التصنيفات
مقالات

قراءة في مسرحية “للحدث بقية”للأديب اسماعيل فهد اسماعيل

للحدث بقية .. هكذا جاء عنوان العمل المسرحي ، بعدما ارتأى كاتبه الأديب اسماعيل فهد اسماعيل أن يكون مختصرا على أربعة مناظر فقط . وهو ما يوحي إلى أن فكرة العمل قد تكون مختزلة في مضمون يتسع له أكثر من مكان و زمان . فالحدث هو اصطلاح دال على أمر / فعل بعينه ، وبقية تدل على صيرورة الحدث و استمراره . إلا أن الكاتب كان دقيقا جدا في اختيار موقع الحدث النصي و زمانه باختيار ابن زيدون عنوانا ثانويا مكملا للعنوان الرئيسي ( للحدث بقية ). إزاء المغزى الضمني للكاتب في أن يكون العنوان مفتوحا ، يتجاوز النص و مواقعه المكانية و الزمنية ، كان لابد من البحث عن تلك الزاوية أو التقنية التي سيحاول – الكاتب – جرنا إليها و عبرها إلى ذلك الانعتاق الفكري و الفني خارج حدود النص، لاسيما وأن العمل المسرحي في جوهره محرّض فعلي لأكبر شريحة ممكنة من المتلقين ، وهو العمل الفني القديم والأكثر قدرة على تسخير طاقاته الإبداعية و الفكرية لتحريك الراكد من المشاعر و الأفكار. من هنا ، كان التركيز على وسيلة الكاتب أكثر من خطابه المرسل إلى المتلقي ، وذلك من خلال التعرف على نوعية هذه الوسيلة و دورها و موقعها في العمل ” للحدث بقية ” . وهو ما استطعنا التقاطه عبر تقنية ” الجوقة المسرحية ” ، أو الكورس ، وهي بنية أساسية في العمل المذكور. والجوقة – كما هو معروف في المسرح اليوناني – جاءت فكرتها من أداء جماعي لممارسة طقس ديني أو اجتماعي معين يعتمد الايقاع و الإنشاد ، إما بواسطة الكلام ( الشعر ) أو الحركة ( الرقص ) ليتم توظيفها أكثر بواسطة تسبس و فرانيخوس ومن جاء بعدهما. البنية الفنية للجوقة في ” للحدث بقية ” بمجرد قراءة النص و تجاوز عتبة منظره الأول ، تتضح لنا رؤية الكاتب الفنية لموقع الجوقة داخل العمل ، لنجد أنه اعتمد حضورها بشكل ثانوي في الحدث ، إلا أنها أساسية في الحوار ، وهذا ما يمكن تلمسه في مداخلاتها و تعليقاتها على حوار الشخصيات ، أو في حوارها المباشر معها . دون أن يغفل الكاتب عن أهمية ربطها مع المتلـقي ، بما يعنـي تناوبا بين موقعـها الداخلي و الخارجي ، وإن كان الأول – الداخلي – هو الأكثر مساحة في نسبة وجـودها في داخـل الحدث و السرد والحوار . كما أن مداخلات الجوقة الدائمة و المعلقة لجمل عديدة و تساؤلاتها المكررة للشخصيات الأخرى ، تبقي حلقة اتصالها مع المتلقي دائمة مستمرة . إلى جانب قيامها بدور التعريف ببعض الشخصيات و الأحداث ، و تحملها عبء تقديم و ختام المناظر ، دليل رغبة الكاتب في التنقل الحر بين المناظر و تفاصيل الحوار ، إلى جانب ما ألقاه الكاتب على عاتقها من مهام أخرى ، تأخذ منها أهمية بنيتها في العمل بشكل عام : 1-دخول الجـوقة وخروجها مرتبـط ببدء الحوار و انتهائه في المنظر ، باستثناء المنظر الأول ، الذي اكتفى الكاتب بوصف هيئتها الصامتة ، ليفضل أن تكون بداية الحوار عبر شخصيته الأولى ابن زيدون ، إلا أن ذلك له مغزى آخر سنشير إليه لاحقا . 2-تحملت الجوقة عملية السرد عن الوقائع التاريخية في العمل ، وما تعلق بها من أخبار الحقبة التي يمثلها ، مع قيامها بتبرير بعض المواقف ، وإيهام المتلقي ببعض هواجس الحدث غير الواقعية ، وإن كانت دلالاتها واقعية . كالمنظر الخاص بالمحاكمة ، التي تحولت إلى محاكمة عسكرية عصرية . 3-الاستشهاد بأبيات ابن زيدون وغيره ، بحسب ما يتطلبه سياق الحوار و الحدث ، وهو ما نراه في مسايرتها الحوار مع ابن زيدون و بقية الشخصيات ، أو إنطاق ما سكتت عنه الشخصيات في حواراتها ، أو ما اختلجته في مشاعرها . 4-اتكأ الكاتب عليها – الجوقة – في تمرير بعض وجهات نظره و وشواهده اسقاطاته المعاصرة ( الجواهري ، ابن حبيش ، فيروز ، نظام الطوارئ ، ملوك الطوائف .. وغيرها ) . إضافة لتوضيح وجهات نظر بعض الشخصيات في العمل . 5-اعتمـد الكاتـب على أن تكـون الجوقةشاهد عيان و اثبات في الوقت نفسـه ، وهما صفتـان تاريخيتـان ترتبطان بعامل النص في مقدمة العمل ، فالجوقة شاهـدة عيان على ما حـدث في ذلك العصر ، وإثبات لمـا حدث ويحدث بعده ، وهو ما يمكن التقاطه في تعليقها على عبارة ابن زيدون في المنظر الأول على عبارة ابن الخطيب التي وصف بها عصر الطوائف ، من أنه اسم على مسمى .. ملوك الطوائف . لتكون مداخلة الجوقة هنا :” الجوقة : ليس لأحدهم في الخلافة إرث و لا سبب ، ولا في الفروسية سبب . و لا في شروط الامامة مكتسب . اقتطعوا الأقطار ، و اقتسموا المدائن الكبرى .. وانتحلوا الألقاب ، وكتب عنهم الكتاب .( ابن زيدون يشير إلى صدره . يضيف :ابن زيدون : وأنشدهم الشعراء الجوقة : ووقفت بأبوابهم العلماء و الفضلاء .. وهم ما بين مجبوب و مجلوب ، ومجبر غير محبوب ، وغفل ليس في السراة بمحسوب . ” ومع حضورها كشاهد عيان أو اثبات ، إلا أنها حاكمت ابن زيدون لاحقا على دوره الكبير في ما وصلت إليه الأوضاع ، لكونه السياسي و الأديب في الوقت نفسه ، في تعليقها على عبـارة ابن زيدون الواردة في حديـثه في المنـظر الثالث : ( لو أعاد التاريخ نفسه لما أقدمت على كتابة هذا الصنف من النظم بالمرة ) ، لتقول الجوقة : ( لو انك فعلت ذلك .. لما تردد اسم ابن جهور في العشرات من الكتب .. و طوى اسمه النسيان شأن عشرات الحكام لإحدى و عشرين دولة من عصرنا الطائفي ) . بما يؤكد وجهـة نظرها السابقة بأن ” الأدب و السياسة وجهان لعملة واحدة ” . وهو ما يعبر عن تماسـك بنى العمل ، خاصة بنية الجوقة ، واعتماده على دورها في تقسيم رؤيته الضمنية . 6-رسم الكاتب ردة فعل الشخصيات على حضور الجوقة في وعي شخصيات العمل ، وذلك إما في محاورتها أو الرد على مداخلاتها ونقاشها ، أو الصمت عنها وتجاهلها أو تهديدها ووعيدها ، بما يضفي على الجوقة مهمة الوعي الحاضر أو الغائب في تلك المواقف . 7-انحصر تحديد الكاتب لأفراد الجوقة على ثلاث شخصيات رتبها بصورة عشوائية ( رجل جوقة أول ، رجل جوقة ثان ، رجل جوقة ثالث ) ، وهي مجتمعة في تصرفاتها أو أدوراها ودون أن يكون لها رئيس يقود حركتها أو حوراتها مع الشخصيات الأخرى ، في حين أن الأدوار المطلوبة منها تتعدى هذا العدد ، خاصة في تعليقها الجماعي وهو الأكثر مساحة من التعليق الفردي . ولكن ثمة إشارة لابد منها إلى ضم الكاتب لابن زيدون للجوقة بصورة درامية بحسب ما يقتضيه سياق الحدث ( هروب و اختبـاء ابن زيدون عن العيون ) ، إلا أن لـذلك تفسير آخر قد نجتهد فيه هنا ، وهو أن رئيس الجوقة هو ابن زيدون ذاته ، خاصة وهو من بدأ المسرحية بتعريف الجمهور لهويته ، ولم يتنازل عنها لأحد أفراد الجوقة ، وهو عادة ما يفعله أفراد الجوقة بعد نهاية المقدمة في العمل المسرحي . بهذا استطاع الكاتب اسماعيل فهد اسماعيل أن يقدم لنا عبر عمله ” للحدث بقية ” حقيقة هزلية عن التاريخ ، بأن التاريخ صاحب نزوات ، ولا ينسى أحداثه ولا شهوده ، وهو ما يمكن أن ندلل عليه بكلمة القاضي الأول للجوقة : ” بصفتكم شهود عيان .. احتفظوا برسالة الحاكم من أجل التاريخ ” .. لتعلق الجوقة : ” يكتب التاريخ مرتين .. إحداهما بمشيئة الحاكم ” .

