كيف تنهار العائلة لكنها تكتفي بالتحسر دون القدرة على التدخل الحاسم. وتحمل في طيات شخصيتها الاستسلام والخضوع للتقاليد، مما يجعلها نموذجًا للأمهات اللواتي كبرن في ظل نظام أبوي لا يمنحهن القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية. المفارقة أن الأم كانت في صراع مستمر مع المرأة / ابنتها ليلى، لكونها ترى فيها القوة الغائبة عنها
الرمزية:
• تمثل أفكار المجتمع القديمة التي تراقب التغيرات من دون أن تتدخل، تمامًا كما تفعل بعض الأجيال الأكبر سنًا التي تشهد انهيار القيم الاجتماعية دون محاولة التغيير. كما تعكس التهميش النسوي في المجتمع التقليدي، حيث يُنظر إلى النساء كداعمين للعائلة لكن دون منحهن السلطة الفعلية في صنع القرار.
ورغم أن شخصية الأم ليست المحرك الرئيسي في القصة، إلا أنها تعكس مصير الأمهات في العائلات المحافظة، حيث يتحملن عبء المشكلات العائلية لكن دون امتلاك القدرة على التصرف. هي مثال للمرأة التي فقدت صوتها وسط نظام أبوي صارم، مما يجعل شخصيتها حزينة وعميقة في الوقت ذاته.
أبرز الحوارات في فيلم “أخوة ليلى”
يتميز الفيلم بحوارات قوية ومؤثرة تعكس الصراعات العائلية والاجتماعية التي يمر بها الأبطال. الحوارات ليست مجرد كلمات، بل هي صراعات مصغرة تجسد الانقسامات بين الشخصيات، سواء بين ليلى وإخوتها، أو ليلى ووالدها، أو حتى بين الإخوة أنفسهم.
1. مواجهة ليلى مع إخوتها – الحلم الضائع
ليلى: “أنتم لا تفهمون! هذه ليست مجرد فكرة، إنها فرصتنا الأخيرة للخروج من هذا المستنقع!”
المعنى: هنا، تعكس ليلى إحباطها من إخوتها الذين يرفضون الاستماع إليها، وهي لحظة تكشف الفرق بين التفكير العملي (ليلى) والعاطفة والطمع (الإخوة).
2. صراع الأب مع ليلى – سطوة التقاليد
الأب: “الشرف لا يُشترى بالمال يا ليلى، لكنه يُحفظ به!”
ليلى (بغضب): “ما فائدته إذا كنا جوعى؟!”
المعنى: يوضح هذا الحوار التناقض بين الأب، الذي يقدس القيم التقليدية والمظهر الاجتماعي، وليلى التي ترى الواقع بعيون عملية. إنه صراع بين جيلين، بين ماضٍ متجمد ومستقبل يتطلب التغيير.
3. الإخوة وصراعهم حول الذهب – الأنانية والخذلان
أحد الإخوة (باحتقار): “لماذا علينا أن نسمع لامرأة؟ أنتِ تحلمين، ولن نصبح خدامًا لكِ!”
ليلى (بهدوء جارح): “أنا فقط أحاول إنقاذكم من أنفسكم، لكنكم تفضلون الغرق.”
المعنى: في هذه اللحظة، نرى مدى تجذر العقلية الذكورية، حيث لا يستطيع الإخوة تقبل فكرة أن تكون ليلى أذكى منهم، حتى لو كانت محاولاتها لصالحهم.
4. لحظة الانهيار – اعتراف ليلى بالهزيمة
ليلى (بصوت مكسور): “لقد حاولت، لكن لا أحد يريد أن يُنقَذ.”
المعنى: هذه الجملة تلخص مأساة ليلى كشخصية عالقة في بيئة ترفض التغيير، رغم حاجتها الماسة إليه. إنها لحظة الاستسلام، حيث تدرك أن عقلانيتها وذكائها لن يكونا كافيين ضد عائلة تحكمها الأنانية والعادات البالية.
لماذا الحوارات قوية؟
كان كل حوار يحمل انفعالات حقيقية، من الغضب إلى الاستسلام. وتعبر عن الشخصيات بوضوح. فلا يوجد حوار زائد أو عشوائي، بل كل جملة تخدم الحبكة.

التصوير والإخراج
يبرع سعيد روستايي في تقديم فيلمه بأسلوب واقعي وحاد، حيث يركز على التفاصيل الحياتية التي تجعل المشاهد يشعر وكأنه يعيش داخل الأحداث. يعتمد على السرد البطيء المتصاعد، مما يمنح الشخصيات مساحة للتطور ويجعل التوتر العائلي ملموسًا في كل مشهد. من خلال:
التصعيد الدرامي التدريجي: يبدأ الفيلم بمشكلات يومية، لكنه يتطور إلى صراع عائلي واقتصادي مكثف، مما يعكس عبثية الحياة في ظل الفقر والصراعات الاجتماعية.
التحكم في الإيقاع: رغم أن بعض المشاهد تبدو طويلة، إلا أنها تساهم في خلق إحساس بالضغط النفسي الذي يعيشه الأبطال.
إبراز الشخصيات: يستخدم روستايي زوايا تصوير خاصة تجسد الشخصيات وكأنها عالقة في مصيرها، مثل اللقطات القريبة التي تكشف تفاصيل الوجوه والانفعالات بدقة.
التصوير – المرآة البصرية للواقع الكئيب، ليعتمد التصوير في الفيلم على الألوان الباردة والداكنة، مما يعكس الواقع القاسي الذي تعيشه الشخصيات. المصور السينمائي هادي بهزاد نجح في جعل الكاميرا جزءًا من الصراع النفسي والاجتماعي، وذلك من خلال:
اللقطات القريبة (Close-ups): تُظهر وجوه الشخصيات بانفعالاتها الحقيقية، مما يعزز الشعور بالعجز والغضب.
التصوير اليدوي (Handheld Camera): يضفي إحساسًا بالعفوية والواقعية، كأن المشاهد يشاهد وثائقيًا عن معاناة عائلة إيرانية.
الإضاءة الطبيعية: غياب الأضواء الاصطناعية يجعل المشاهد تبدو أكثر واقعية، مما يزيد الإحساس بالقسوة الاجتماعية والاقتصادية.
زوايا الكاميرا الضيقة والمغلقة: تعكس شعور الشخصيات بالاختناق داخل أوضاعهم المأزومة، حيث تبدو البيوت والشوارع وكأنها سجون غير مرئية.

