التصنيفات
مدونتي

الصهد والسرد

عندما تقرأ عملا روائيا بُعيد نشره بفترة طويلة، فإنك تتحرر كثيرا في قراءته والكتابة عنه، متلمسا عوالم العمل ذاته لا أصداءه، ملغيا أي تأثير مسبق قد يخيم عليك، لتحقق معنى الاحتفاء به كاصدار جديد وجدير بالكتابة عنه.

الصهد، عنوان العمل الروائي الأخير للروائي الصديق ناصر الظفيري، الذي صدر عن الزميلة مسعى للنشر والتوزيع شتاء 2013، بعد أعمال روائية وقصصية عدة، قـدّم من خلالها الظفيري هويته السردية التي تتشابك في حبكتها مع التاريخ عبر المكان باعتباره الشاهد بمحركي صراعه (الثابت والمتحول) في رصد جانب ما من جوانب مجتمع ما، لتدور حولها مفردات الخطاب وتتشكل معها عوالم السرد. ولأن الرواية مشروع في الكتابة الملحمية- كما يذكر الظفيري في أحد لقاءاته- أو قراءة في تاريخ الكويت، توقعت أن تكون ملمة بجوانب كثيرة وأماكن مختلفة ترصد متغيرات عامة وتحولاته على مختلف الأصعدة كما في عدد من الروايات العربية كرباعية إسماعيل فهد إسماعيل أو ثلاثيته عن النيل أو أرض السواد ومدن الملح لعبدالرحمن منيف وثلاثية تركي الحمد. إلا أن الظفيري اكتفى في الصهد في تركيز عدسته على مدينته «الجهراء» كمكان متخيل عن الكويت عموما، وهو ما كان في روايته السابقة (سماء مقلوبة)، وهـو قد يصح للروائي من دون المـؤرخ على اعتبار أن العمل الروائي بمجمله متخـيل ولو قـام على أسس واقـعية، إلا أنني أردت الوقوف عند فكرة الملحمة والرواية التاريخية.

جاء العمل مقسما على فصلين/ كتابين، عُنون الأول بـ (تأريخ) وجاء سردا لتاريخ المكان/ الجهراء عبر شخصيتين أساسيتن:

– ابن فضل، التاجر القادم من الشمال، الباحث عن فرص جديدة.

– شومان البدوي، عاشق الفضاء الذي اعترك الصحراء بكل ما فيها.

إضافة إلى شخصيات ثانوية، تناسلت منها معالم السرد اللاحق في الفصل الثاني الذي عُنون بـ (الرواية) الذي يفترض أنه امتداد السرد والتخييل، ليفتتح السرد فيه عبر تكنيك الاسترجاع في قراءة علي بن شومان – الشخصية الأساسية هنا – لمخطوط ليال التي شكل معها وربما بقية السرد في الفصل الثاني الذي كانت الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن العشرين لوحته الزمنية في رسم المعالم السياسية والاجتماعية لبعض شخصيات العمل. لينتهي الزمن بُعيد تحرير الكويت من الغزو العراقي الغاشم فيتوقف زمن السرد عند من ابتدأ به أصلا «شومان» الذي اقتبس اسمه من الشؤم كما جاء في أول فصل (شؤمان) فتمثل الأول بموت أبيه وهو جنين ببطن والدته، والآخر عودته إلى الواقع بعدما تحول لخرافة. وكأن ثمة ثأرا قديما بين الشؤم وشومان، فاستمر معه بعد معرفته بابن فضل وموت أمه وتركه الصحراء/ الفضاء، انتهاء إلى ما وصل إليه من حال… كائن غريب في أرض مولده و محله وترحاله.

وكما كان السرد كثيفا/ متماسكا في الكتاب الأول وشيقا في الحفر والحكايا التي خبئت في ذاكرة المكان الذي كان شحيحا/ انتقائيا ليهب دفئه إلا لمن يملك فقط، برغم أنه بات موطن من هاجروا إليه بحثا عن حياة أخرى. تمنيت لو كان كذلك السرد في الثاني، خصوصا في الفصول الساردة عن جغرافيا جديدة في السرد الخليجي والكويتي حيث الغربة بين كندا ونيويورك، حيث اكتفى الروائي ببعض المشاهد التي برغم قلتها إلا أنها كانت الأكثر إثارة للفضول وحراكا للسرد الذي كان يسحب ياقتنا للتعرف أكثر على تلك الزوايا المنعطفة في رحلة الغربة إلى بلد آخر تجمعت فيه أيضا نفوس من مشارب مختلفة لتبني وطنا منوعا بالثقافات، ساكنا بالأمل، فيكونوا زاد الدفء في أرض مسكونة بالبرد. ولعلي هنا أسترجع ذات الملاحظة التي اشتركت فيها مع كثيرين حول رواية (ساق البامبو) للروائي سعود السنعوسي، حيث كان الجزء الخاص المتعمق بالفلبين الأكثر غنى وتشويقا من الآخر الخاص عن الكويت.

كذلك فإن تناوب السرد بين المكان الأول «الكويت»/ المكان الثاني «الغربة» في هذا الجزء من الصهد كان كفيلا لتشظي السرد بين علي/ ليال/ ريما، وإن كان علي هو سارده الطاغي بانفراد، النقطة التي تعطي الأفضلية لسرد الجزء الأول الذي جاء على لسان سارد خارجي كلي المعرفة، يركز بؤرة الحدث في ذات المكان/ الجهراء. إضافة إلى المرور الزمني السريع على فترة الغزو والاحتلال العراقي في فصل (ذات خميس من آب) فجاء زمن الحكاية قصيرا وخاضعا لزمن السرد العابر.