فهد الهندال يناير 2009

#readingrecommendations#curiosity#نقد

التصنيفات
مقالات

انقلاب الكتابة!

لا نعرف عن شخصية كازانوفا سوى عشقه للنساء ومغامراته الطويلة معهن ، ولكن مؤخرا وبعد شراء المكتبة الوطنية فرانسوا ميتران بباريس لسيرة حياته المخطوطة بيده بمبلغ 7 ملايين يورو ، ظهر أنه أحد أهم مؤرخي القرن الثامن عشر، ومن كتابه أدبه الرفيع . إضافة لدوره في الترجمة وأبحاثه في الرياضيات ، فهو رحالة مدهش نجح عبر كتاباته في نقل لوحة شاملة ووافية عن المجتمع الأوروبي خلال القرن الثامن العشر الميلادي .

هذا ما كشف عنه آخر مخطوطاته ( مذكرات حياتي ) التي وقع عليه باسم ” جاك كازانوفا دو سنغال “، حيث تتألف من عشرة أجزاء و3700 صفحة ، وصفتها صحيفة الإكسبريس بأنها ” أحسن عمل موسوعي عن القرن الثامن عشر” ، وقد استغرق العمل فيها تسع سنوات جاءت كلها بخط يده .

المعروف أن كازانوفا ولد في عائلة فنانين وأدباء ، ما جعله محبا للفن والأدب ، ولا يحل ببلد إلا ويزور أولا مكتباته ويمكث فيها طويلا. ولعل شغفه بالأدب ، جعله ذا أسلوب مؤثر في رسائله التي كتبها لعشيقاته ، لكن معظمها أُحرق خشية الفضائح التي قد تسببها لهن . وغير المعروف أن لكازانوفا كتب أيضا ، أربع مسرحيات وقصة ، وأنجز عدة ترجمات لمؤلفات فولتير وهوميروس ، مع مجموعة أبحاث في التاريخ والرياضيات.

إلا أن مذكراته كانت أكثر انتاجاته ثراء ، حيث بدأ كتابتها وبطلب من صديق ثري منذ 1789 م وهو ابن الرابعة والستين ، وكان يكتب بمعدل ثلاث عشرة ساعة يوميا ليتوقف في 1792 لمدة 18 شهرا بسبب إصابته بكآبة شديدة ، استمر بعدها في الكتابة حتى وفاته عام 1798 م ، وكان يوقع في أسفل كل صفحة بأول حروف اسمه ما عدا الصفحة الأخيرة التي بدت شبه فارغة ، كتبت بيد ضعيفة ، ما يدل على أنه ظل يكتب حتى وافته المنية.

وبرغم أن كازانوفا إيطاليا ، فإن مذكراته كتبها باللغة الفرنسية الفصيحة التي لم يتعلمها إلا بعد ولعه بلغة موليير ، ساعده في ذلك ثقافته ورهافة ذوقه و مستواه الأكاديمي لكونه حاصلا على الدكتوراه في القانون ، ساعده كل ذلك على الوصول والتقرب من أوساط المثقفين والنبلاء الفرنسيين ، وأحب لغتهم الرقيقة ، وهو ما كان واضحا في الأسلوب الجميل الذي استعمله المغامر الإيطالي والذي فجر فيه طاقاته الإبداعية في الكتابة بكثير من الإيحائية ، حاول فيها أن يبتعد عن الإباحية التي كان يستعملها بعض كتاب عصره . وهنا كانت الدهشة حول ذلك ، برغم مغامراته النسائية الكثيرة التي اعترف حولها في مذكراته أنها وصلت إلى 122 مغامرة . حول هذا العدد المهول من المغامرات ، يقول ماكسيم روفر صاحب كتاب (كازانوفا قصة هروبي من سجن البندقية ) : ” العدد في حد ذاته ليس قياسيا ، فرجال ممن عايشوا عصره عرفوا ربما عددا أكبر من النساء ، لكن ما ميز كازانوفا هو حبه الصادق لهؤلاء النساء ، فهو لا يرتبط بعلاقة إلا إذا خفق قلبه بقوة ، ولا يتركهن إلا بعد عذاب شديد” .

ما يهمنا ليس فيما تحاول المذكرات أن تصلحه لصورة كازانوفا التي اشتهر بها كزير للنساء ولكن ما قد تتضمنه هذه الشخصية من جانب خفي لا يُعرف الكثير عنه كإنسان ولعه الشديد بالكتابة بمختلف فنونها ، وهو ما قد يكون مناقضا لما هو معلوما عنه .

وكيف أن الكتابة يمكن أن تقدم الإنسان بشكل آخر و مناسب للآخرين ، يتحدث فيها عن عصره .. وعن نفسه ، متى ما تمكن من ناصية اللغة و أسرارها فيقلب الواقع عنه ، كما تمكن من أسر قلوب الفاتنات ، وأوقعهن في عذوبة كلماته .

فالكتابة ، فعل انقلابي ، والحديث هنا لنزار قباني : ” يستهدف تغيير هندسة الكون وهندسة الإنسان. وعندما يغيب الشرط الانقلابي في الكتابة ينتهي مبرر وجودها. لا كتابة بغير تحريض . وكل قصيدة يكتبها شاعر هي تحريض لغوي على السمو والتمدن ، والانعتاق والحرية .

الكتابة هي الجلوس على حافة الهاوية ، لا على فراش حرير، ولا على سجادة تبريزية، ولا على كرسي هزاز … إنها الإبحار في فضاء من الأسئلة دون أن يكون معك تذكرة للعودة .”

