التصنيفات
مدونتي

تذويت النص الروائي أوتذويبه!

في كتابها النقدي المميز ( ذات المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي )الصادر عن دار الأمان المغربية عام 2013 ، تذكر الناقدة الدكتورة زهور كرام عن التجريب الروائي بأنه ” من أهم تجليات انفتاح النص الروائي على التحول . فقد أبانت الرواية التجريبية عن قدرة النص على تغيير نظام ترتيب عناصره ، وعلى التأثير في ميثاق القراءة ” . لهذا ركزت في الكتاب على التجارب الروائية التي تنزع لـ” تذويت ” النص الروائي ، وبروز ذات المؤلف باعتباره محورا نصيا ، ينبني عليه نظام الكتابة ، وفعل السرد . وهنا يجب التفريق بين الأعمال التي جاءت كسرد تخييلي عن سرد السير ذاتي، حيث يوجد اختلاف بين النوعين ، على اعتبار أن الأول تخييل لا يتطلب بالضرورة واقعية الحدث ، والثاني واقعي ينطلق من سـيرة حقيقـية ، إلا أن ذلك لا ينفي عن كونهـما نزوع نحـو أنـسـنة النـص بصـورة أكثر .

وعند تساؤلها – كرام – إن كانت التجارب الروائية الجديدة تمثل تجاوزا على أعراف السرد المألوفة ، تجيب لاحقا أن مختلف الكتاب الذين انتجوا مثل هذه النصوص هم بالأصل نقّاد ولهم كتب نقدية ، وضربت أمثلة عنهم في عدة أسماء : محمد برادة ، عبدالقادر الشاوي ، عز الدين التازي وسعيد علوش . وهي ما يجعلها تعوّل على أن يكون ذلك مساهمة في انتاج وعي معرفي حول طبيعة الكتابة السردية في المغرب ، وهو ما قد لا يستسيغه البعض هنا في المشرق !

أمام تجارب روائية حديثة ، نجد عددا منها وقد صرّح أصحابها بأنها تخييل ذاتي ، أي يصرح بعدم واقعيتها جملة ولو جاءت معظم التفاصيل واقعية ، كاقحام اسم المؤلف أوعدد من أصدقائه أو أفراد أسرته. أما المكان والزمان ، فهما غير منحصرين بكاتب دون آخر، لكونهما فضاءين متاحين للجميع في الاستناد عليهما ، كما هي أي قضية عامة إنسانية لا يمكن أن تكون ضمن ممتلكات كاتب دون آخر .

ومع ذلك، يوجد لغط كبير حول استيعاب هذا المفهوم – التخييل الذاتي – الذي مهما حاولنا الصاقه بالحداثة أو ما بعدها ، فإننا نقوم بخطأ أدبي / تاريخي لكون هذا الفن هو بالأساس حاضر في عدد من الأعمال السابقة . فنظرة لكتاب الأيام لطه حسين الذي اكتفى بالإشارة إلى نفسه على مدى بعض فصول العمل ( الصبي ) ، حتى في مقدمته التي نشرت للمرة الأولى للطبعة الخاصة للمكفوفين التي أشار فيها إلى غايته من وضع هذا الكتاب ، نجد نفسا روائيا حاضرا في السرد والوصف . كذلك الأعمال الروائية لنجيب محفوظ ، الطيب صالح ، توفيق الحكيم ، سهيل ادريس ، يحي حقي ، حنا مينة وغيرهم. وهذا ما وصل مداه إلى الكويت، وهنا من صرّح بأنها تخييل ذاتي وحضر بذاته ومن في حياته، وهناك من ترك للمتلقي حرية القراءة والتحليل، فاستبدلوا أسماءهم بأخرى مستعارة في أعمالهم مع ثبات المكان والزمان الواقعيين في الكون الروائي، حيث التكنيك الفني المعقّد.