أختم المقال بأن الصهد كرواية تستحق الاحتفاء بها، برغم ما أثرناه هنا من باب محبتنا للصديق ناصر الظفيري الذي أتمنى أن يكون الصهد بداية استرجاع نَفَسِ المكان عبر أعمال روائية قادمة أراهن دائما عليها في حرفية كاتبها واشتغاله السردي الجاد والفكري المتميز.

فهد توفيق الهندال

نشر المقال في تاريخ 17 سبتمبر 2014

توفي الروائي ناصر الظفيري في مارس 2019

التصنيفات
مدونتي

المثقف والفاشستي

‎ضمن خمس مقالات كتبها على فترات متباعدة ، يطرح الناقد والروائي امبرتو ايكو عدة قضايا متعلقة بالوجود الإنساني، كالأخلاق، العلمانية، التدين، الثقافة، العلاقة مع الآخر، وغيرها. وربما تأتي العلاقة بين هذه المواضيع بما حاول العنوان تضمينه كعلامة أولى للمتلقي، تشي بعلاقات متشابكة متعاقدة فيما بينها لتقديم الأفكار المشكلة لنوعية الأخلاق السائدة اليوم.
‎يذكر مترجم الكتاب سعيد بنكراد في تقديمه الترجمة للعلاقة بين هذه المواضيع والعنوان «دروس في الأخلاق»:
‎مقولات من قبيل «سوء فهم» و»الجهل» بخصوصيات الآخر و»الدونية الحضارية» و»التفوق العرقي» مواقف تندرج كلها ضمن ما يمكن أن يشكل أخلاقا تُعتمد في الحكم على الآخر وتصنيفه. فالـ»نحن» غامضة دائما، لأنها تعتمد معاييرها للحكم على الآخر وتحديد المقبول والمرفوض والمحبذ والمكروه عنده».
‎جاءت فصول الكتاب مقسمة على خمسة عناوين:
‎١-التفكير في الحرب ، وتضمن حربي الخليج 1990 و كوسوفو 1999
‎٢-الفاشية الأبدية
‎٣-حول الصحافة
٤- الأنا والآخر
٥- النزوح والتسامح وغير المسموح به.
‎في مقالة «التفكير في الحرب» ، طرح ايكو قضية أخلاقية يعاني منها المثقف في مسألة تأييدها أو رفضها، مهما كان جدواها من عدمها، حتى لو كانت ضرورية لانقاذ مجتمعات من اضطهاد أنظمة قمعية، لكون المثقف فرد نوعي في المجتمع بما يملكه من معرفة ورؤية لهذا يحذر ايكو المثقف من الاندفاع وراء التصريحات أو التعليق على الحرب، لكونه يدخل في لعبة الحرب الإعلامية دون ان يشعر بذلك، فيصبح بوقا يتم توظيفه بحسب الحاجة، دون أن يقع تحت طائلة الصمت الذي لا يعفيه كذلك من تحمل المسؤولية الفردية على الأقل.
‎يرى ايكو الخيار الأمثل لمثل هذا النوع من التفكير في الحروب بأنه يكمن في التصريح بأن الحرب تلغي كل مبادرة إنسانية، ليرى أن الواجب الثقافي يحتم الاعلان عن استحالة الحرب ولو لم يكن هناك حل بديل.
‎وفي مقالة «الفاشية الأبدية» يعدد ايكو عوامل استمرار الفكر الفاشستي وتكيفه مع مختلف الوضعيات، لتنطلق العوامل من مرجعية عبادة التراث، أي النزعة التقليدية في التفكير ورفض الحداثة كنمطي تفكيري أو ثقافي، مع امكانية توظيفها – الحداثة – علميا وتكنولوجيا لخدمة النظام.
‎كما تستغل الفاشية الكبت والاعدام الاجتماعيين. وبرغم دعوتها لمحاربة النخبوية كطبقة ارستقراطية، لكنها لا تلغي أجندتها السرية القائمة على شعبوية نوعية تلتف حول اسطورة قومية تتلخص في البطل الأول أي الزعيم الأوحد، يبادر للقوة ضد الآخرين في سبيل الحفاظ والتوسع بالأمة وثرواتها ولو على حساب الأمم الأخرى!
‎لقد قدّم لنا امبرتكو ايكو تطبيقا عمليا على المفاهيم الجديدة للأخلاق التي قد تسود الألفية الثالثة كما ظهر في القرن العشرين، ويأتي الكتاب ضمن مجال نقدي للمتلقي ذاته، في بحثه المضني حول أحداث التاريخ ومجريات الواقع، فالكتاب لا يقدم دروسا في ما «يجب ..»، وإنما
“لماذا وكيف وإلى أين ؟”

ونحن نتابع الحرب في أوكرانيا، نتساءل كما طرح ايكو في معرض تساؤلاته في الكتاب، إلى أي مدى ستصمد ثقافة التعايش السلمي في وجهة آلة الحرب التي لم تعد أسلحتها تقليدية، بل تعدتها لما هو أخطر، فجعلت العالم يقف على أصابع قدميه يترقب طبول حروب قادمة لن تكون أقل خطورة من القذائف والمدافع، لكونها تسلب الإنسان مؤونته وأمانه.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

البحث عن الكائن الفريد

“هناك قصور في الحركة النقدية العربية عامة، والمحلية أكثر، يجب أن يتزايد حضور النقاد طردياً مع غزارة الأعمال الجيدة، وهذا ما لم نشهده حتى على الأعمال التي تحظى باهتمام إعلامي أو تلك التي تحصل على جوائز، بالنسبة لي لا أبحث عن الإنصاف بقدر ما يضيف نصي للقارئ ولشخصي كروائي.”