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مقالات

إسماعيل فهد إسماعيل.. وما كتبَه وحُذِف بمعرفته

منذ وفاته في 25 من أيلول (سبتمبر) الماضي، لم تتوقف رسائلُ الحب وكلماتُ التأبين في حق هذا الإنسان الأديب، الذي لا يختلف اثنان حول دوره المؤسس للرواية الحديثة في الكويت والخليج العربي. وهو من فضّل الانطلاق إلى ضفاف أخرى، علّه يجد خارج أقفاص المكان لغات مشتركة، يحمل معه إخفاقات واقعه الآني وما انطوى في بقعة داكنة لكائن الظل، في زمن بات يعاني العزلة في أكثر من مكان. فكانت اللغة حبلا سميكا يخطو فوقه هذا الإنسان عدة خطوات، خطوة في الحلم، وأخرى تنعى سماء نائية كانت زرقاء في يوم ما. هكذا هي ملامح الأدب عند الروائي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، لكوننا نلاحظ ارتحالا واضحا لإنسان رواياته وقصصه، يتجاوز نطاق الواقع المرير وإحداثياته إلى ما هو أبعد من هنا أو أقرب من هناك. وكأن اسماعيل لم يكتف بواقعية وجوده في بعض هذه الأمكنة، وإنما استعار أيضا ذلك الارتحال النفسي لشخصياته، وربما لنفسه أيضا، بما يهيئ المتلقي للقبول بوجوده في غير هذه الأمكنة. يرتبط المكان في أدب إسماعيل بذلك الوجود النفسي الذي يستظل به الكاتب في رحلة الكتابة والفكر، في البحث عن ذلك الوجد الخالص بعد معاناة الإنسان الكامن فيه، وتأثير غربة المكان على التجربة الروحية. ولا يقصد هنا بالغربة، ذلك المنفى الذي يُقصي الإنسان عن وطنه، أو الذي يهرب إليه من نفسه، وإنما العدم الذي يصنع منه الكاتب شيئا في العزلة، يزيد هالة الإبداع ألقا و تألقا في مخاطبة العقول، بعيدا عن ضوضاء وصراع الهوس القديم، بتحطيم كل ما هو جميل وجديد! في كتاباته الإبداعية، لمسنا ذلك الارتحال الدائم للإنسان عند إسماعيل بين مواطن عدة، استنطق فيها عذابات المكان والهواجس التي تسكن بين زوايا زمنه، بسبب احتقان الأفكار واختناق شخصياته بمختلف الأحاسيس والمشاعر وأنماط الإدراك المتحولة ما بين مرجعيات أيديولوجية عدة. فأصبح المكان حلبة تتصارع فيها أفكار الكاتب، والتي استرجع فيها الكثير من حوادث الزمان في ذات المكان، ليكون الإنسان نفسه عنصر التأزيم وانفراج العقدة. فرواية مهمة في أدب إسماعيل وهي «كانت السماء زرقاء»، والتي وصفها الشاعر العربي صلاح عبدالصبور بأنها من أهم الروايات التي صدرت في أدبنا العربي حتى الآن، وذلك في معرض تقديمه لها في طبعتها عام 1970. عندما تقرأ تلك المضامين التي حملتها سطور النص، والرؤى التي حبُلت بها، ستجد قارئا معينا يخاطبه الكاتب، وإن تغلّف النص بأنسجة ملونة تغري البعض العابر على النص دون مضمونه، سيجد مأساة الثوار الذين تأكلهم الثورة بعد تصفية الحسابات والمصالح بينهم دون أن يشفع لهم أخوةُ الثورة أو أن يُفسح لهم المجال لإثبات حقيقة ما كانوا يؤمنون به. فالمكان الذي كان مشتعلا بثورتهم، بات جحيما يهربون منه إلى أراضي الغير، وإن كانت أرض أعداء الأمس، فباتت لهم منفى اليوم، وهنا تكمن سخرية الزمن في تبدل وجه المكان وهروب الإنسان منه و إليه، وإن كان قابعا بين زواياه المترامية وسمائه الزرقاء، ويكفينا ما سرده الكاتب على لسان الرجل الهارب في حواره مع ضابط الثورة الهارب أيضا عندما سأله الأخير: «- متى يأتي النهار؟ – بعدما تتم الأرض دورتها. – وأنا أتممت دورتي الخاصة. – وأنا أدور بصورة عكسية. – ألا زلت مصرا على الهرب؟ – بلى. – إذا فأنا قد حبستك إلى جانبي نهارا كاملا! – أنا حبست نفسي. لحـد الآن لم أتخذ قرارا قطعيا بالنسبة للمكان الذي سأتجه إليه». فالمكان هنا أصبح جحيما ومخبئا في ذات الوقت والموقع. في حين، يأتي المكان في صورة مغايرة في رواية «مستنقعات ضوئية»، حيث تكوّر في موقع مغلق على من فيه ونعني «السجن». إلا أن الكاتب استطاع أن يرحل بشخصياته إلى خارجه، فيما ارتسم في ذهنية بطل الرواية «جاسم صالح» المختبئ وراء لقب «حميدة» من فضاءات أبعد من سقف الزنزانة أو أرض الأشغال الشاقة وشمسه الحارقة. فما كان الظل في فترات الراحة سوى عبور تلك الأمكنة إلى ذات الإنسان، فتتداعى معها صور الأفق المفتوح، باستحضار من هم.. من هناك.. من خارج مكان السجن. ليكون المكان هنا «السجن» حريةً في شكل آخر، خلاف ذلك المكان الخانق «خارج السجن». – ثم تحول المكان في رواية «الشياح» إلى ملجأ تحت أرضي في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، اجتمع فيه أفراد من كل شارع وأيديولوجيا، خلقوا في مكانه المعتم والبعيد عن شمس النهار ونجوم الليل عالما مفتوحا فضاءات من سلوكيات شخصيات المكان، والذين اختلفوا عن بعضهم في ذلك. والمكان «الملجأ» لم يكن مقصورا في كونه ملاذا من أذى الحرب ورصد القناصة، بقدر ما كان ملاذا للجميع من حياتهم خارج المكان/ الملجأ. ويمضي الإنسان في روايات إسماعيل بارتحالاته، ليتجول بين العراق ولبنان ومصر والمغرب وسوريا والخليج، ليعود إلى الكويت التي لم يغادرها بل عبرت إليه في كثير من تداعيات الروح الساكنة بها والنفس الكاتبة في جمالها. ولعل أجمل ما نُقل عن إسماعيل فهد إسماعيل عندما سُئل، كيف استطعت أن تكتب عن الكويت «هنا» وأنت بعيد في الفلبين «هناك» .. فأجاب أنه يراها «الكويت» أجمل. ليتمخض عن ذلك الشعور بالانتماء لهذا المكان «الكويت» أجمل وأروع وأهم أعماله الروائية وأضخمها إنتاجا وإبداعا، وأعني السباعية «إحداثيات زمن العزلة» وهي رواية ملحمية عن الوطن إبان الغزو العراقي للكويت، وكيف أن الكاتب صرّح بأن هويته الوطنية وانتماءه للمكان «الوطن» تعمّق أكثر عن ذي قبل، فكانت المواطنة جوهر مداد قلم إسماعيل في الكتابة عن هنا.. المكان / الوطن. ليقدم لنا نموذجا رائعا في تعلق الإنسان بوطنه، وأنه مصدر إلهام هذا الإبداع، دون ادعاء أن المكان الآخر (المنفى أو المهجر سمّه ما شئت) هو نبع ذلك الإبداع. فلولا الوطن ما كان للمغترب أن يراه في إبداعه وإحساسه، ولولاه – وهو المكان الأول – لما كانت هذه الارتحالات وهذا العبور الدائم له بين سطور القلم. وفي غمرة العزلة التي قد يختارها الكاتب، إلا أنها جاءت مغايرة هنا: «لكنك حيثما وليت شأنك يبقى الوطن تحت جلدك. إذ إن المكان البديل أشبه بالفتيل.. قابل لتنكرك عليه.. ليس إحساسا بالغربة، لكنه آخذ بالخواء، ومن ثم لا مناص من أن تقفل عائدا». وهكذا الإنسان والمكان والوطن عند إسماعيل فهد إسماعيل، الذي رحل عنا قبل أسابيع، وانتهت كلمات التأبين والرسائل المحبة، وبقي أمامنا هذا الإرث الكبير ونحن الشركاء فيه، فينتظر منا وعيا عميقا في قراءة ما قد صرّح به وكتبه، وما قد خبّأه أو حذفه بمعرفته.