ليطرح السؤال ذاته: ألا يعتبر ذلك سردا تخييلا أيضا ، على اعتبار أن العمل الروائي تخييلي بالأصل ؟

من وجهة نظر المقال، إن محاولة التجريب في الكتابة الروائية وفق مفاهيم نقدية حديثة، ومنها التخييل الذاتي، هي مغامرة محفوفة بالمخاطر، وربما تنحرف بالنص نحو هاوية الكتابة غير الناضجة، فتزيد العمل خفة على السطح دون التعمق في فنية العمل من ناحية بناء شخصياته ونموها، رسم المكان ورصد الزمن السردين، ولعل عدم استثمار دور السارد عليما كان أو مشاركا، ووقوع الكاتب في فخ وجهات النظر وما تحملها من أيديولوجيا محتملة، قد تخرج النص من شكله الأدبي وماهيّته كقول غير مصرّح به إلى ما هو أشبه بالخطاب خارج النص. وللأسف يغيب على كثير من النقّاد خصوصية النص الأدبي لا سيما الروائي فيقع في فخ المباشرة وماهو مصرّح ولا يستوعب وظيفة الأدب الجمالية ووظيفته الأيديولوجية. فكما يقول باختين: “المتكلم في الرواية هو دائما وبدرجات متفاوتة مُنتج أيدولوجيا وكلماته هي عينة أيديولوجية”!

وهذا ما قد يفقد العمل الروائي أو السردي عموما، أدبيته، فيذوب في خطاب آخر يرفع القبعة عن رأس الكاتب بشكل نهائي!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

تحليل الخطاب الإنتخابي 23

لم يختلف كثيرا شكل ومضمون الخطاب الانتخابي لعدد من المرشحين، عن خطابات الانتخابات السابقة. فلكل خطاب جمهوره المناسب، والمعتاد عليه، ولا يرضى بغير هذا الخطاب لدى مرشحه المطلوب، وهو ما يعيه المرشحون في تكثيف عبارات الخطاب المدغدغ لجمهورهم ومن يود جذبه إلى مخيمه الانتخابي.
في تعريف الخطاب نقديا عبر تعريف العالم اللُغوي الفرنسي إميل بنفنيست :”هو كل تلفّظ يفترض متحدثا ومستمعا، تكون للطرف الأول نية التأثير في الطرف الثاني بشكل من الأشكال، والخطاب قوامه جملة الخطابات الشفوية المتنوعة، ذات المستويات العديدة، وجملة الكتابات التي تنقل خطابات شفوية، أو تستعير طبيعتها، والخطاب يوظّف كل الأزمنة، وكل صيغ الضمائر”.
ويوجد حاليا خمسة أنواع من الخطابات الانتخابية المرصودة هنا.
١- خطاب الماضي الجميل، حيث نجد ذات الكلام المعتمد على الذاكرة الجميلة للزمن الماضي والريادة السابقة، في حضور جانب كبير من مفردات النوستولوجيا والأحلام الوردية بعيدا عن لغة الواقع التي تتطلب وقفة مع النفس بالنقد والتقييم وتقديم الرؤى المعالجة والمشاريع المقترحة.
٢- خطاب المؤامرة، فيحتوي هذا الخطاب على تلك العبارات التي تجاوزتها الأمم المُمارسة للديمقراطية العصرية، فماتزال ذات الجمل المتضمنة لفكرة التآمر والاختطاف لارادة الأمة، بعيدا عن أهمية التآزر باختلاف وجهات النظر وتعددها. ليستمر البحث في أرشيف الخصوم السابق وليس في محركات المستقبل الذي يفترض قبولا للعملية الديمقراطية.
٣- خطاب الرومانسية، وهو ما لفت انتباهي أكثر ومن خلال وجوه الحاضرين لهذه الخطاب، أننا أمام تلك الخطابات التي تلامس العواطف، إما باستعراض المقترحات التي بقيت في أدراج الزمن دون تحرك أو المشاريع التي لا تنجز فرادى بل جماعة، وهنا سلب لفكرة العمل الجماعي. فينسب كل طرف نجاح كل قانون له شخصيا دون بقية أفراد المؤسسة.
٤- خطاب الحاضر الساكن، نجد روح الخطاب الكهل المتكرر: ” الله لا يغيّر علينا ” و”الهون أبرك ما يكون” أو الخطابات التي لا تخاطب إلا الجيل السابق، المُعتاش على زمن مضى مؤمنا بأن الحكومة “أبخص”. مع زيادة جرعة الاقتباسات الدينية التي تناسب مقام هذا الخطاب.
٥-خطابات الاقصاء وهو لا يقل شراسة بالوعيد والمحاسبة برفع منصات المقصلة لكل الخصوم السياسيين، مع تحديد مفردات معينة تدخل في محاولة العزل أو الاقصاء لكل مختلف باختراع فروقات مذهبية، فئوية، مناطقية، قبلية، وكل ما يمكن استثماره في تقسيم الخصوم !
مع جملة ما استعرضنا من أنواع الخطابات المهيمنة على الانتخابات وقد تتقاطع مع بعضها عند بعض المرشحين، إلا أننا نتساءل عن تلك الخطابات السياسية الغائبة التي تحمل تصورا وحلولا ورؤى ومقترحات لمعالجة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي، ولغة العصر في مخاطبة أكبر شريحة من المتلقّين المستهدفين اليوم وهم الشباب، حيث غابت قضاياهم وطموحاتهم ومشاريعهم وهم أكثر عرضة للخسارة اليوم بسبب سيادة خطاب الماضي على حساب خطاب الحاضر والمستقبل، برغم أن ما يميّز كثير من عناوين الخطابات الانتخابية، والحملات والندوات، التي اتفقت جميعها على صيغة فعل أمر المستقبل!