هذا اقتباس من حوار صحيفة الخليج مع الروائي خالد النصرالله، ما لفت انتباهي هو ما يراه النصر الله ضروريا في تزايد حضور النقاد “طرديا” مع غزارة الأعمال “الجيدة”، وذكر أن هذا ما لم يشهده حتى مع الأعمال التي تحظى باهتمام إعلامي أو تلك التي تحصل على جوائز!

لاشك أن هموم الكتّاب دائما ما تنصب على قلة التشجيع والاهتمام بما ينتجونه، ويكون للنقاد نصيب في تلقي بعض من هذه الهموم أو الشكوى ، لكونهم غير متفاعلين مع ما يكتبونه أو ينتجونه!

ولكن من هم النقاد المعنيون بهذا؟

هل هم النقاد المشتغلون بالنظرية وتحليل النص أم النقاد الأكاديميون العاملون بتدريس النظرية أم النقاد المعنيون بتقييم العمل وتحديد مستواه بين الجيد والردئ؟

إذا كان الكتّاب متنوعين في اهتماماتهم واشتغالهم، فالنقاد أيضا متنوعون في اهتمامهم واشتغالهم، ولا يمكن أن تتطابق وجهة نظر الكاتب مع الناقد والعكس، وإلا دخلنا في مسألة المجاملة أو الخصومة بين الطرفين.

الأمر الثاني، الناقد المشتغل في النظرية لا يفكر في منجز الرواية الإعلامي ولا الحائزة على جائزة أو تنويه، بقدر ما يرصد قيمة العمل الفنية وأصالة البناء الذي سيكون بصمة الكاتب بما يحتوي على رؤيته وأسلوبه الروائي.

عندما تناول الناقد جيرار جينيت عملا روائيا ضخما بحجم (البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست ذكر مبررا سبب دراسته:

“إن التحليل ليس معناه التوجه من العام إلى الخاص، بل من الخاص إلى العام، أي من ذلك الكائن الفريد الذي هو رواية بحثا عن الزمن الضائع إلى عناصره المألوفة كثيرا، من محسنات وطرائق عامة الاستعمال وشائعة التداول، ومن ثم عليّ أن أعترف بأنني أبحث عن الخصوصي أجد الكوني، وإذا أريد أن أجعل النظرية في خدمة النقد، أجعل النقد في خدمة النظرية بالرغم مني”.

وجينيت بذلك يقيم نقاشا منهجيا بين تطوير النظرية بما يؤدي لاكتشافات جديدة في تجربة النص البروستي.

إذن النقد الأدبي هو بحث مفترض في خط إبداعي مؤسس، قد يشكل مدرسة لكتابة إبداعية لجيل من الكتّاب، فليس منا من يجهل أثر روايتي دون كيشوت أو ١٩٨٤ أو قصيدة الأرض اليباب لاليوت أو مسرحية في انتظار جودو لبيكيت وغيرها من الأعمال العظيمة، التي ما كان لها أن تجد حضورها لولا حوار النقد والإبداع، في مد جسور النظرية بينهما،واكتشاف الجديد.

ولعل كونديرا لديه وجهة نظر حول ماهية الناقد:

“ينبغي الامساك بما هو جديد، وما يتعذر إحلال شيء محله، في ما يسهم لنتبين ما اكتشفته مظاهر الوجود التي كانت مجهولة في السابق. إذن يعتبر الناقد مكتشفا للمكتشفات”.

بالنهاية الناقد باحث كما هو الروائي، عن مكاشفات ومكتشفات جديدة في الكتابة، وليس مسوّقا أو مروجا لكاتب ما أو كتابات معينة.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

رب رواية من غير راوٍ

من أكثر ما يشدنا في قراءة أية رواية، اسم كاتبها أو الانجاز الذي حققته أو الموضوع الذي تطرحه أو الدهشة الفنية التي تتميز بها، حتى ولو كانت الرواية الوحيدة في سيرته الأدبية.

المعروف أن الطيب صالح يملك من رصيده الروائي، ثلاثة روايات، أشهرها “موسم الهجرة إلى الشمال”، للموضوع الجدلي الذي طرحته وقتها، ولتقنية السرد المعتمدة على سارد عليم مشارك غير مسمّى بالعمل، ولكونها جزءا من سيرة روائية للطيب شئنا أم أبينا. وبرغم اقتصاده في الكتابة الروائية إلا أن ذلك لم يكن عائقا لكي يكون ضمن أهم ١٠٠ روائي في العالم.

إذن، المنجز الروائي لا يحتسب بالكم المتراكم من الأعمال، وإنما المميز فيما كتبه الروائي والدهشة الفنية التي أبدع بها وأسس معها خطا روائيا جديدا يسير عليه من بعده جيل من الكتاب نحو كتابة الرواية. فالمنجز الروائي ليس رقما، بقدر ما أنه قدرٌ فني يضع كاتبه في قائمة التميز الروائي ولو كان كاتبا لعدد يسير من الأعمال.