التصنيفات
مقالات

دقة الروائي والقارئ الأسطوري

على مَن تقع مسؤولية تراجع الوظيفة التوصيلية في الرواية؟ هل تقع على عاتق المبدع (الروائي)، أم (المتلقي)، أم النص (الرواية)؟ بهذا السؤال انطلقت الناقدة السورية أسماء معيكل في كتابها ( الأفق المفتوح – نظريّة التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر ) الصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيث أنها وصلت لنتيجة شبه نهائية ، أنه ومع ثورة المعلوماتية في عصر التكنولوجيا المتقدمة ، بدأ المبدع يحسّ بتراجع دور القراءة مما جعله يهمل القارئ عموما ، ويجنح إلى تغليب الجانب الذاتي في إبداعه على الجانب الموضوعي ، وهذا أدّى إلى تراجع الوظيفة التواصلية ، برغم أنها الأساسية للرواية . لأنّ المبد ع – كما ترى معيكل – لم يعد يهتم بمتلقيه ، بقدر ما هو مهتم بالتعبير عن قناعاته ورؤاه بعيداً من الموضوعية ، وهو ما انعكس سلبا على المتلقي الذي بدأ يشعر بإهمال المبدع له وربما تعاليه عليه ، مما جعل عدد القراء الذين ما زالوا يقرأون له في تراجع مستمر من جهة . ومن جهة ثانية، أخذ القارئ يتّهم المبدع بالغموض والإغراب وصعوبة فهمه . وبدوره رفض المبدع الاتهامات الموجهة اليه ، وراح يحض القارئ على ضرورة تسلّحه بالأدوات المعرفيّة اللازمة لفتح أبواب النص، والدخول إلى عالمه. كما بدأ يطالب بوجود قارئ خارق أو نموذجي لنصه ! خلاصة ما تحاول أن تصل إليه معيكل أنه بات بعض الكتاب يخلق لنفسه قراء خاصين به ربما بشروط معرفته وثقافته ، لا يقبل من غيرهم أي أسئلة أو ملاحظات مادام أنهم خارج حظيرته . وهو ما يعني انغلاق أعماله عليه وعلى من حوله فقط ! في حين ، يكون الأمر مغايرا للروائي الباحث عن العالمية ، الذي يرى في أعماله – وترجمتها خاصة – وسيلة للحوار مع الآخر المختلف معه ، متجاوزا لغته ومدارك ثقافته ومعرفته ، دون مواربة أو خوف من اتساع أفق الآخر . لعل هذا ما يمكن تلمسه مع روائي عالمي مثل جابرييل غارسيا ماركيز الذي يصرح وهو في مجده الأدبي العالمي أنه بدأ الكتابة بمحض الصدفة ، فقط ليبرهن لأحد أصدقائه أن جيله قادر على أنجاب كتّاب ، ليسقط في شرك الكتابة ويجد فيها المتعة ، ثم في الشرك التالي وهو اكتشاف أن عشقه للكتابة يفوق حبه لأي شيء آخر في الدنيا . لأسرد موقفا عنه ذكره الصحافي الكولومبي أليساندرو دوكي ، الذي زار ماركيز بينما كان يكتب رواية ( الجنرال في متاهته) ، ولاحظ كيف توقف ماركيز عن الكتابة فجأة وأجرى مكالمة هاتفية صدمت دوكي نفسه ، حيث اتصل ليسأل أحد علماء الفلك إن كان قد تحقّق من أن القمر كان بدراً في 10 يونيو 1813 ، فجاءت الإجابة مخيّبة لآماله ، لأن ماركيز تغيّر وجهه وطلب من متحدّثه التأكد من هذه المعلومة في أقرب وقت ممكن لأمر مهم وعاجل وخاص بفصل كامل بالرواية . فسأله دوكي ( أي قارئ سيهتم بهذه المعلومة، ومن سيبحث إن كان القمر يوم 10 يونيو 1813 كاملاً أم لا ؟) فأجابه ماركيز بأهمية وجود قارئ أسطوري للروائي ، مستشهدا باسم فرناندو غارابيتو الذي كان يمسك بأخطاء ماركيز في روايات سابقة ، وبناء على ذلك يعتبره أصعب قارئ له ، ورغم أنه لم يكن يعرفه شخصياً . وعندما صدرت رواية ( الجنرال في متاهته) لم يجد دوكي الفصل الذي يحتوي على ليلة العاشر من يونيو 1813 في غرناطة الجديدة ، حيث لم يكن قمرها بدراً كما تمنى ماركيز . ليكمل دوكي أنه بعد ثلاث أو أربع سنوات تعرّف إلى غارابيتو شخصيا وأخبره بلقائه بماركيز وما حدث . حينها قال غارابيتو: ( من المؤسف أن نُحرم من فصل بهذا الجمال بسببي). هنا تتحقق موضوعية الروائي والقارئ معا .