الموسيقى والمؤثرات
جاءت الموسيقى التصويرية للموسيقار رامن كوشا  هادئة لكنها مؤثرة، تدعم المشاهد العاطفية دون أن تفرض نفسها بقوة. لعبت المؤثرات الصوتية دورًا مهمًا في تعميق الإحساس بالمكان، خاصةً في المشاهد التي تعكس صخب المدينة والفوضى الاجتماعية.

“أخوة ليلى”  فيلم إنساني بامتياز، يعكس قضايا اجتماعية وسياسية دون خطاب مباشر، ويعتمد على الشخصيات القوية والدراما العائلية العميقة لإيصال رسالته. بإخراج محكم وأداء استثنائي، يستحق الفيلم أن يكون من بين أفضل الأعمال الإيرانية الحديثة.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

هوبال.. المسير والمصير!

فيلم “هوبال” دراما سعودية أُنتجت عام 2024، من إخراج عبدالعزيز الشلاحي وتأليف مفرج المجفل. ويضم فريق العمل مجموعة من الممثلين البارزين والواعدين.

يتميّز فيلم “هوبال” بقصة عميقة تستعرض الصراع بين الإنسان والطبيعة، وكذلك الصراعات الداخلية للشخصيات. تدور أحداث الفيلم حول عائلة الجد “ليام”، الذي قرّر الانتقال إلى الصحراء ليعيش في عزلة مع أبنائه وأحفاده، سعيًا للهروب من ضوضاء المدينة وما يصفه بـ”ذنوب الحداثة”، والفكرة الشائعة باقتراب “أشراط الساعة” بعد الغزو العراقي للكويت في أغسطس ١٩٩٠.

يستخدم الفيلم هذا الإطار ليتناول مواضيع إنسانية واجتماعية تعكس تجربة البحث عن الطهارة والسكينة بعيدًا عن صخب العالم.
تبدأ قصة الفيلم حول القرار الغامض من الجد ليام بالابتعاد عن حياة المدينة، ويجبر عائلته على مرافقته إلى عمق الصحراء. وبينما يحاول الجميع التأقلم مع البيئة القاسية، تبدأ الخلافات بين أفراد الأسرة بالظهور. كل شخصية تحمل أعباءها وخلافاتها الداخلية، مما يضيف طبقات درامية معقدة. ومع مرور الوقت، يظهر أن الجد ليس مجرد رجل هارب من الواقع، بل هو شخص يبحث عن تكفير عن خطايا قديمة. ومن خلال بعض الحوارات والتلميحات، يكتشف المشاهد أن اختياره للعزلة له علاقة بحدث مأساوي من ماضيه، وهو ما يثير تساؤلات حول معنى الغفران والهروب من المسؤولية.

شخصيات الفيلم:
• الجد ليام: الشخصية المحورية، يمثل الحكمة الممزوجة بالعزلة. صراعه الداخلي بين ماضيه ورغبته في حياة نقية يجعل شخصيته عميقة وملهمة.
• سارة: زوجة الابن الأكبر، التي تمثل صوت العقل والواقعية في القصة. تعاني من صراع داخلي بين رغبتها في دعم العائلة وبين شكوكها حول قرار الجد.
• الأحفاد: يمثلون الجيل الجديد الذي يشعر بالضياع بين عالمين مختلفين: حياة المدينة المتحضرة وعزلة الصحراء القاسية. ويبرز هنا الحفيدان عسّاف وريفة، ولعل عسّاف يمثل الجيل الذي يتبع أثر الجيل السابق، بكل تناقضاته.
يمتاز الفيلم بالرمزية المكثفة التي تعكس صراعات إنسانية وجودية:
• الصحراء: تمثل العزلة والتنقية، لكنها أيضًا تعكس القسوة والخطر. الصحراء في الفيلم ليست مجرد مكان، بل هي شخصية بحد ذاتها، تختبر صبر العائلة وقوة روابطها.
• المدينة مقابل الصحراء: المدينة تمثل الحداثة والتكنولوجيا والذنب، بينما الصحراء ترمز إلى البساطة والطهارة، لكنها أيضًا مليئة بالمخاطر.
• الحيوانات البرية: تظهر في الفيلم كرموز للحرية والقوة، لكنها تعكس أيضًا التحديات التي تواجهها العائلة في التكيف مع الطبيعة، كما هي الجمال التي ينادونها ب (هوبال)، فهي تحمل قدرا من الطاعة والصبر على العطش، وربما الحقد على الواقع.
فيلم “هوبال” ليس مجرد دراما عائلية، بل هو عمل سينمائي يعكس قضايا إنسانية ووجودية، ويستحق أن يُشاهد بتأنٍ لفهم أبعاده الرمزية والفلسفية.