فالروائي المبدع هو من يحصي بنفسه أعماله الناجحة دون بقية أعماله، بما يوازي قناعة المتلقي. فللروائي الحق في اقصاء أي عمل يرى فيه “عدم نضج” أو ” اخفاقا تاما” ضمن مسيرته ككاتب كما يرى الروائي ميلان كونديرا.

ولنا مثال رائع فيما اقدم عليه الروائي الراحل اسماعيل فهد اسماعيل في تخلصه من مسودات بعض أعماله لعدم اكتمالها وكان جوابه على سؤالي له إن كان قرارا مؤلما، فأدهشني باجابته بأنه كان يراوده هاجس، فلا يحب أن تنسب إليه بعد وفاته.

إذن، ما يمكن أن نخلص إليه، أن العمل الروائي هو جزء من تأملات الروائي في الحياة، وتمرينات يمارسها لتعزيز وعي هذه التأملات، ومحاولات منه لكي يرسم عالما متخيّلا افتراضيا لعالم واقعي مُعاش. فالرواية حقل تجربة الكاتب فكريا وضميره الحسي ورصيد خبرته الفنية، ولا يمكن أن يغامر كاتب عظيم بتاريخه لمجرد أنه يرغب بأن يكون كاتب موسمي أو كاتب ترند على حساب الصنعة الروائية. فالرواية لا تكتب لمجرد البوح، وإلا اعتبرت يوميات أو مذكرات شخصية، وليس من أجل الجوائز، فكم رواية فائزة غلبتها أخرى خالدة، وليس كتابة لمجرد الحضور بصرف النظر عن قيمتها الفنية وخطابها السردي، وإلا لقرأنا أعمالًا لا تنسب لأصحابها إلا اسما وتكون مجرد رمية تعتمد على الحظ فقط!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الرواية الفائزة والمفاجِئة

انتهى يوم الاحد الماضي ماراثون 2022 للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) باعلان فوز رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” للروائي الليبي محمد النعّاس، وجاء في تقرير لجنة التحكيم لدورة هذا العام 2022 والذي ألقاه رئيس اللجنة الروائي شكري المبخوت موضحا سبب اختيار الرواية ، نختار منها ما قاله : “استقر رأي اللجنة بالإجماع على تتويج رواية كُتبت بإيقاع سردي سلس في ظاهر النص، هادر متوتر في باطنه، صيغت بلغة عربية حديثة يسيره المأخذ، لكنها تخفي جهدًا في البحث عن أساليب في القول، مناسبة للعالم التخيلي الذي بناه صاحب النص”. والتقرير هنا يشير لأهمية البناء السردي والبحث الروائي الدقيق حول الموضوع بما يفيد أصالة النص وعدم استنساخ فكرته.

ثم يتناول التقرير براعة الكاتب فنيا في رسم شخصيته الأساسية بما ذكره المبخوت:”تمكن صاحب الرواية من تتبع مسار الشخصية وهي تتلعثم، وتستكشف هويتها الحائرة المخالفة للتصورات الاجتماعية السائدة في قرية محافظة، لا تشجع على الحلم”.

كذلك يرسم التقرير صلة الرواية بالواقع والمكان : “وما هذه القري إلا صورة من عالم عربي تهيمن عليه إيديلوجية موروثة مغلقة”. وعن أهمية حضور خطاب ورؤية الكاتب شدد التقرير على فكرة الفردانية في مقارعة العالم بعيدا عن الفكر الجمعي : “الرواية استعادت تجربة فردية في درب من الاعترافات التي نظم السرد المتقن المشوق فوضى تفاصيلها، ليقدم نقدًا عميقًا للتصورات السائدة عن الرجولة والأنوثة، وتقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وتأثيرهما النفسي والاجتماعي، تقع الرواية في صلب التساؤلات الثقافية الكونية اليوم حول قضايا الجندر، لكنها منغرسة في آن واحد في بيئتها المحلية والعربية، بعيدًا عن الإسقاط المسف والتناول الإيدولوجي المسيئ لنسبية الرواية وحواريتها”.

إذن لخّص التقرير معيار اختيار رواية النعّاس لموضوعها الآني حول الجندرة والهويات المضطربة، وهي حديث العالم اليوم. ولعل هناك سببا آخر لم يذكر في التقرير، وهو أن العمل هو الثاني روائيا لمحمد النعّاس وهو ما أشار إليه المبخوت في لقاء تلفزيوني بأن رواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) هي شهادة ميلاد روائي كبير وهو محمد النعّاس ، وهذا يدل على حدس اللجنة وتوقعها، فإلى جانب المبخوت وهو الروائي والناقد الفذ، والقارئ المتمرس نجد أعضاء اللجنة لا يقلون عنه خبرة وتمرسا في الكتابة والنقد والقراءة كالشاعرة والصحفية سعدية مفرح والروائية والباحثة إيمان حميدان وأستاذة الأدب العربي بجامعة صوفيا ببلغاريا بيان ريحانوفا، والشاعر والمترجم عاشور الطويبي. ويسحب لهم عملهم الصامت بعيدا عن ضغوط الاعلام وتوقعات القراء.