التصنيفات
مقالات

أبيض يتوحش: معادلة الجهراء أوتارا

untitled image

( أبيض يتوحش):معادلةالجهراء وأوتاواناصر الظفيري“الوطن لا يموت” ناصرجاءت العبارة المذكورة أعلاه، ضمن سياق خطاب إحدى الشخصيات في قصة (المقعد الخالي) التي نشرت عام 1992 ضمن المجموعة الثانية (أول الدم) الصادرة 1993، حيث كان السياق كالتالي:”يا إلهي، هذه كلها رسائلها!! إذن، هي لم تمت؟” “الوطن لا يموت، يا صديقتي، يتألم، يجوع، يقهر، ولكنه لا يموت، لا يموت”.جاءت المرأة هنا في هيئة الوطن الذي يراه ناصر، فهو كائن ومكان معا. كائن في شخصية المرأة، الأصدقاء، الأب. ومكان، الوطن، الغربة. جاء الزمن في هذه المجموعة القصصية عبر ذاكرة سردية ممتدة من عام 1991 حتى 2016، لتتقاطع الأحداث من خلال علاقات شكلت هذه الثنائيات: الكائن/المكان، العاشق/المرأة، الفقد/الموت. شكّل المكان الأول ( الوطن) غربة الكائن الأولى وهو حاضر فيه، وشكّل المكان الثاني ( المهجر) الغربة الثانية للكائن نفسه، ليحاول التخلص من الغربتين عبر النسيان والعيش في ذاكرة الحاضر:” منذ عشرين عاما وأكثر قليلا، وأنا أدرب نفسي على النسيان. كلما التقيت بوجه يعرفني، وبالكاد أتذكره، فيسألني هل تعرفني؟ وأقول بصدق “لا” بعضهم يرمقني بحنق، أفهم أنه يتهمني بالانكار والتكبر ووو صفات من هذا النوع المزعج. كنت أشعر بالفرح أنني وبعد مران طويل على النسيان نجحت. استطعت أن أتحكم إراديا بذاكرتي. فأقصي من أريد عن قصد منها، ولكن العيب الذي صاحب هذا المران، انني أقصيت منها من لا أريد إقصاءه ” . برغم المسافة الزمنية بين المكانين/ الكائنين، فإن المرأة في السرد هي التي تذكرته و أشعلت فتيل الذاكرة بين الإثنين. ولهذا فإن المران لم يكن على قدر كبير من الاتقان في تحقيق هذا الانفصال، مهما تظاهر أو ظن بذلك. وكأن المرأة هنا معادل للوطن الذي كان يحاول نسيانه:” لن أنكر أن الذي ساعدني في تغلبي على ذاكرتي هو انفصال المكان والخروج من دائرة الزمن الذي تحيط به. فمنذ النفي الأول وأنا في عزلتي لا ألتقي أحدا من وطني، لا يُكاتبني أحد ولا أكاتب أحد. أغرقت نفسي في تفاصيل المكان الجديد، وانتظام حركتي في مداره الزمني. تعثرت قليلا، تراجعت قليلا، تقدمت، هرولت، مشيت، ركضت، ولكنني انتظمت مستفيدا من أقدمية الزمان وهشاشة المكان في ذاكرتي، المكان الذي تركته وأنا في العشرين من عمري، وكان حينها مكانا مهشما، وزمنا متوقفا” . ولكن، هل رجّح استمرارُ الزمن كفة النسيان دوما، أم كانت هنا رغبة لتوقفه للحظة؟في قصة ( عندما يقف الز…من) نجد ذات البوح الساكن عن ذلك المكان، عندما تصور لوحة لراقصة باليه أنها سيرة حب ما، فاحتار زمنه فيها ما بين الاستمرار والتوقف:” كنا نختلس فرحا صبيانيا و شهوانيا من زمن يبدو ثقيلا كسيرة الموت، نُهذّب من المكان الذي نحب إلى الحب في أي مكان”.فلحظة راهنة بتوقف الزمن، قد تكون كفيلة بأن تُحيي ما أُعتُقد أنه تلاشى أو مُسح أو تم نسيانه، بل يمكن استعادته ثانية عن طريق الحب، الذي تشاركه المكان الأول مع الكائن أينما كان، ووضعه في إطار ثابت كبرواز اللوحة:” الغرفة التي غادرتها منذ ربع قرن – كحساب رياضي صارم – غيّر طبيعتها شابٌّ، تركته في اول العمر. قام بترميم أثلامها، ومسح خربشاتي عن حيطانها. لم يقصد محو ذاكرتي من المكان. مشكورا ترك لي زمنا ساكنا على ظهر كف. زمنا ليس بامكاني تحريكه إلى الأمام قدر إمكانية تحفيزه باغماضة عين للعودة إلى الوراء، ولكنني أجد نفسي كصاحبة اللوحة أضع رأسي فوق يدي، وأنا أجلس على الكرسي قبالة اللوحة تاركا كفي تُنبئ عن توقف الزمن، في إطار لوحة، علّقها الشاب، ليذكر أنني كنت هنا يوما ما”. وهنا يخوننا النسيان، عندما نظن أننا استطعنا بذلك المران أن ننسى، فتأتي الذاكرة من توقف الزمن حميميا، مهما كانت قسوته، شدته، رغبته، فهو ثابت غير متحول:” كل شيء يشكّل زمنه الخاص.. أما زمني في مستطيل اللوحة، فثابت لا يتغيّر، ثابت ومؤلم كهذا الزمان على ظهر كف راقصة” . ماهو معادل الثبات هنا، الذي قد يكون معادل المكان؟ إنها المرأة.فقد جاءت معادلا ثابتا في قصص المجموعة باختلاف صورها، الحبيبة، الأم، ابنة الجيران. فمهما غابت، فإنها تحضر ثانية، وإن رحلت، تعود أدراجها. فقد تكون ابنة الجيران التي التقاها صدفة في الغربة، فاقدا كل ذاكرة التفاصيل بينهما، مهما حاولت تذكيره في ليلة عابرة:” وحين ركبت سيارتي إلى المدينة، حاولت أن أتذكر إسمها. لو تذكرت اسمها، لعرفت بأن كل ما قالته قد حدث فعلا. لو. ” أو المرأة المنتظرة لعودته من رحلة العلاج، بقلب جديد، ولكنها بمجرد أن احتضنته ضغطت على الجهاز، ليتوقف عن العمل فمات سريعا، أو كما خُمِّن في النص:” لم يكن لقلبه أن يتحمل رائحتها” .كذلك هي القصص الأخرى، حملت ذات الثنائية المُرهَقَة بين الكائن/ المكان، العاشق/المرأة، ولعل النتيجة الحتمية للفراق، الانفصال، النسيان ما بينهما هي فقد مؤلم، شديد، يكون للحنين دور في أن يتحول إلى أقسى صورهذا الفقد ..الموت.حيث يتغلب البياض القاتل في صراع الألوان في “قلب جديد لأبيض” عندما كانت الخطوة الأولى باتجاه الرحلة إلى هناك خيانةً عظمى لكل شيء هنا. أو في “اشتهاءات الموت” الذي يرتب بمزاجية عنيدة معاناة ضحاياه غير عابئ بالأولوية لذلك: ” كأن الموت يريدني، لكنه لم يتعرف علي، وكنت أريده. أبي.. ماذا تركت لي؟ أعذرني يا أبي . إنني لا أحبك. …..اعذرني يا أبي،. ليس لأنني أحبك ولكنني أريد أن أرتاح معك ولا أعذّب أحدا بعدي. ” حتى ألحقه الموت في راحة أبيه:” هكذا أفضل يا أبي.. من سيذكرنا؟؟؟” . برغم ذلك، فإن الوطن لا يموت، يرحل الإنسان من مكان إلى مكان، قد يتبدل مما كان إلى كائن، لكن الوطن يبقى جميلا، أجمل هناك، برغم الفضاء الجديد، واللغة الجديدة:” ولا أنكر أن علاقتي بالحرف العربي الذي تركتُه لا يضاهي علاقتي بالحرف الأجنبي الذي أعيشه. لم أتآلف مع المكتبة الجديدة، والتي بدأتُ أُضيف لها الكتب العربية، لأستعيد الشعور الحقيقي بوجودها، وللإيمان بالعلاقة التي تربطني بها. وما يزال حنيني لمكتبتي الضخمة جزءا من نوستالجيا الوطن” . نعم، كان الحنين/الهوية أصل المعادلة بين ثنائيات الكائن/ المكان، العاشق/المرأة. وقد شكلته قصص مجموعة (أبيض يتوحش) في بنائها على قصص المجموعة الأصل (أول الدم) الصادرة في الكويت، فليس اعتباطيا أن تأتي قصة (مكتبة) في خاتمة الكتاب، وقد وثّقت المكان والزمان، أوتاوا 2016، وقد ختمت بآخر أمنية:” سأعود قريبا لأحتضن هذه الأسماء التي علمتني. سأعود إذا لم ينطبق الجدار على الجدار. ” . فهد توفيق الهندالباحث وناقدالمصدر: – ناصر الظفيري: أبيض يتوحش، قصص، منشورات المتوسط، ميلانو،الطبعة الأولى 2017