فريق العمل:
• إبراهيم الحساوي: قام بدور الجد “ليّام”، الشخصية المحورية التي تقود العائلة وتفرض عليها العزلة في الصحراء، وبقيت رمزية حتى في غيابها الغامض.
• مشعل المطيري: جسّد دور “شنار بن ليّام”، أحد أبناء الجد ليّام، يسير على خطى الأب ليّام في التشدد بالبقاء بالصحراء، مع جانب أناني انتهازي في قنص الفرص والمتع والذهاب للمدينة بحجة جلب الماء الذي يهرقه قبل أن ينفذ.
• ميلا الزهراني: لعبت دور “سرّا”، وهي شخصية الأم التي تهتم بأبنائها وتواجه تحديات الحياة في الصحراء.
• حمدي الفريدي: أدى دور “بتال بن ليّام”، أحد أفراد العائلة، شخصية تعيش واقعا مترددا بين الصحراء وطاعة الأب ليّام والمدينة حيث بنت مرزوق التي يهواها.
• دريعان الدريعان: قام بدور “سطّام بن ليّام”، أحد أبناء الجد ليّام، الذي ترك الصحراء،وذهب للمدينة ثم عاد طالبا الغفران قبل حلول نهاية العالم.
• عبدالرحمن عبدالله: جسّد شخصية “نهار بن ليّام”، أحد أفراد العائلة، الشخصية الغامضة والحمل الثقيل بما رمز إليه ارتدائه الفروة طوال الفيلم حتى لحظة ما.
• حمد فرحان: لعب دور “عسّاف”، الشاب الذي يسعى لإنقاذ ابنة عمه “ريفة” المصابة بالحصبة، ويمتلك قدرة على قص الأثر وأجوبة الأسئلة الصعبة.
• أمل سامي: أدت دور “ريفة”، ابنة العم المصابة بالحصبة، تمثل الحياة المثقلة والمحبوسة في الظل خوفا من الضوء بحجة المرض.
• فايز بن جريس: شارك في دور “ماجد” القصير.
• ريم فهد: لعبت دور “صيتة”.
• نورة الحميدي: جسّدت دور “الجدة نورة”، الشخصية الصلبة بعد الأب ليّام ومرشدة العائلة بعده.
• راوية أحمد: أدت دور “معتوقة”، الابنة التي احتضنتها وربتها نورة.
ويحسب للفيلم الكتابة العميقة لمفرح المجفل وتمكنه من لغة البيئة ومعتقداتها وأفكار شخصياتها. وما كان لهذه القصة أن تخرج لولا الرؤية البصرية المذهلة للمخرج عبدالعزيز الشلاحي في تقديم النص على مستويات اللقطات البانورامية، إلى جانب الموسيقى المؤثرة للفنانة سعاد بشناق التي تعتبر نصًا موازيا.

أخيرا .. يقدّم الفيلم تساؤلات فلسفية عميقة حول:
• هل يمكن للإنسان الهروب من ماضيه؟
• إلى أي مدى يمكن للعائلة أن تبقى متماسكة في وجه التحديات؟
• هل العزلة هي الحل لإيجاد السلام الداخلي، أم أنها هروب من الواقع؟

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

مائة عام من العزلة.. تحدي الرواية والدراما

أصدرت منصة “نتفليكس” في ديسمبر 2024 مسلسل “مائة عام من العزلة”، المقتبس من رواية الكاتب العالمي والكولومبي الأصل غابرييل غارسيا ماركيز، بعد حصول “نتفليكس” على حقوق تحويل الرواية إلى مسلسل عام 2019، بمباركة من ورثة ماركيز، خاصة ابنيه رودريغو وغونزالو، اللذين شاركا كمنتجين منفذين.
تم تصوير المسلسل في كولومبيا، حيث بُنيت أربع نسخ من بلدة ماكوندو المُتخيّلة لتجسيد تطور الزمن عبر الأجيال.

تميّز العمل بميزانية ضخمة، تُعد من أكبر الميزانيات المخصصة لإنتاج غير أمريكي على المنصة. لهذا يُعد هذا العمل من أكثر المشاريع الطموحة للمنصة، حيث تم تصويره بالكامل في كولومبيا وباللغة الإسبانية، مع فريق عمل كولومبي، تماشيًا مع رؤية ماركيز الأصلية.
حصل المسلسل على تقييمات إيجابية من النقاد، حيث نال نسبة 94% على موقع “Rotten Tomatoes” ، إذ أشاد النقاد بالتمثيل، والإخراج، والقدرة على نقل روح الرواية إلى الشاشة، مع الحفاظ على عناصر الواقعية السحرية التي تميزت بها.
كما تميز المسلسل بأداء قوي من الممثلين الكولومبيين، خاصة مارليدا سوتو في دور أورسولا، وكلاوديو كاتانيو في دور أوريليانو بوينديا. ليتولى الإخراج كل من لورا مورا، الحائزة على جائزة “الصدفة الذهبية” في مهرجان سان سيباستيان السينمائي عام 2022، والأرجنتيني أليكس غارسيا لوبيز.
استطاع المسلسل تقديم عناصر الواقعية السحرية بمهارة، معتمدًا على المؤثرات البصرية الحية بدلاً من التكنولوجيا الرقمية، مما أضفى مصداقية وجمالية على المشاهد. على سبيل المثال، في مشهد سقوط الأزهار من السماء، تم استخدام أزهار حقيقية بدلاً من المؤثرات الرقمية.
وكما هو معروف، تعدّ رواية مائة عام من العزلة، التي صدرت عام 1967، من أعظم روائع الأدب العالمي، إذ تمزج بين الواقعية والسحر في سرد ملحمي لحياة عائلة بوينديا في قرية ماكوندو الخيالية. أما مسلسل “نتفليكس”، الذي تم إنتاجه في 2024، فهو محاولة طموحة لتقديم هذه الرواية المعقدة بصريًا إلى جمهور عالمي. فيما يلي مقارنة بين الرواية والمسلسل من عدة جوانب:
1. السرد:
اعتمدت الرواية على أسلوب السرد الشامل، حيث يروي غابرييل غارسيا ماركيز أحداث الرواية بلهجة شبه خرافية، ممزوجة بالواقعية السحرية. وجاء تسلسل أحداث الرواية بشكل دائري وغير خطي، مما يعكس فكرة الحتمية التاريخية والتكرار في حياة العائلة.
في حين اعتمد المسلسل على سرد خطي أكثر وضوحًا، ما يسهل على المشاهدين متابعة تطور الأحداث، خاصة مع تشابك الأجيال. كما حاول المسلسل الحفاظ على الواقعية السحرية، فإنه فقد أحيانًا العمق الفلسفي الذي تميز به السرد الأصلي، مما يبرهن على صعوبة تحويل السرد اللّفظي المكتنز بالمعنى إلى سرد بصري يعتمد الصورة في كثير من الجوانب.

