للحدث بقية .. هكذا جاء عنوان العمل المسرحي ، بعدما ارتأى كاتبه الأديب اسماعيل فهد اسماعيل أن يكون مختصرا على أربعة مناظر فقط . وهو ما يوحي إلى أن فكرة العمل قد تكون مختزلة في مضمون يتسع له أكثر من مكان و زمان . فالحدث هو اصطلاح دال على أمر / فعل بعينه ، وبقية تدل على صيرورة الحدث و استمراره . إلا أن الكاتب كان دقيقا جدا في اختيار موقع الحدث النصي و زمانه باختيار ابن زيدون عنوانا ثانويا مكملا للعنوان الرئيسي ( للحدث بقية ). إزاء المغزى الضمني للكاتب في أن يكون العنوان مفتوحا ، يتجاوز النص و مواقعه المكانية و الزمنية ، كان لابد من البحث عن تلك الزاوية أو التقنية التي سيحاول – الكاتب – جرنا إليها و عبرها إلى ذلك الانعتاق الفكري و الفني خارج حدود النص، لاسيما وأن العمل المسرحي في جوهره محرّض فعلي لأكبر شريحة ممكنة من المتلقين ، وهو العمل الفني القديم والأكثر قدرة على تسخير طاقاته الإبداعية و الفكرية لتحريك الراكد من المشاعر و الأفكار. من هنا ، كان التركيز على وسيلة الكاتب أكثر من خطابه المرسل إلى المتلقي ، وذلك من خلال التعرف على نوعية هذه الوسيلة و دورها و موقعها في العمل ” للحدث بقية ” . وهو ما استطعنا التقاطه عبر تقنية ” الجوقة المسرحية ” ، أو الكورس ، وهي بنية أساسية في العمل المذكور. والجوقة – كما هو معروف في المسرح اليوناني – جاءت فكرتها من أداء جماعي لممارسة طقس ديني أو اجتماعي معين يعتمد الايقاع و الإنشاد ، إما بواسطة الكلام ( الشعر ) أو الحركة ( الرقص ) ليتم توظيفها أكثر بواسطة تسبس و فرانيخوس ومن جاء بعدهما. البنية الفنية للجوقة في ” للحدث بقية ” بمجرد قراءة النص و تجاوز عتبة منظره الأول ، تتضح لنا رؤية الكاتب الفنية لموقع الجوقة داخل العمل ، لنجد أنه اعتمد حضورها بشكل ثانوي في الحدث ، إلا أنها أساسية في الحوار ، وهذا ما يمكن تلمسه في مداخلاتها و تعليقاتها على حوار الشخصيات ، أو في حوارها المباشر معها . دون أن يغفل الكاتب عن أهمية ربطها مع المتلـقي ، بما يعنـي تناوبا بين موقعـها الداخلي و الخارجي ، وإن كان الأول – الداخلي – هو الأكثر مساحة في نسبة وجـودها في داخـل الحدث و السرد والحوار . كما أن مداخلات الجوقة الدائمة و المعلقة لجمل عديدة و تساؤلاتها المكررة للشخصيات الأخرى ، تبقي حلقة اتصالها مع المتلقي دائمة مستمرة . إلى جانب قيامها بدور التعريف ببعض الشخصيات و الأحداث ، و تحملها عبء تقديم و ختام المناظر ، دليل رغبة الكاتب في التنقل الحر بين المناظر و تفاصيل الحوار ، إلى جانب ما ألقاه الكاتب على عاتقها من مهام أخرى ، تأخذ منها أهمية بنيتها في العمل بشكل عام : 1-دخول الجـوقة وخروجها مرتبـط ببدء الحوار و انتهائه في المنظر ، باستثناء المنظر الأول ، الذي اكتفى الكاتب بوصف هيئتها الصامتة ، ليفضل أن تكون بداية الحوار عبر شخصيته الأولى ابن زيدون ، إلا أن ذلك له مغزى آخر سنشير إليه لاحقا . 2-تحملت الجوقة عملية السرد عن الوقائع التاريخية في العمل ، وما تعلق بها من أخبار الحقبة التي يمثلها ، مع قيامها بتبرير بعض المواقف ، وإيهام المتلقي ببعض هواجس الحدث غير الواقعية ، وإن كانت دلالاتها واقعية . كالمنظر الخاص بالمحاكمة ، التي تحولت إلى محاكمة عسكرية عصرية . 3-الاستشهاد بأبيات ابن زيدون وغيره ، بحسب ما يتطلبه سياق الحوار و الحدث ، وهو ما نراه في مسايرتها الحوار مع ابن زيدون و بقية الشخصيات ، أو إنطاق ما سكتت عنه الشخصيات في حواراتها ، أو ما اختلجته في مشاعرها . 