التصنيفات
مقالات

الكلمة الريح

untitled image

” النص مدى مفتوح. مرن كالحرف، هائل كالحرية. ” تأتي الجملة السابقة ضمن سياق بيان طويل أصدره قبل سنوات كلا من الشاعر قاسم حداد والكاتب الناقد أمين صالح تحت عنوان ( موت الكورس ) في ديسمبر 1984 ، كحالة من التعبير عن رؤيتهما حيال المشهد الإبداعي ككل ، والكتابة بشكل خاص .  عندما يخط مبدعان عملاقان هذا البيان قبل أكثر من 30 عاما ، فهما يرصدان متغيرات جديدة في نمط الكتابة ، لتبقى الحرية هاجسها الدائم في أن يعبر المرء عن رأيه دون قلق من سلطة الرقيب أو محاكم التفتيش بكل صورها ،ولكن شريطة أن تعيد الاعتبار لأهمية الكتابة ، والتنقيب في عمقها ، بعيدا عن هوام السطح العائمة ، التي لا تفرق اليوم بين قلم مبدع وآخر مدع ! فكيف تفرق بين الاثنين ؟الكلمة ، هي الميزان بينهما . فما هي الكلمة ؟يقول عنها بابلو نيرودا : ” جنح من أجنحة الصمت. قطعة أرض أعشقها، انا الذي لا أملك نجمة سواها بين كل مروج السماء. هي التي تكرر الكون وتكثّره. هي بيتي أيضا. شيّدتها فسيحة رحبة لكي العب فيها من الصباح الى الصباح ” .الكلمة نغمة تبحث عن موقعها في سياق نوتة موسيقى ما ،أو قطرة مطر تبحث عن أرض بكر ، وربما نسمة شاردة في لهيب الصيف تنعش أحدهم دون قصد ، قد تكون زفرة ألم في لحظة فقد دون وعي . الروائية التشيلية ايزابيل الليندي تهتم كثيرا بالكلمة : ” مهمٌجداً بالنسبة لي، أن أجد الكلمة المحددة التي سوف تخلقالشعور أو تصف الحالة. أنا انتقائية جداً في هذا الجانب،لأنها المادة الوحيدة التي نملكها ، الكلمات. ولكنها مجانية،لا يهم كم مقطعاً لفظياً تحوي: مجانية! يمكنك أن تستخدممنها بقدر ما تريد، إلى الأبد! ” . ضمن القراءات المختلفة ، لابد أن ثمة كلمة تطن في بالنا أكثر من غيرها ، تأخذنا في فضاءات أخرى ، نترسب معها في سياقات متنوعة ، لا يحدنا سقف  واحد ، غير التأويل لأكثر من معنى ، نهاجر في غربتها في جملة ناقصة ، أو نواسي وحدتها في فقرة محرومة من الفعل الجماعي ، نقتنص ضحايا الانتظار لزمن تأخر حضوره كثيرا . الكلمة ، شهقة ، تلفظ الهواء هربا ، كحالة اختناق من واقع مربك ، و تلتقطه نجدة في اختراق لكل محرم ممنوع محنط . تبحث عنها سياقات الكلام في قواميس الألم ، ومعاجم الفرح ، تشكّل القصة ، الرواية ، بيت الشعر ، نصوص الحياة . الكلمة كالريح ، التي تهب من الشمال الأقصى ، فتحرك الشعور الأدنى  وتفجر المعنى من العمق . وكما قال غوته :” وما الريحُ إلا عاشقٌ لطيفٌ / يعشق الأمواج / ويدفعها من القعر ” .وهكذا الكاتب ، عاشق كالريح ، والكلمة متاهة ، ولكنها في الأصل .. الكلمة حرية .

التصنيفات
مقالات

تدمير السرد

untitled image

Sard_1ثمة استعمالات عدة للسرد ، تختلف من باحث لآخر ، فيرى جيرالد برنس أن السرد  هو إعادة لإنتاج  أحداث و حالات ، حقيقية أو خيالـية ، عن طريق سارد واحد ، أو عدة ساردين . سـواء كان شفهيا  أو كتابة .  أو إشارة أو صورا متحركة ، أو أية مجموعة منظمة . ليضم تحت مصطلح السرد ، الروايات ، والقصص القصيرة ، والأساطير ، و القصص الشعبية . إلى جانب السيرة الذاتية ، والملاحم ، والتاريخ والأغاني الشعبية القصصية Ballad ، و غيرها . واستخدم تودوروف مصطلح السرد بمعنى الحكاية . ويستعمل أيضا على كونه العمل التواصلي الي به وفيه ينقل المرسل رسالة ذات مضمون قصصي إلى مرسل إليه ، رديفا للكلام باعتباره وسيطا يحمل الرسالة المذكورة ، ولكنه متخيلا . أما  جيرار جينيت ، فيحدد السرد  في علاقته بالـ ( الحكي ) في الفصل الخاص بـ ” الصوت السردي ” ، عبر علاقات معينة ، حيث ربطه بالمقام السردي أي المنطوق السردي أو النشاط السردي الذي يتولى مهمته سارد ، يسرد حكاية ويصوغ الخطاب الناقل لها ، وهو ما سماه جينيت فعل السرد . وكأنه يميز بين فعل الكتابة الذي يكون عبر فاعله / الكاتب ، و فعل السرد الذي ينجزه السارد . و بالتالي ، فإن جينيت هنا ، يحدد السرد بكونه الناقل للخطاب الشفوي أو المكتوب الذي يتكفل بسرد حدث أو سلسلة أحداث . وفعل السرد يرتبط بمفهوم ثان هو زمن السرد ، حيث أن التحديد الزمني الرئيسي للمقام السردي هو موقعه النسبي من القصة . على مستوى النقد العربي ، يذكر سعيد يقطين رأيه في مفهوم  السرد ، بقوله : ” يتحدد الحكي (السرد ) بالنسبة لي كتجلٍ خطابي ، سواء كان هذا الخطاب يوظف اللغة أو غيرها . ويتشكل هذا التجلي الخطابي من توالي أحداث مترابطة ، تحكمها علاقات متداخلة بين مختلف مكوناتها وعناصرها . وبما أن الحكي بهذا التحديد متعدد الوسائط التي عبرها يتجلى كخطاب أمام متلقيه ، نفترض – على غرار ما ذهب إليه بارت – أنه يمكن أن يقدم بواسطة اللغة أو الحركة أو الصورة المنفـردة أو مجتمعة بحسب نوعية الخطاب الحكائي ”  . والسرد اليوم بات محصورا بالسرد القصصي و الروائي  ، وقد لا يكون جميع ما نشر تحت مفهوم السرد ، نابعا عن وعي فني متطور متجسد فعلي لمفاهيـم أدبية ونقدية جديدة تتصل بوظيفة السرد وماهيته ، ولا تسعى للتعبير عن وعي جمالي يتخطى حدود الوعي السائد ، ويتجاوزه إلى آفاق جديدة . لهذا فإن مهمة النقد حيال السرد لا يتمثل بالإرشاد والتعلـيم ، بل في تجسيد رؤية فنية ، أي تفسير فني للعالم ككل ، وكشف الجديد من العلاقات الخفية داخل السرد بشكل خاص . وهو ما قرنه هايدجر سابقا بضرورة تليين التقاليد الجامدة ووضع نهاية لعملية الوجود مدخلا ، فإن علينا أن ندمر المحتوى التقليدي للمعرفة القديمة . إلى أن نصل إلى تلك التجارب الأولى أو أدواتنا الأولى فيها لإبراز طبيعة الوجود . والتدمير هنا لا يقصد به أمر سلبي أو عدمي يدعو للتخلص من تقاليد المعرفة ، بل هو يحمل بعدا إيجابيا يتمثل في كونه يجتث التقاليد والحقائق الجامدة والميتة التي تحرم الكينونة من ادراك نفسها . ويحمي اللغة من التحجر والتكلس والتحول بدورها إلى مجرد تقاليد إضافية تجسر هوة الادراك في إنشائها الأول . وشكل هذا المدخل ظهور نظريات لاحقة ، منها نظرية التلقي وانتاجية المعنى ، حيث يعد الناقد الألماني هانز روبرت ياوس المؤسس الحقيقي لها ، من خلال محاضراته الشهيرة التي ألقاها بجامعة كونستانس تحت عنوان ( التاريخ الأدبي باعتباره تحديا للنظرية الأدبية ) ، منتقدا فيها المناهج التي كانت سائدة آنذاك في تاريخ الأدب ، مقدما بذلك رؤية جديدة تتشرب منها مرجعيات نقدية متعددة ، وتستند إلى مجموعة من المفاهيم النظرية والاجرائية لتأويل واقع الظاهرة الأدبية تأويلا جديدا يأخذ بعين الاعتبار تفاعل القراء ، وخصوصية سياقهم التاريخي الذي يؤثر في كيفيات استيعابهم وتمثلهم للأعمال الأدبية حاليا . مما يعني تدمير المعنى السابق لكل السياقات.
يتبع..