2. الواقعية السحرية :
تعدّ الرواية المثال الأبرز للواقعية السحرية؛ حيث تم تقديم الأحداث الخارقة للطبيعة كجزء طبيعي من حياة الشخصيات. مثل صعود ريميديوس إلى السماء وسقوط الزهور من السماء تعكس السحرية بسلاسة دون تفسيرات.
ونقل المسلسل الواقعية السحرية باستخدام مؤثرات بصرية متقنة، مثل سقوط الأزهار أو المشاهد المرتبطة بشبح برودينثيو أغيلار.

3. الشخصيات:

تتيمز الرواية بكثرة الشخصيات التي تنتمي لعائلة بوينديا، مع تكرار الأسماء مثل أوريليانو وخوسيه أركاديو، مما يعكس موضوع التكرار والقدر. وتم تقديم الشخصيات بطريقة رمزية، بما تمثله من أفكار أو حالات إنسانية.
لذلك، قام المسلسل بتقليل عدد الشخصيات والتعمق في بعضها لتسهيل السرد البصري، مما جعل الشخصيات أكثر “إنسانية” وأقل رمزية. وتم تطوير بعض الشخصيات بشكل يختلف عن الرواية، مثل أورسولا، التي حصلت على دور أكثر تأثيرًا.

4. الحبكة:

جاءت الحبكة معقدة ومليئة بالتشابكات العائلية والأحداث العجائبية التي قد تربك القارئ أحيانًا. لتنتهي الرواية بنبوءة عن نهاية عائلة بوينديا، مما يعكس عبثية الجهد الإنساني.
في حين اختصر المسلسل بعض الأحداث وتجنب التكرار المبالغ فيه، لجعل القصة أكثر جاذبية للمشاهدين.
لتكون النهاية جاءت مشابهة للرواية، لكنها أقل حدة في التأكيد على الحتمية والزوال.

ولأن الرواية تعالج موضوعات كبرى مثل القدر، العزلة، الحتمية التاريخية، والاغتراب الإنساني وما طرحته من تساؤلات عميقة عن معنى الحياة ودورة الزمن، ركّز المسلسل على الشخصيات الرئيسية في الرواية متمثلة أولا بخوسيه أركاديو بوينديا مؤسس ماكوندو، القرية الخيالية التي تدور فيها أحداث الرواية. يمثل الطموح البشري والرغبة في الابتكار والاكتشاف. ولعل قراره بتأسيس القرية في منطقة مجهولة يعكس الروح الريادية التي تحاول تحدي المجهول. كذلك اهتمامه بالعلوم والخيمياء، بالتعاون مع الغجري ميليسيديس، يظهر بحثه المستمر عن الحقيقة والخلود، رغم أنه يقوده إلى الجنون في النهاية.
ولعل خوسيه أركاديو يمثل الحلم الإنساني الطموح الذي ينهار تحت وطأة العزلة والهوس. عزلته الجسدية والعقلية في نهاية حياته تجسد فشل الإنسان في مواجهة عبثية العالم.
أما شخصية الأم أورسولا إيغواران، فقد مثلت رمز الثبات والحكمة في دورها كعمود للعائلة، وهي الشخصية الأكثر ثباتًا واستمرارية في الرواية، حيث تعيش عبر أجيال متعددة. كرمز  للقيم التقليدية والأخلاقية التي تحاول توجيه العائلة وحمايتها من الانهيار. ولعل دورها في إدارة شؤون الأسرة والاقتصاد يجعلها القوة الحقيقية وراء استمرار عائلة بوينديا، رغم كونها أمية، إلا أنها تتميز ببصيرة عميقة وقدرة على استشراف مصير عائلتها. تحذر من تكرار الأخطاء، لكنها ترى تلك الأخطاء تتكرر جيلاً بعد جيل. لتمثل أورسولا الحكمة التقليدية والصمود الإنساني في مواجهة الحتمية التاريخية. حياتها الطويلة تعكس محاولتها عبثًا كسر دورة الزمن والقدر.
الشخصية الثالثة، الابن الثاني أوريليانو بوينديا، رمز الصراع والانعزال، ويُعد أحد أكثر الشخصيات تعقيدًا في الرواية.
ليتحول من شاب حالم إلى قائد عسكري يخوض 32 حربًا أهلية، لكنه يفشل في تحقيق أهدافه.ليمثل الوجه السياسي للرواية، حيث يعكس الصراعات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها أمريكا اللاتينية. وبالرغم
من شهرته كقائد، يعيش أوريليانو عزلة داخلية عميقة. فهو دائمًا بعيد عن عائلته ومجتمعه، ويبدو وكأنه يسعى للهرب من ذاته. وكأن أوريليانو رمز العبثية في السعي وراء السلطة والمعرفة. يصنع أسماكًا ذهبية خلال عزله، في إشارة إلى عدم جدوى جهوده وخيبات أمله.
تكمن العزلة في رواية مائة عام من العزلة في عدة مستويات، وهي ليست مجرد حالة فيزيائية أو اجتماعية، بل تمتد إلى عمق نفسي وفلسفي يشمل الشخصيات، العائلة، والمجتمع ككل. غابرييل غارسيا ماركيز يعالج مفهوم العزلة باعتباره جزءًا أساسيًا من الطبيعة الإنسانية والحياة. فماكوندو تمثلت رمزا للعزلة الاجتماعية والجغرافية والتاريخية. إذ بقيت معزولة عن العالم الخارجي في بدايتها، ولا تتواصل مع الحضارة إلا من خلال الغجر والتجار. ومع مرور الزمن، أصبحت القرية مرهونة للصراعات السياسية والأزمات، لكنها تفقد هويتها وتُنسى في النهاية، حيث تصل العزلة الاجتماعية ذروتها عندما تفقد القرية سكانها وتتلاشى تدريجيًا، معبرة عن انهيار المجتمع. وأن العزلة ليست فقط حالة شخصية أو اجتماعية، بل هي مصير محتوم لكل من يحاول كسر قيود الزمن والقدر، مما يجعل الرواية تأملًا عميقًا في عبثية السعي الإنساني كما صوّرها ماركيز. من أجل ذلك، جاءت رؤية المخرج البصرية للرواية معتمدة على المزج بين الواقعية والسحر، مع احترام العناصر الرمزية للرواية. فاستُخدمت تقنيات سينمائية متطورة لتقديم ماكوندو كعالم نابض بالحياة، لكن في نفس الوقت يكتنفه الغموض والقدرية. وربما نجح المسلسل في تقديم تجربة بصرية غنية تُبرز روح الرواية، مع الحفاظ على توازن دقيق بين العناصر الأدبية والمرئية. وهو ما يشكّل تحديا كبيرا للمشاريع الروائية المطروحة على طاولة التجريب الدرامي، إن كانت ستمثّل الرواية المُختارة ساحةً خصبة للتخييل الدرامي أم صدمة على سطحية العمل الروائي نفسه!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

البطريق.. بناء العالم من الأسفل!