ثمة ملاحظة أخيرة، أن الروايات التي وصلت للقائمة القصيرة لم يكن معظمها متوفرا في المكتبات ولابد من طلبها مباشرة من الناشر، مع أنها وصلت للقائمة الطويلة ومن ثم القصيرة، ومنها الرواية الفائزة، ولا أعلم موطن الخلل هنا، وأتمنى أن تحرص إدارة الجائزة على أن تولي الأمر هذا اهتمامها لتكون الأعمال المرشحة في المتناول مع اعلان قائمة الروايات التي تقدمت للمسابقة دعما لها وتشجيعا معنويا لكتابها على الأقل .

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

زهور الحرب

من أجمل فرص عطلة نهاية الأسبوع ، قائمة الأفلام العالمية التي تبحث عنها وفقا لبعض الترشيحات التي تأتيك من اصدقاء ، أو أن الصدفة وحدها التي تضعها أمامك ، فيكون حظك سعيدا في متابعتها والتعرف عليها ، ومن ثم البحث عن أصل القصة وظروف انتاجها ، بما قد يضيفه إليك من خبرة جديدة في تذوق الفن العالمي .
من جملة الأفلام المميزة التي شاهدتها مؤخرا ، الفيلم الصيني ” The Flowers of War” زهور الحرب المقتبس عن رواية بعنوان 13 Flowers of Nanjing للروائية الصينية جيلين يان حيث تدور أحداث الرواية في الصين عام 1937 إبان الاجتياح الياباني للصين في الحرب بينهما ، من ضمنها مدينة نانجينغ التي تشهد مذبحة فظيعة شهيرة تتحول بعدها إلى مدينة أشباح بسبب الدمار الهائل الذي لحق بها ، وهروب من تبقى من أهلها بحثا عن فرص النجاة ، في حين تبقى مجموعة من الطالبات الصينيات محاصرات في كنيسة المدينة التي تتحول إلى المكان المسكون الوحيد في العمل ، فيصل أثناء ذلك جون ميلر متعهد دفن الموتى الذي أدى دوره الفنان العبقري كريستيان بيل لدفن كاهن الكنيسة المتوفى ، فيقوم بتقمص شخصيته مضطرا يساعده في ذلك صبي الكاهن السابق ، حتى مجيء مجموعة من مومسات المدينة بعدما هجرن الماخور الذي كن يعملن فيه هربا من جنون وبطش الجنود اليابانيين ، ليجد ميلر نفسه متورطا مسؤولا عن المكان دون إرادته .
حمل الفيلم أبعادا إنسانية أفرزتها ويلات الحروب ، وما يعيشه الناس في ظل انعدام قوانين وحقوق الإنسان ، وكيف يتحول البشر إلى ذئاب تأكل كل ما يسد حاجتها ويشبع غريزتها ، وهو ما ظهر في شخصية ميلر الذي حاول الانتصار لشهواته ، إلا أنه تخلى عنها في سبيل الانتصار لروحه الإنسانية الساكنة في جسده المخمور المعربد . كما ظهرت القسوة والبشاعة في تعامل الجنود الغزاة مع المكان ومن فيه ، لاسيما الطالبات اللاتي كتمن سر وجود الأخريات المومسات فدفعن براءتهن ثمنا عنهن ، مما أوقع الأخيرات”المومسات” في حيرة ما بين واقع عملهن الأساسي كمصادر متعة للآخرين ، وبين إنسانيتهن في تعاطفهن مع الطالبات وما حدث لهن بسببهن . أو ذلك الضابط الياباني الذي فرض حماية على الكنيسة ومنع التعدي على من فيها ، مقابل أن يستمع لغناء الطالبات بشكل دوري ، قبل أن ينقل ويأتي آخر لا يفكر خلاف جنوده المغتصبين لكل منابت البراءة . لنضيف أيضا شخصية المرشد الياباني في المنطقة عندما أوكل ابنته إلى ميلر لتكون في عهدته بجانب الطالبات ، فيكتشف حقيقة وجود المومسات لاحقا ، ويصمت ولا يفضح المكان ، ليموت والسر معه .
لهذا جاء الفيلم متضمنا جملة من التناقضات حفل بها المكان الواحد ، تنوعت بين شخصيات العمل الذين عاشوا صراعا بين البحث عن فرصة النجاة على حساب الآخرين ، أو الانتصار للروح الإنسانية ولو كان على حساب حقها في الحياة ، فتأتي رسالة الرواية / الفيلم بأن الشرف ليس في أن يحفظ الإنسان نقاءه وطهارته ، بقدر ما أن يحفظ أيضا إنسانيته في تضحيته من أجل الآخرين .
العمل قد لا يتطرق للجانب العقائدي ، إلا أن المكان المستعار في الرواية / الفيلم ، وما يمكننا أن نستبدله بأمثلة أخرى قرينة له بالرمزية ، يجعلنا نتساءل .. هل يكتسب المكان رمزيته ودلالته بما يشكله الظاهر أم بما يضمنه من جوهر ؟
من هنا ، كان المكان دائما في حالة تفاضل بين منزلته ووظيفته ، فالأماكن ليست سواء في رتبتها وتأثيرها وكثافتها الروحية . فوجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر روحانية وفضلا من وجودها في أمكنة أخرى – كما يرى ابن عربي – حيث تتحقق للمكان منزلته ، وتنمو في ضفافه الموحشة زهوره التي لا تذبل أبدا !