4-اتكأ الكاتب عليها – الجوقة – في تمرير بعض وجهات نظره و وشواهده اسقاطاته المعاصرة ( الجواهري ، ابن حبيش ، فيروز ، نظام الطوارئ ، ملوك الطوائف .. وغيرها ) . إضافة لتوضيح وجهات نظر بعض الشخصيات في العمل . 5-اعتمـد الكاتـب على أن تكـون الجوقةشاهد عيان و اثبات في الوقت نفسـه ، وهما صفتـان تاريخيتـان ترتبطان بعامل النص في مقدمة العمل ، فالجوقة شاهـدة عيان على ما حـدث في ذلك العصر ، وإثبات لمـا حدث ويحدث بعده ، وهو ما يمكن التقاطه في تعليقها على عبارة ابن زيدون في المنظر الأول على عبارة ابن الخطيب التي وصف بها عصر الطوائف ، من أنه اسم على مسمى .. ملوك الطوائف . لتكون مداخلة الجوقة هنا :” الجوقة : ليس لأحدهم في الخلافة إرث و لا سبب ، ولا في الفروسية سبب . و لا في شروط الامامة مكتسب . اقتطعوا الأقطار ، و اقتسموا المدائن الكبرى .. وانتحلوا الألقاب ، وكتب عنهم الكتاب .( ابن زيدون يشير إلى صدره . يضيف :ابن زيدون : وأنشدهم الشعراء الجوقة : ووقفت بأبوابهم العلماء و الفضلاء .. وهم ما بين مجبوب و مجلوب ، ومجبر غير محبوب ، وغفل ليس في السراة بمحسوب . ” ومع حضورها كشاهد عيان أو اثبات ، إلا أنها حاكمت ابن زيدون لاحقا على دوره الكبير في ما وصلت إليه الأوضاع ، لكونه السياسي و الأديب في الوقت نفسه ، في تعليقها على عبـارة ابن زيدون الواردة في حديـثه في المنـظر الثالث : ( لو أعاد التاريخ نفسه لما أقدمت على كتابة هذا الصنف من النظم بالمرة ) ، لتقول الجوقة : ( لو انك فعلت ذلك .. لما تردد اسم ابن جهور في العشرات من الكتب .. و طوى اسمه النسيان شأن عشرات الحكام لإحدى و عشرين دولة من عصرنا الطائفي ) . بما يؤكد وجهـة نظرها السابقة بأن ” الأدب و السياسة وجهان لعملة واحدة ” . وهو ما يعبر عن تماسـك بنى العمل ، خاصة بنية الجوقة ، واعتماده على دورها في تقسيم رؤيته الضمنية . 6-رسم الكاتب ردة فعل الشخصيات على حضور الجوقة في وعي شخصيات العمل ، وذلك إما في محاورتها أو الرد على مداخلاتها ونقاشها ، أو الصمت عنها وتجاهلها أو تهديدها ووعيدها ، بما يضفي على الجوقة مهمة الوعي الحاضر أو الغائب في تلك المواقف . 7-انحصر تحديد الكاتب لأفراد الجوقة على ثلاث شخصيات رتبها بصورة عشوائية ( رجل جوقة أول ، رجل جوقة ثان ، رجل جوقة ثالث ) ، وهي مجتمعة في تصرفاتها أو أدوراها ودون أن يكون لها رئيس يقود حركتها أو حوراتها مع الشخصيات الأخرى ، في حين أن الأدوار المطلوبة منها تتعدى هذا العدد ، خاصة في تعليقها الجماعي وهو الأكثر مساحة من التعليق الفردي . ولكن ثمة إشارة لابد منها إلى ضم الكاتب لابن زيدون للجوقة بصورة درامية بحسب ما يقتضيه سياق الحدث ( هروب و اختبـاء ابن زيدون عن العيون ) ، إلا أن لـذلك تفسير آخر قد نجتهد فيه هنا ، وهو أن رئيس الجوقة هو ابن زيدون ذاته ، خاصة وهو من بدأ المسرحية بتعريف الجمهور لهويته ، ولم يتنازل عنها لأحد أفراد الجوقة ، وهو عادة ما يفعله أفراد الجوقة بعد نهاية المقدمة في العمل المسرحي . بهذا استطاع الكاتب اسماعيل فهد اسماعيل أن يقدم لنا عبر عمله ” للحدث بقية ” حقيقة هزلية عن التاريخ ، بأن التاريخ صاحب نزوات ، ولا ينسى أحداثه ولا شهوده ، وهو ما يمكن أن ندلل عليه بكلمة القاضي الأول للجوقة : ” بصفتكم شهود عيان .. احتفظوا برسالة الحاكم من أجل التاريخ ” .. لتعلق الجوقة : ” يكتب التاريخ مرتين .. إحداهما بمشيئة الحاكم ” .

فهد الهندال يناير 2009