قدمت سلسلة البطريق  التي تم عرضها لأول مرة على قناة max قبل أسابيع، فصلاً جديدًا ومثيرًا في عالم باتمان المتوسع باستمرار. المسلسل من بطولة كولين فاريل في دور أوزوالد كوبلبوت، المعروف باسم البطريق، إذ يتعمق هذا الجزء الفرعي في عالم جوثام سيتي السفلي القاسي، ويستكشف موضوعات القوة والطموح والجريمة.

تعدّ شخصية البطريق أحد أكثر الأشرار شهرة في عالم باتمان، وغالبًا ما يتم تصويره على أنه زعيم جريمة لديه ميل إلى المخططات المعقدة. على عكس الأشرار الآخرين في تراث باتمان، فإن كوبلبوت مبني على الواقع، ويعتمد على دهائه وطموحه وذكائه بدلاً من القوى العظمى. تلقى تصوير كولين فاريل للبطريق في فيلم باتمان (2022) استحسان النقاد، حيث أظهر نسخة أكثر دقة وطبقية للشخصية.  تهدف هذه السلسلة إلى البناء على هذا الأساس، مما يمنح المعجبين فهمًا أعمق لصعود كوبلبوت إلى السلطة.

يحمل اسم أوزوالد كوبلبوت، الأنا البديلة للبطريق في عالم باتمان، دلالات مميزة تتوافق مع شخصيته.

فيشير اسم أوزوالد والذي معناه “قوة الإله” أو ” الحاكم الإلهي” إلى شخص يتمتع بالسلطة أو القوة، مما يعكس طموح كوبلبوت في السيطرة على العالم السفلي في جوثام.

أما كوبلبوت، فهو اسم مركب من كوبل، أي الحجارة الصغيرة أو أحجار الرصف، والتي غالبًا ما ترتبط بالشوارع أو السطح الخشن غير المستوي. وبوت بمعنى الوعاء، ويمكن أن يشير إلى حاوية، ترمز إلى التراكم أو الجمع. ليستحضر  اسم “كوبلبوت” صورة شخص متجذر في عالم قاسٍ وصعب – مثل شوارع جوثام المظلمة – والذي يجمع القوة والنفوذ بمرور الوقت.
إذن  فالجمع بين أوزوالد و كوبلبوت يشير إلى شخصية تطمح إلى السلطة والسيطرة، ولكنها تعمل في بيئة قاسية وواقعية. وهذا يتماشى مع شخصية البطريق باعتباره زعيم جريمة ماكر وذكي ينهض من بدايات متواضعة أو صعبة ليصبح قوة في التسلسل الهرمي الإجرامي في جوثام.

دارت  أحداث المسلسل حول أوزوالد كوبلبوت وهو يتنقل بين فراغ السلطة الذي خلفه سقوط كارمين فالكون، زعيم الجريمة السابق في جوثام. ومع فوضى المدينة، ليرى كوبلبوت فرصة لتأكيد نفسه باعتباره الزعيم الجديد لعالم جوثام السفلي. يعد العرض باستكشاف تحوله من ملازم ماكر إلى زعيم لا يرحم، وتفصيل صراعاته وتحالفاته وخياناته على طول الطريق.

لعبت مدينة جوثام، كما هي الحال دائمًا، دورًا حاسمًا. تشتهر المدينة بجمالياتها المظلمة والجوية، وستكون بمثابة خلفية وشخصية في حد ذاتها، مما يؤكد على الطبيعة القاسية والفاسدة للعالم الذي يسكنه كوبلبوت.

توّلت الكاتبة لورين ليفرانك إدارة المسلسل، مع مات ريفز، مخرج فيلم The Batman، كمنتج تنفيذي، ليضمن هذا التعاون نغمة وأسلوبًا متسقين، يتماشى مع النهج الواقعي المستوحى من أفلام الجريمة الذي تم تأسيسه في الفيلم. يهدف الفريق الإبداعي إلى مزج الدراما الإجرامية مع سرد القصص التي تحركها الشخصية، مما يوفر منظورًا فريدًا للجانب الإجرامي في جوثام.

وقد أعرب كولين فاريل عن حماسه لإعادة تمثيل الدور، مشيرًا إلى أن المسلسل سمح له باستكشاف تعقيدات أوزوالد كوبلبوت بشكل أكبر. لتتعمق رحلة البطريق في نفسيته، وتكشف عن نقاط ضعفه ودوافعه، مما يجعله أكثر من مجرد شرير ولكنه بطل مضاد مقنع.

ويمكن لمن لم يشاهد الفيلم، أن يتوقع مزيجًا من الحركة المكثفة والمكائد السياسية والدراما التي تحركها شخصية البطريق في المسلسل. وقد ضمّ العرض وجوهًا جديدة ومألوفة من الدوائر الإجرامية ورجال إنفاذ القانون في جوثام، مما قد يمهد الطريق لقصص مستقبلية في عالم باتمان.  وقد يشهد صعود البطريق إلى السلطة تنافسات شديدة وغموضًا أخلاقيًا، مما يوفر نظرة خام وغير مفلترة لتكلفة الطموح.