التصنيفات
مقالات

تفكيك السرد الإجتماعي

untitled image

يذكر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بأن أجهزة المجتمع الأيديوليجة تقوم بوظيفتين أساسيتين: الأولى هي إضفاءالمشروعية على ممارسة السلطة والجماعة المهيمنة،والأخرى هي “تشكيل هويات” الأفراد وصياغة الوعي الجماعي والذوق العام، أو ما يسميها ريكور بوظيفة”إدماج” الأفراد في أيديولوجيا الجماعة ، هدفها إضفاءالمشروعية السابقة. ويوضح أن هذه الوظيفة من خلالالطقوس الاحتفالية التخليدية التي تحيّن بواسطتها جماعةما الأحداث المعتبرة في نظرها والمؤسسة لهويتها مثل يومالاستقلال ويوم الثورة. إن وظيفة الأيديولوجيا في هذه اللحظة هي : “نشر الاقتناع بأن تلك الأحداث المؤسسة هي عناصر مكونة للذاكرة الاجتماعية، ومن خلالها للهوية نفسها” . ويعتقد ريكور أنه من الهوية الذي لا يتحقق إلا بالتأليف السردي وحده، حيث يتشكل الفرد والجماعة معاًفي هويتهما من خلال الاستغراق في السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة لهما بمثابة تاريخهما الفعلي. ولعل الهوية القومية هنا خير مثال على تحكمها في مصير الأمة ، فإما الولاء التام  أو تواجه تهمة العمالة للإعداء حتى لو دخلت الأمة في حروب طاحنة ، تهلك الحرث والنسل ، كما دخلتها البشرية في القرن العشرين ، حتى نكون واقعيين زمنيا مطلعين ما لآثارها حتى اليوم . على الجانب الآخر ، في كتابه المذهل ( مهزلة العقل البشري ) ، ينطلق المفكر العراقي علي الوردي من فكرة ضرورة البحث و فهم الحقيقة قبل فوات الأوان، إذ أن العالم الإسلامي يمر بمرحلة انتقال قاسية، يعاني منها آلاماً تشبه آلام المخاض، ففي كل بيت من بيوت المسلمين عراكاً وجدالاً بين الجيل القديم والجيل الجديد، ذلك ينظر في الحياة بمنظار القرن العاشر، وهذا يريد أن ينظر إليها بمنظار القرن العشرين . يضيف الوردي بأنه كان ينتظر من المفكرين من رجال الدين وغيرهم، أن يساعدوا قومهم من أزمة المخاض هذه، لكنهم كانوا على العكس . وهو ما نجده اليوم في التقاتل ليس بين المذاهب وإنما في البيت الواحد ، كما ذكر الوردي . من واقع الفكرتين ، نجد أننا نعتاش منذ عقود على سرد اجتماعي متوحّد منفرد في مرجعيته و أثره ، ورثنا قوالبه الجاهزة لكل عصر ، كما هي اختلافات الأجيال السابقة ، وهو ما كان يعرّف بصراع الأجيال ، في حين أجد أنها صراع الأفكار في مدى تقبلها من العقل البشري ، ولا يكون ذلك إلا في إعادة تفكيك ذاكرة المجتمع ، وربما في بعض الأحيان نحتاج لتدمير قوالبه الجاهزة لموروثات الماضي التي تعرقل التفكير الإيجابي نحو المستقبل. معولنا في ذلك العقل ، الذي اجتمعت الأديان والفلسفات على أنه الكائن الأكثر حيوية و تحولا و قابلية في النقد والتحليل ، وتدعو لتحكيمه مقابل النقل في كل عصر . قصص كثيرة وردت على لسان الوردي في الكتاب الآخر الذي كتب عنه ( علي الوردي في ملفه الأمني ) الذي أعده سعدون هليل ، كيف أن الغرب أخذ عن المسلمين علومهم ، مقابل الخرافات التي سيطرت على تفكير العامة منهم حول كيفية نشوء الكهرباء ، وهو ما يعني سبب التفوق الفكري للغرب اليوم على العرب ، بيد العرب أنفسهم . مقابل ذلك ، ألا  يدعونا ذلك لإعادة تفكيك السرد الاجتماعي إن لم يكن تدميره ؟!

التصنيفات
مقالات

النقد والجزر الثقافية

untitled image

منذأن دخلت معترك العملالثقافي ،والكتابة النقدية تفرض نفسها عليبمرورالسنوات الماضية والملتقيات والندوات النقدية التي شاركت بها شخصيا ، ومختلف الأنشطة التي حضرتها كمشارك أو مستمع ،وما يزال سؤال يتردد صداه في بالي : هل ثمة جدوى لما نكتبمن نقد؟لا أعتقد أن الإجابة محصورة بي وحدي ، وإنما بكل المهتمين بالعمل النقدي والحركة الإبداعيةككل وسط من نشهده من انفجار سردي هائل جدا ، وسط تزاحموتنافسالأجيالالمتعددةفي عقد واحد على الكتابةالإبداعية ، حافز معظمها في ذلك الجوائز الأدبية التي تناسلت أكثر مما قبل ، دافعها الرغبة في الحضور المستمر في المشهد الثقافي ، محركها الورش المهتمة في الكتابة الإبداعية ، بصرف النظر عن رؤية القائمين أو هدفها وراء تنظيمها ، وهو ما يجعل الكثيرين يعتقدون أنه بتجاوزهذه الورش فقد امتلك الرخصة المؤهلة لممارسة الكتابةالأدبية، مادام أنها تنظمتحت إشراف شخصيات لها ثقلها الإبداعي في الساحة المحلية أو العربية .لست ضد تنظيم الورش الخاصة بالكتابةالأدبية،ولكنني مع دقة تخصصها و اتضاح نتائجها مستقبلا في الفرز بين الغث والسمين ، فلا يتحمل النقد وحده هذه المهمة ، بل والقائمين على الورش ودور النشر والمؤسسات الرسمية والأهلية في إعطاء كل ذي جهده حقه الأدبي المستحق .النقد مهمة ليستسهلة ،وليست محصورةبالفرد دون المجتمع، الذي مهما اجتهد فإنه يقاتل لوحده في ميدانيكتفي البقيةفيهبالتفرجوالتذمر.فمرارا وتكرارا تحدثنا عن دور الجامعاتوالمؤسسات العلميةفي دعم وتأسيسالنقد ،كما هو الحاصل في جامعات المغربالعربي كنموذج فعلي يحتذى به ،ليس فعّالا هنا ، بل مجرد اجتهادات شخصية من بعض العاملين في الحقل الأكاديمي ، أما السواد الأعظم فانشغل ببحوث الترقيات العلمية والمنح الأكاديمية !لهذا توجهتمجموعة من المبدعين والمتخصصين لتأسيس مختبرات خاصة بالتحليل النقدي للكتاباتالإبداعية ،وأُنشئت بيوت للشعر والسرد ، يهتم مؤسسوها وروادهافي متابعة وتحليل المشهد عبر نصوص مبدعيه ، دون أدنى دعم من المؤسسات الرسمية .ومن ثم التواصل مطلوب بين الملتقيات الثقافيةمع  المختبراتالسردية في تبادل الخبرات والمقترحات ، تتجاوز حالة الجزر الثقافية التي تعيشها معظم الملتقيات والتجمعات الثقافية في الكويت والمنطقة .