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

مع وقف التنفيذ

تابعت المسلسل السوري (مع وقف التنفيذ) الذي عرض في رمضان الماضي، وهو من تأليف يامن حجلي وعلي وجيه واخراج الفنان سيف سبيعي وبطولة عباس النوري وسلاف فواخرجي وغسان مسعود وآخرون، و سأتوقف بداية مع شخصية (حليم) التي أدّاها باقتدار الفنان غسان مسعود، حليم المثقف المناضل الذي يحلم بمستقبل اجتماعي وسياسي افضل لمجتمعه، ولكنه لم يكن حليما مع ماضيه الذي قضاه في السجن ورغبته بالانتقام الشخصي والطبقي من مجتمعه، ليدفع ثمن غروره وكبريائه أبناءه ( رولا و جبران). قدّم العمل شخصية مثقف مختلفة غير تقليدية، فهو قد يدعو لأفكار ومبادئ، سهلٌ عليه التنازل عنها في لحظة عندما يشعر بالخطر يقترب من أبنائه، إلا أنه وبسبب غروره يمكن أن يضحي بهما في لحظة أخرى أيضا.
شخصية المثقف الذي تحوّل لكتابة المقالات الثقافية التي تدر عليه المال بعد المقالات السياسية الناقدة والتي لم تجلب له سوى المشاكل، لذا فهي ليست غريبة عن واقعنا اليوم، في انتهاز الأفكار والمبادئ الحالمة والاستعراض بها نحو تحقيق مصالح لا تقل فداحة عن واقع السياسي الفاسد و المتسلّق. فشخصيته هنا لا تختلف عن محفوظ عجب في (دموع صاحبة الجلالة) ولا محجوب عبدالدايم في (القاهرة الجديدة) وإن اختلفت التفاصيل، ولكن النتيجة واحدة، صدام مع كل القيم والشعارات وسقوط أخلاقي مدويا جدا هذه المرة!

أما شخصية (جنان) والتي جسدتها الفنانة سلاف فواخرجي فهي نموذج للتحالف السياسي والاقتصادي الذي يقبض على مفاصل الواقع ويسعى لشراء الذمم والأملاك في خطة لتشديد القبضة أكثر على صنع القرار بما فيه مصلحته ومصالح حلفائه.

أخيرا شخصية (فوزان) والذي جسّده باقتدار كبير الفنان عباس النوري، فهو يمثل رجل الشارع الانتهازي الذي يحاول نيل ما تبقى من فتات تحالف المال السياسي مع الاقطاعيين تحت شعار الولاء للسلطة أينما كانت، سعيا منه للصعود من درك أسفل الحياة الحقيرة لاستعادة كرامة مفقودة عبر أي نوع من السلطة والعز على حساب أمثاله من المسحوقين في المجتمع.

لقد جاء العمل (مع وقف التنفيذ) وكما هو عنوانه تعبيرا عن وقف الكثير من مشاريع التنمية الفكرية والاقتصادية والسياسية بسبب شخصيات تسلقت هذه الشعارات نحو مصالحها الضيقة وتركت المجتمع يسبح في القاع دون حراك اجتماعي واع ومستنير!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

في اليوم العالمي للكِتاب

منذ اشتغالي في عالم النشر، لا تنفك عن بالي تلك الأسئلة التي أواجهها مع زملائي المؤمنين بقيمة النشر الثقافي، حول الجدوى من مشروع قد لا يدر ربحا تجاريا بقدر عائده الثقافي. قد تحتاج إجابتي لسطور أكثر، ولكنني سأختصرها بشاهد قصة الأديب عبدالحميد جودة السحار و صديقه الأديب العالمي نجيب محفوظ حول جدوى مثل هذا المشروع، حيث كان الاثنان طالبين في مدرسة واحدة، وسكنا حيا واحدا، وأحلامهما واحدة، إحداها فكرة إنشاء دار للنشر. فيقول السحار عن ذلك في كتابه ( صور وذكريات ): «ولدت الفكرة وما أيسر ولادة الأفكار وما أعسر إخراجها إلى عالم النور لمن كان مثلي لا يملك أية أداة من أدوات التنفيذ. ومنذ ذلك اليوم أصبحنا نلتقي أنا ونجيب محفوظ في قهوة الفيشاوي وفي قهوة عرابي في ميدان الحسينية وصرنا لا نفترق لا حديث لنا إلاّ حديث الأدب، نعيش على أمل واحد أن تعرف كتبنا رفوف المكاتب، فما كنا نطمع في أن تحتل مكاناً في الواجهات الزجاجية التي خصصت لكبار المحظوظين وعرفت أن نجيب دار بقصصه الفائزة بجوائز الدولة على دور النشر فاعتذرتْ له لأنه ليس من مشاهير الكتّاب. كأنما ولد هؤلاء وهم من المشاهير، فزاد ذلك في تصميمي على إنشاء دار للنشر هدفها نشر آثار المغمورين».

ويذكر أن السحار لجأ إلى مصوغات زوجته فباعها ، وكون مع محفوظ وثلة من أصدقائهما الأدباء لجنة النشر للجامعيين التي قدمت المؤلفات الاولى لهم ، ولأبناء جيلهم ، ثم توقف المشروع بعد الخسارة المادية التي تعرض لها السحار لقاء اصراره على القيام بهذا المشروع . ومع ذلك استمرت أعماله و أعمال أصدقائه خالدة حتى هذا الوقت ، لتفوز رواية صديقه نجيب محفوظ بجائزة نوبل بفضل تلك الأماني و الطموحات و الجهود في خدمة الأدب و الثقافة.