كما يعد المسلسل بتوسيع بناء العالم الذي تم إنشاؤه في The Batman، مما يوفر تجربة أكثر ثراءً وغامرة للمشاهدين. مع التركيز على واحدة من أكثر شخصيات Gotham إثارة للاهتمام، فإن سلسلة Penguin على استعداد لأن تكون من الأشياء التي يجب مشاهدتها لمحبي القصص المظلمة والمتطورة. وسلسلة Penguin هي أكثر من مجرد منتج فرعي؛ إنها فرصة للخوض بشكل أعمق في تعقيدات النظام البيئي الإجرامي في Gotham ونفسية واحدة من أكثر شخصياتها غموضًا. مع وجود فريق عمل موهوب وفريق إبداعي، يعد العرض بتقديم سرد مشوق يكمل ويوسع عالم Batman. مع طمس الخط الفاصل بين البطل والشرير، سيتم جذب الجمهور إلى عالم حيث لا يعرف الطموح حدودًا، وتأتي البقاء على قيد الحياة بتكلفة عالية.

بقي أن نشير إلى الأداء المذهل للممثلة كريستن ميليوتي التي أبدعت في تجسيد شخصية صوفيا (الجلاد) في سلوكيات الإجرام من رحم البراءة، وأداء الممثل الواعد رينزي فيليز في دور فيكتور التابع المخلص لأوز، فكان مثلا للولاء مقابل النكران. وأيضا أداء الممثلة ديدري أوكونيل في دور فرانسيس والدة أوز، وتجسيد حب الأم والكراهية معا لابنها، لكونه المتبقي لها بعد غرق ولديها الآخربن بسبب غيرة أوز منها، وكانت شرارة الشر الأولى، ولكن دوما يغلب حس الأمومة على الكراهية، ولعل الكاتبة فسرت ذلك نفسيا بحالة الزهايمر التي تمر بها فرانسيس.

قدمت سلسلة Penguin نظرة عميقة على صعود أوزوالد كوبلبوت داخل عالم الجريمة في جوثام، وتتضمن العديد من الاقتباسات التي لا تُنسى والتي تسلط الضوء على شخصيته وموضوعات العرض. فيما يلي بعض السطور البارزة:

أوزوالد كوبلبوت (The Penguin): “العالم ليس مهيئًا لنجاح الرجل الصادق. يجب أن يكون هذا هو الحلم الأمريكي. هل تعلم؟ قصة جميلة بنهاية سعيدة. لكن هذه ليست الطريقة التي يعمل بها العالم. أمريكا هي الاحتيال. ليس لأنني أشتكي.”

أوزوالد كوبلبوت: “العالم لم يُبنى من أجل أشخاص مثلنا. لهذا السبب يتعين علينا أن نأخذ أي شيء نقرر أنه ملكنا. لأن لا أحد سيمنحنا إياه، أعني، ليس بدون قتال.”

صوفيا فالكون: “لقد كذب عليّ الرجال لمدة عشر سنوات. ثم عدت إلى المنزل، ولم أجد أي شيء. لقد اعتقدوا أنني مكسورة. أنا لست مكسورة. أنا لست المريضة. وأنت لست كذلك. العالم هو المريض.”

أوزوالد كوبلبوت: “هل تريد البقاء على قيد الحياة؟ عليك التكيف. عليك الاستجابة للبيئة والموقف، عليك التفكير بسرعة، عليك أن تكون سريعًا.”

تلخص هذه الاقتباسات استكشاف المسلسل للطموح والبقاء وتعقيدات المشهد الإجرامي في جوثام.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

أمنا الأرض

أيهما يشكل قدر الآخر .. الإنسان أم الأرض ؟

في رائعته المذهلة ( الحرام )، طرح الأديب الراحل يوسف إدريس قضية الأرض من خلال ” الترحيلة ” وقد انتشرت في زمن الاقطاعيات الزراعية في مصر، حيث يُستأجر الفلاحون من قراهم البعيدة للعمل في أراضي غيرهم في قرى أخرى، ولم تكن عزيزة تلك المرأة التي حملت سفاحا بعد الاعتداء عليها، سوى قدرا لمن تلده الأرض الغريبة بعدما نفتها أرضها الأم العاجزة عن احتضانها وتبنيها، برغم أنها ضحية الجرم الذي وقع عليها، وقد تكون متواطئة لصمتها لحظة الضعف، وهي التي هجرها زوجها بسبب مرض عضال أصابه ، فكان لها أن تدفع ثمن الخطيئة بكل الأحوال في نهاية الأمر بعدما خنقت وليدها في أرض غريبة كانت خصبة للحياة والموت، وهنا المفارقة ! 

في تشابك آخر، نجد قصة الفيلم الهندي ” أمنا الهند ” للمخرج محبوب خان الذي أخرجه سنة 1957 ، حيث تدور قصته حول امرأة تتزوج من رجل فلاح ميسور الحال، يملك أرضا خصبة، يتراجع حصاده مع مرور السنوات بعدما بذل كل ماله في خدمة قريته وأهلها، ليصبح بعدها واحدا من محتاجيها. فيقررالعمل مع زوجته في أرضه لوحده، حتى يتعرض حادث قطع ذراعيه  بسبب صخرة كبيرة اعترضت همته وحلمه في استصلاح أرضه واسترجاع وضعه السابق، لتدمر بعدها الفيضانات منزلهما، فيهجر البيت مخلفا زوجة وولدين. فتصبح الأم ربة البيت بكل همومه وأحلامه، وتعيش حياة صعبة يتقاسمها معها ولداها وقد انقسما خلقا ومنطقا في الحياة. ومثلما كانت الأم الأرض الخصبة لهما، كانت المثوى الأخير للابن الضال، الذي وجد في الشر حقا وظنا مبررا في سلب ما يريد وممن يريد.  