التصنيفات
مقالات

المجد للظلام !

في سلسلة من المقالات الخاصة عن عدد من أدباء الكويت، نشرت مقالا عن الأديب الدكتور خليفة الوقيان بتاريخ ٤ أكتوبر ٢٠٠٧، أعيد نشره ثانية في وقت لا يقل سوءا عن زمن القصيدة.

untitled image

أسماء قليلة هي التي تشغل ذاكرة الحاضر والمستقبل بعطائها الفكري وموقفها الثقافي ورأيها الثابت حول قضايا الثقافة والوطن، تستمد أصالة هويتها الفكرية من جوهر حياة تقاسمت فيها الفرص ما بين التضحية والعطاء، تنتمي في ذلك إلى جوهر وسبب هذا الوجود، وأعني الإنسان المفكر والساكـن فينا، مهمـا حاول الزمـن أن يتغافل عـنه وعن دوره الأساسي في رقي الأمم والحضارات، وهو الذي يرفض الركون إلى ميـراث سابق أو ذكرى مجد عابر يجمّد العقل ويقصي التفكير الحر عن خارطته المنطقية والواقعية. فالمفكر، نتاج و عقل أمة كافحت من أجل تنوير أجيالها ضد شراك الجهالة والوصاية المقيّدة.وهذا المفكر، مثقف يصنع موقفا يستمد فيه فكره، يطول لزمن غير محدود، يتعاقب عليه أكثر من جيل في الأمة الواحدة. دون أن يوقعنا في انفصام ثقافي، يتمثل في الفجوة المعرفية والفكرية بين النخبة والعامة.وأمام معركة القلم ضد الجهل والتشدد الفكري، نقف عند موقف شاعر مفكر مؤمن بموقفه الثابت والرافض لكل أشكال القهر والتلقين الأعمى ومحاربة الظلام الذي يحمل المجد لمن يتلثمون به في القارعات الملتوية في هذه الحياة، فيفضحهم بقوله:المجد للظلامللصوص السارقين من فم الرضيعلثغة الكلامالغاصبين من جفون أمهشهية المنامالنصر للرممللخارجين من حفائر العصورسطورهم شواهد القبوروجوههم ملامح الحجرالفوز للعدمللسائرين في جنازة الربيعالنائمين حين تنهض الجموعكأنهم سوائم البهمالموت للقلملكل ريشة وفمإذا تفجرت منابع الألم.بهذه الأبيات، فضح شاعرنا الدكتور خليفة الوقيان ذلك المجد الزائف الذي يصنعه الظلام لدبيبه من الكائنات الزاحفة على وجوهها، يعتلي ظهورها المتسلقون نحو بروج التماثيل، دون رأي أو موقف أو فكر صريح يميط لثام الظلام عن المتسترين خلف غياهب المناصب، المتسمرين على كراسي العناكب.وهو ما رفضه فكر شاعرنا في عزوفـه عن الأمانة العامة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في موقف شهد له التاريخ أنفته ورفضه لمنصب مفروغ من قيمته واستقلال قراره، كما وثقها لنا الزمن في كتاب استقالة فريد ووحيد في شكله ومضمونه لوزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء عام 1987، عندما احترم فيها اعتزازه بنفسه ودوره المؤسس والرائد في بناء هذا الصرح الثقافي الوطني مع شخصيتين وطنيتين، وأعني المرحومين الأستاذ عبد العزيز حسين والشاعر أحمد العدواني، وهما اللذان استمد الوطن من وحي فكرهما المستنير وبصيرة رؤيتهما لواقع الثقافة في الكويت عندما وضعا حجر الأساس لها في مؤسسة وطنية ترعى الثقافة والمثقف، ليساهم الدكتور خليفة في تأسيسه ووضع تصوراته وهيكلة عمله القائمة على احترام العقل واعتماد المعايير الموضوعية في تقويم الإنتاج والمنتجين واستبعاد أساليب المداراة، وبموجب هذا النهج الفكري والشعور الوطني تخطى هذا الصرح في فترة ازدهاره كل مجالس الثقافة في دول أخرى. ليكمل الدكتور خليفة درب أستاذيه الراحلين في هذه المؤسسة، ويختمه بإخلاص ووفاء عندما رفض أن يكون معولا هادما في تجريد هذا الصرح من دوره التنويري المستقل، رافضا كل مغريات المنصب وبهرجة الموقع القائم على مجرد مناصب استشارية وثقافة بروتوكولات. كما علّق عليها في كتاب الاستقالة:«أما المناصب والمسميات الوظيفية فلعلكم تعلمون أنها لا تعني بالنسبة لي شيئا سوى التضحية والمشقة، فمجيؤها لا يضيف إليّ فخرا و ذهابها لا ينتزع مني مجدا».فأي مجد يكون على حساب العقل والموقف والصلاح ؟ أي فخرٍ يُرجى من حرف يضيع هباء في ثنايا الرياح؟ أي حلم يتحقق دون معاناة الفكر والرأي المباح؟وكأني بشاعرنا الوقيان عندما قال:قدر أن يكونالذي لا يكونحين تبقى العناكبتنسج أكفان طفل قتيلحيث لا يعتلي صهوة الدربغير الظلام الثقيلوحدك الآنتحرث في البحرتغرس في الريحكل البذوررفة الحلمنفح الأزاهيرشدو العصافيرقمح العصوروحدك الآنتحصد في مهرجان الغنائمشوك القبور.ويكمل الدكتور الشاعر خليفة الوقيان مهمته الشاقة كمفكر وشاعر في تنوير دروب الثقافـة وتنمية وعي الأجيال القادمة من المبدعين الشباب، ونحن المحظوظون به و بأصدقائه الأدباء الكبار، عندما تسنت لنا فرص الالتقاء به كثيرا، ومجالسته في رحب صدره الكبير، فمد معنا وصال المحبة والأبوة، فنبادله بجسور قائمة لا تحركها الرياح، أساسها الثابت في ذلك، التقدير والاعتزاز بشخصه الكريم، ولذاك التألق الكامن في فكره المستنير في توثيقه أصالة ومسيرة الثقافة وتاريخها العتيد دون تحيّز أو مداراة. وإلى ذاك الألق الساكن بين جنبيه، كشاعر يرصد بعينيه مشاهد الحياة. فعين تحاكي عناوين الحب وجمال الليل ملاذ العشاق ودوحة المحبين:الليلحين تسكن النجوم داره سكينةتنام في سريرهاعواصف المدينةالطير في أعشاشهاالريح في فجاجهاوللجبال للوهاد للبحار للشجرلعاشقين يغزلان خيط الفجربردة بديعة الصورللحب للجمالهدأة حزينةوعين على وطنه، وعلى أبناء وطنه، عندما دعانا للحذر من مغبة طريق زلق، تقوده غواية الرياء نحو الأوحال. لكونه يهوى أن يرانا نعلو فوق السحاب، بتسامي الروح في طرق الغد الذي يراه:إني عشقت الغد المأمول تبعثهمن مَهْمَهِ التيه صيحاتٌ لمطعونلتدفن الليل في أسماله مزقاوتجعل الأرض حبلى بالبراكينوتطلق الطير تسعى في مساربهاوتغرس الحب وردا في البساتين

فهد الهندال