قد يختلف معي البعض حول وصفي الكتاب ب”سلعة حياتية”، أو حتى مجرد وصفه بـ ” سلعة ” لما يحمله من قيمة معنوية أكثر منها مادية ، وهذا مرده إلى الصورة التقليدية الراسخة في ذهنية الكثيرين، بأن الكتاب قيمة ثقافية أو أدبية بحتة ، دون التفكير للحظة أنه بمجرد شرائك إياه فأنك دخلت دائرة التسويق لكونك شاري سلعة من بائع، لا يختلف عن بقية السلع الاستهلاكية الأخرى !

تعتبر الثقافة اليوم قيمة و سلعة في آن، ولا يمكن الفصل بينهما، فالقيمة لوحدها تحددها جودة المنتج، والسلعة مرتبطة بذلك، وإلا لماذا تحرص الدول الصناعية مثلا على دعم صناعة الكتاب ضمن مجالات التصنيع لديها ؟

في أوربا ، لا يقل الدخل السنوي من إيرادات الكتب مثلا عن 20 مليار يورو سنويا منذ عام 2011، وهو ما لا أعتقده مقاربا للدخل السنوي العربي من صناعة الكتاب. ما يعني ضرورة إعادة النظر في مفهوم معارض الكتب العربية ضمن رؤية جديدة لا تقل عن الرؤية الأوربية أو الآسيوية في صناعة الكتاب، مما يتطلب جهودا وقناعة مكثفة و عملا دؤوبا يرتقي بصناعة الكتاب بدءا بتخفيف قيود الرقابة وتخفيض سقفها نحو اطلاق مساحة أوسع من الحرية المسؤولة للتأليف والنشر والترجمة ، وصولا بتنويع المنتج للكتاب وجودته، حتى نصل إلى صناعة شاملة لكل من الكاتب والمتلقي والناشر ليكملون سيرة الكتاب وحضوره المستمر.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

مكاشفات الطغيان

للمسرح العراقي دور مهم جدا في دعم الحركة المسرحية العربية والعالمية بما أنجبه من نجوم كبار أثروا الوعي الفني لدى المبدع والمتلقي ، ومنهم الأستاذ الراحل قاسم محمد صاحب البصمة المؤثرة في المسرح العربي قاطبة ، عبر سيرته الفنية الخالدة ، نختار منها العرض المسرحي ( مكاشفات ).

المعروف أن العرض مُعد عن مسرحية (مكاشفات عائشة بنت طلحة) للأديب الشاعر السوري خالد محي الدين البرادعي التي كتبها عام 1993 ، مع مقاطع من مسرحية (ابن جلا) للشاعر والروائي والمسرحي المصري محمود تيمور التي قدمت عام 1962 وأخرجها المسرحي الكبير زكي طليمات . والمقال سيتناول العرض الذي قدّم في الكويت خلال مهرجان هيئة المسرح العربي في فبراير 2016 ومن اخراج غانم حميد.

طرح العمل فكرة ديكتاتورية / طغيان الإنسان في كل مجال و زمان ، بدءا من العصر المحكي عنه وهو زمن الدولة الأموية ، إلى الوقت الراهن . وجاء اختيار الحجاج الثقفي في العمل كنموذج جدلي وليس تاريخي ، مع اسقاطات الديكتاتورية التي عرفت عنه شخصيته على مناحي الحياة المختلفة ( السياسية ، المجتمعية ، الدينية ، الثقافية ) .

فالحجاج شخصية تتمتع بوجوه عدة للسلطة :

* سلطة اللغة / الخطاب لكونها من الشخصيات العربية الفصيحة بالبيان .

* سلطة الدين ، لكونها وظّفت الدين في قمع المعارضين / الخارجين عن ولي الأمر .

* سلطة النظام ، فهو أول من أسس الدواوين وأنظمة الجند وغيرها .

* سلطة عسكرية في اضطهاد الثائرين على الدولة ، مع امتداد دوره المهم في الفتوحات الإسلامية .

إلا أن السلطة الضعيفة في سيرة الحجاج ، سلطة العاشق ، لعجزه عن امتلاك مفاتيح الحب لقلب المرأة ( عائشة بنت طلحة نموذجا ) ، مما كشف هنا عن الشخصية الأضعف له ، شخصية الإنسان .

أما شخصية عائشة ، فقد مثلت سلطة لوحدها ، ففي صراعها مع الحجاج شكلت جانبي التاريخ حيث سلطة المحاسبة ، كما شكلت المرآة للحجاج في المكاشفة ، عبر الحوارات الثنائية والمونولوج لكل منهما على حده ، في صراع درامي بين الحب والديكتاتورية.

اعتمد نص العمل على الحوارات بين عائشة والحجاج في جانب ، وعلى المونولوج الخاص بهما في جانب آخر ، في بناء درامي يعتمد على فنية الإعداد في المقابلة بين الشخصيتين لكشف التناقضات المختلفة بين الشخصيتين من جهة ، والصراع النفسي داخل كل شخصية من جهة أخرى ، في تقاطع زمني مستمر بين الحاضر والماضي . والعرض جاء مختلفا عن النص في بعض نواحيه ، بما يعزز إعادة النظر المستمرة للمخرج في رؤيته للعمل ، وهو دليل التحول نحو ما يمكن أن يكون أكثر تأثيرا للعمل فنيا ، وعلى متلقي المسرح تاليا .