في حين، تأتي القصة الثالثة ( الأرض ) للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي وقدمها للسينما يوسف شاهين، و تدور أحداثها في إحدى القرى المصريةعام 1933 عندما يفاجأ أهلها بقرار حكومي بتقليل نوبة الري إلى 5 أيام بدلا من 10 أيام، وهو مالا يتسع للجميع، فيبلغ العمدة الفلاحين أن نوبة الري أصبحت مناصفة مع أراضي الاقطاعي محمود بيك الذي يستغل الموقف وينصحهم بجمع موافقتهم لمخاطبة السلطات  للتراجع عن قرار تقليل حصص الري ، ليخدعهم ويستغل جهلهم في ابصامهم على كتاب لا يعلمون مضمونه، لينشـأ طريق لسرايته من خلال أرضهـم الزراعيـة ، الأمر الذي استلزم ثورة من الفلاحين يقودهم محمد أبو سويلم، وهو الثائر القديم زمن ثورة عرابي ، فترسل الحكومة قوات الهجانة لتبسط قبضتها ، ويتم انتزاع الأراضي منهم بالقوة ، ليسحل أبو سويلم عبر أرضه وهو يحاول التشبث بجذورها لينتهي الفيلم بهذا المشهد الرمزي . وكأن قدر البشر ، هي العقدة الأكثر تعقيدا وغموضا في كشف علاقتهم مع الأرض . 

هكذا اذن، علاقة هذا الإنسان مع الأرض، مغتربا، ثابتا، فهو معذب فيها في كلا الحالتين، فلا الأم الأرض تحنو على وليدها المغترب، بل تحاسبه على ماضيه أينما كان، ولا هي منصفة لمن بقى وصمد ضد الريح العاتية واصفرار الزمن المر. فاليباب ليس بالأرض وحدها، بل بها وبانسانها:

لا ماء هنا…لا شئ سوى الصخر

صخر ولا ماء والطريق الرمليّ

الطريق الذي يتلوى عاليا بين الجبال،

جبال من صخر ولا ماء

لوكان ثمة ماء لتوقفنا وشربنا

بين الصخور لا أحد يسطيع توقفاً أو تفكيرا

جاف هو العرق والأقدام في الرمل

لوكان ثمة ماء بين الصخور

فم جبل هامد ذو أسنان نخرة

لايمكنه البصاق

هنا، المرء لا يسطيع أن يقف

أو يتمدد أو يجلس 

ليس ثمة حتى صمت في الجبال

بل رعد جاف عقيم بلا مطر

ليس ثمة حتى عزلة في الجبال

بل وجوه حمراء منتفخة، ناخرة مزمجرة

من أبواب منازل طينية متصدعة

 لو كان ثمة ماء!

من قصيدة الأرض اليباب لإليوت ترجمة فاضل السلطاني

والعاقبة لمن يعقل ويتدبر

فهد توفيق الهندال

 

التصنيفات
مدونتي

فلسفة الجوائز الأدبية

اتخذت جائزة كتارا للرواية العربية مؤخرا خطوة مهمة٫ عندما أعلنت عن قائمتها الطويلة. حيث ضمت ٦٠ عملا في فئة الروايات المنشورة، و ٦٠ عملا في فئة الروايات غير المنشورة. وهذه تعتبر أطول لائحة طويلة عرفتها الجوائز الأدبية والعربية، مما يشكل بعدا إعلاميا وتسويقيا لصالح الاعمال المرشحة وبعدا موضوعيا وشفافا حول الأعمال المشاركة والمنافسة فيما بينها، وليس مجرد الإعلان عن مشاركة مئات الأعمال ومن ثم قائمة طويلة محددة بأقل من خمسة عشر عملا!

هنا أصابت كتارا ما غاب عن ذهنية بقية الجوائز الأدبية الأخرى في كسب مصداقية أكبر وحماسا لدى الكتاب في أن تحظى أعمالهم بمزيد من التسويق والاهتمام، وليس تكريسا لأسماء بعينها. والمعروف، أن جائزة كتارا للرواية العربية، تعلن بعد نهاية الدورة أسماء المحكمين تحقيقا للشفافية والموضوعية ، لاسيما أنهم من ذوي التخصصات النقدية في السرد. وهذا يكسب الجائزة سمعة مهنية وتخصصية أكثر من غيرها.

فقد اختلفت فلسفة بعض الجوائز الأدبية، وتختلف عما كانت عليه سابقا ، فيتنافس عليها المتنافسون في كل مجالات الأدب، لتختلف من مكان إلى آخر، ومن مؤسسة لأخرى، وفق آليات تصور سياسة القائمين عليها، والغاية التي تطمح للوصول إليها. فهناك جوائز المؤسسات الثقافية الراقية التي تنشد التنافس بين المبدعين لاثراء الساحة بتعدد المواهب والمنجزات، وأخرى تسعى لاتخاذ موقع مؤثر ما على الساحة الثقافية، تربطها مصالح وروابط مع مثيلاتها في شلليات التنفيع المتبادل والمصالح الضيقة.

وإذا ما استعرضنا جملة الجوائز السنوية، فأين موقعها من التصنيفين السابقين ؟

ليس لدي اعتراض على تأسيس جوائز أدبية تمنح للمتميزين في نتاجاتهم، ولست ضد تنوعها وتعددها وتناسلها إقليميا، ولكنني أتحفظ على آلية بعضها غير الواضحة مما تزيد من تهافت / تكالب الكثيرين عليها ، مما قد يساهم في تراجع دور الأدب في توعية وتنمية المجتمع، واضفاء المزيد من المحيرات حول دور الأديب ومهمته المفترضة، هل هي إبداع من أجل الإبداع . أم ابتداع من أجل المنفعة ؟

ومع ذلك ، إن من أبرز إيجابيات هذه الجوائز وأخبارها ، المتابعة الجدية من قبل القارئ العربي بنوعيه العادي والمتخصص للأعمال المرشحة والمتنافسة. ليبقى الحكمُ الحقيقي لديهما، ولو كان شخصيا بالنسبة للأول، وتخصصيا للثاني . ولكننا في النهاية قراء، يعجبنا ما نقرأ أو لا يعجبنا وفق مزاجنا الخاص. ولا يمكننا فرضه على الآخرين . في حين نشترك معا ، بأن الأثر الجمالي للعمل ودهشته يبقيان محفورين في ذهنية القارئ الباحث عن جمال النص، بعيدا عن المزاجية والشللية في توزيع الجوائز.