بالمجمل ، فرض النص ببلاغته الشعرية الخطابية على العرض ، وأعتقد أن المخرج استعان بقدرات الممثلين القديرين شذا سالم وميمون الخالدي لضمان هذا الارتقاء بمستوى الأداء والعرض عموما ، مع مداخلات موظفة فنيا للفنان فاضل عباس وتوظيفه للعامية العراقية في العمل.

كانت السينوغرافيا النجم الأول للعرض ، وابتعد المخرج في توظيفها عن الدقة التاريخية ، مكتفيا ببساطة الديكور والأزياء بما يدل على الزمن المحكي عن الحجاج وعائشة ، وبالوقت نفسه تحرر من قبضة التاريخ بإدخال الواقعية المعاصرة في بعض فترات العرض بما يؤكد اتصاله بالواقع المعاش . كما اعتمد على الشاشات البيضاء في الجهات الثلاث ، مع الأرضية المفروشة بقطن متناثر، وقد تم توظيفها بصريا بانعكاسات الإضاءة المختلفة بحسب حبكة الحدث والزمن و لهجة الحوار المرافق . إضافة للحروف المعلقة التي أعطت انعكاسات ضوئية مختلفة ، علها تفيد تغير ثبات المعني في سياقات الزمن المختلفة  ، وحملت جملة ( الإنسان بنيان الله على هذه الأرض ملعون من هدمه ، وملعون من تستر على هادمه ) .

وجاء بيت عائشة بنت طلحة ، غرفتها الخاصة مع وجود منبر في أقصى يمين المسرح ، دون أي فاصل مكاني برغم التنقلات الزمنية بينهما ، مستفيدا من فضاء المسرح المفتوح المعتمد على ديكور قليل بما يعمق الفرجة البصرية ، لكونها قادمة من عمق التاريخ ، وتتجه إلى ما هو أعمق من الخطاب . وكان للموسيقى التصويرية حضور مواز مع تبدل الحدث والحوار. كذلك الأزياء المتعددة طوال العرض بما تفيد تداخل زمن الخطاب .

ثمة رمزية أخرى العمل تجسدت في المنبر ، الذي شكّل عدة هوّيات في الحياة العربية ، فهو منبر السياسة التي تعلن خطابها المتعدد للعامة ، منبر الدين حيث الأمر والنهي ، منبر الثقافة في كونها لسان السلطة أو المعارض لها ، منبر الحب في ارتفاع وتيرته أو هبوطها .

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

قهرمان

عنوان الفيلم الإيراني الجديد للمخرج أصغر فرهادي أحد ألمع المخرجين الإيرانيين على مستوى العالم والحائز على عدة جوائز عالمية منها الأوسكار في دورتين مختلفتين.

يتحدث الفيلم والحائز على جائزة مهرجان كان السينمائي عن شخص ساذج صنعت منه الظروف بطلا وهميا بسبب اعادته لحقيبة مفقودة تحتوي على عملات ذهبية بعدما فشل في بيعها على محلات الذهب، لينخدع بهذا الوهم جهة خيرية قامت بتنظيم حملة لتجميع تبرعات مالية لسداد دينه والذي يقضي عقوبة السجن بسببها، لتتسلق الجهة الاصلاحية التي يقضي بها العقوبة هذا الخبر وتدعي أنها وراء عمليه اصلاحه المجتمعي وتطوير مواهبه كرسام فني، تغطية منها على فضيحة انتحار احد المساجين بين جدرانها.

الفيلم يتناول فكرة صنع البطل الوهمي لمجرد قيامه بفعل كان من الواجب عليه القيام به دون ضجة اعلامية أو تنظيم حملات ترويجية من قبل جهات تتربح اعلاميا وراءه، الأمر الذي جعل هذا البطل الوهمي يقع في مشاكل متلاحقة وتكبر معها حبكة القصة وتتعقد أكثر، حتى يصل إلى نقطة يرفض فيها استغلال سذاجته وظرفه الخاص بالعودة للسجن بعدما فشل في إجازته الممنوحة له من قبل ادارة الاصلاحية لتعديل وضعه المالي وتسديد مديونيته، ليكون هذا حلا لكل عُقد القصة.

اللافت في الفيلم قدرة الصورة على محاكاة النص عبر تفاصيل دقيقة تجسّد حالة السذاجة عند بطل العمل، وهو ما يعكس السياق الاجتماعي المشارك في صنع بطل وهمي لمجرد تصديق كذبة توالت بعدها كذبات كثيرة. ولعل فرهادي طرح عبر هذا الفيلم الكذبة التي يعيشها المجتمع الإنساني اليوم في صنع أبطال وهميين قد يكونوا مؤثرين سلبا عليه إذا ما ساهموا في تفكيك ما تبقى من منظومته الأخلاقية.

ما أعجبني أيضا كتابة الفيلم وقدرتها على التغلغل بهدوء لعمق المجتمع وتشريحه دون اطلاق أحكام وترك القرار للمشاهد بصرف النظر عن مستواه الاجتماعي والمعرفي.

فهد توفيق الهندال