أخيرا، ومن باب الطرافة، أسس الشاعر عبدالمعطي حجازي ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي، وفاز بجائزته في الدورة الثانية، وسط جدل كيف يفوز بها وقد عمل مقررا للملتقى! الامر الذي اعتبره الشعراء المشاركون بانه يخالف ابسط قواعد واحكام أي جائزة تنأى بنفسها عن شبهة الانحياز الى أي من العاملين عليها.
في حين اعتبر حجازي مقرر الملتقى فوزه بالجائزة امر يدعو للفخر والأعتزاز بها رغم أنها ليست أول اعتراف به كرائد للشعر لافتا الى ان منحه الجائزة يجيء كاعتراف حميم وبليغ له قدره وأثره ومستذكرا زملائه الشعراء الراحلين مبينا ان الجائزة ليست له فحسب وإنما لهم. أي لا شاعر ولا مبدع غيره بين صفوف الأحياء!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

تذويت النص الروائي أوتذويبه!

في كتابها النقدي المميز ( ذات المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي )الصادر عن دار الأمان المغربية عام 2013 ، تذكر الناقدة الدكتورة زهور كرام عن التجريب الروائي بأنه ” من أهم تجليات انفتاح النص الروائي على التحول . فقد أبانت الرواية التجريبية عن قدرة النص على تغيير نظام ترتيب عناصره ، وعلى التأثير في ميثاق القراءة ” . لهذا ركزت في الكتاب على التجارب الروائية التي تنزع لـ” تذويت ” النص الروائي ، وبروز ذات المؤلف باعتباره محورا نصيا ، ينبني عليه نظام الكتابة ، وفعل السرد . وهنا يجب التفريق بين الأعمال التي جاءت كسرد تخييلي عن سرد السير ذاتي، حيث يوجد اختلاف بين النوعين ، على اعتبار أن الأول تخييل لا يتطلب بالضرورة واقعية الحدث ، والثاني واقعي ينطلق من سـيرة حقيقـية ، إلا أن ذلك لا ينفي عن كونهـما نزوع نحـو أنـسـنة النـص بصـورة أكثر .

وعند تساؤلها – كرام – إن كانت التجارب الروائية الجديدة تمثل تجاوزا على أعراف السرد المألوفة ، تجيب لاحقا أن مختلف الكتاب الذين انتجوا مثل هذه النصوص هم بالأصل نقّاد ولهم كتب نقدية ، وضربت أمثلة عنهم في عدة أسماء : محمد برادة ، عبدالقادر الشاوي ، عز الدين التازي وسعيد علوش . وهي ما يجعلها تعوّل على أن يكون ذلك مساهمة في انتاج وعي معرفي حول طبيعة الكتابة السردية في المغرب ، وهو ما قد لا يستسيغه البعض هنا في المشرق !

أمام تجارب روائية حديثة ، نجد عددا منها وقد صرّح أصحابها بأنها تخييل ذاتي ، أي يصرح بعدم واقعيتها جملة ولو جاءت معظم التفاصيل واقعية ، كاقحام اسم المؤلف أوعدد من أصدقائه أو أفراد أسرته. أما المكان والزمان ، فهما غير منحصرين بكاتب دون آخر، لكونهما فضاءين متاحين للجميع في الاستناد عليهما ، كما هي أي قضية عامة إنسانية لا يمكن أن تكون ضمن ممتلكات كاتب دون آخر .

ومع ذلك، يوجد لغط كبير حول استيعاب هذا المفهوم – التخييل الذاتي – الذي مهما حاولنا الصاقه بالحداثة أو ما بعدها ، فإننا نقوم بخطأ أدبي / تاريخي لكون هذا الفن هو بالأساس حاضر في عدد من الأعمال السابقة . فنظرة لكتاب الأيام لطه حسين الذي اكتفى بالإشارة إلى نفسه على مدى بعض فصول العمل ( الصبي ) ، حتى في مقدمته التي نشرت للمرة الأولى للطبعة الخاصة للمكفوفين التي أشار فيها إلى غايته من وضع هذا الكتاب ، نجد نفسا روائيا حاضرا في السرد والوصف . كذلك الأعمال الروائية لنجيب محفوظ ، الطيب صالح ، توفيق الحكيم ، سهيل ادريس ، يحي حقي ، حنا مينة وغيرهم. وهذا ما وصل مداه إلى الكويت، وهنا من صرّح بأنها تخييل ذاتي وحضر بذاته ومن في حياته، وهناك من ترك للمتلقي حرية القراءة والتحليل، فاستبدلوا أسماءهم بأخرى مستعارة في أعمالهم مع ثبات المكان والزمان الواقعيين في الكون الروائي، حيث التكنيك الفني المعقّد.

ليطرح السؤال ذاته: ألا يعتبر ذلك سردا تخييلا أيضا ، على اعتبار أن العمل الروائي تخييلي بالأصل ؟

من وجهة نظر المقال، إن محاولة التجريب في الكتابة الروائية وفق مفاهيم نقدية حديثة، ومنها التخييل الذاتي، هي مغامرة محفوفة بالمخاطر، وربما تنحرف بالنص نحو هاوية الكتابة غير الناضجة، فتزيد العمل خفة على السطح دون التعمق في فنية العمل من ناحية بناء شخصياته ونموها، رسم المكان ورصد الزمن السردين، ولعل عدم استثمار دور السارد عليما كان أو مشاركا، ووقوع الكاتب في فخ وجهات النظر وما تحملها من أيديولوجيا محتملة، قد تخرج النص من شكله الأدبي وماهيّته كقول غير مصرّح به إلى ما هو أشبه بالخطاب خارج النص. وللأسف يغيب على كثير من النقّاد خصوصية النص الأدبي لا سيما الروائي فيقع في فخ المباشرة وماهو مصرّح ولا يستوعب وظيفة الأدب الجمالية ووظيفته الأيديولوجية. فكما يقول باختين: “المتكلم في الرواية هو دائما وبدرجات متفاوتة مُنتج أيدولوجيا وكلماته هي عينة أيديولوجية”!

وهذا ما قد يفقد العمل الروائي أو السردي عموما، أدبيته، فيذوب في خطاب آخر يرفع القبعة عن رأس الكاتب بشكل نهائي!

فهد توفيق الهندال