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

بصيرة بورخيس

في كتابه الشهير ” صنعة الشعر ” يُقدم الأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس ست محاضرات عن الشعر ألقاها في جامعة هارفرد خلال الفترة ما بين عامي1967 – 1968 ضمن برنامج نورتون لكتشرز . حيث تناول المواضيع التالية ( لغز الشعر ، الاستعارة ، فن حكاية القصص عبر الشعر الملحمي ، موسيقى الكلمات ، الفكر والشعر ، ومعتقد الشاعر ) . ليضيف اسهاما كبيرا منه في تغذية الوعي الأكاديمي قبل المتلقي العادي في عمق هذه المحاضرات التي تعتمد الفكر الإنساني وسيلة للتواصل ونقل الخبرة ، وليس مجرد أستاذ أو محاضر يجلس خلف منصة ، متحدثا عبر موجات الميكرفون المتذبذبة متسلحا بلوائح المكان في فرض رهبته . لم هكذا بورخيس ، هذا الشاعر المتكامل في كل مجال، وهو الذي فقد البصر في منتصف عمره ، نتيجة مرض ما أصاب والده قبله . لقد وجد بورخيس العمل كمحاضر عام ، يلقي المحاضرات كأستاذ زائر في عدد من الجامعات ، وجد ضالته في توعية الآخرين لتذوق الفن والجمال في العالم المختلف المدعو بالشعر. وهنا تكمن أهمية الكرسي الجامعي في تقديرهؤلاء الأدباء في استضافتهم وتقديم محاضرات ترتكز على نقل الخبرة والحواربينه وبين جيل الشباب ، ليكتسب الكرسي بهم هيبة وعلما، فمتى يبقى هذا الكرسي شاغرا في جامعاتنا العربية ؟

في هذا الكتاب الصادر عن دار المدى عام 2007 و ترجمه باقتدار وأمانة صالح علماني ، أقف عند فصل ( معتقد الشاعر ) الذي فصّل بورخيس فيه القول ، لدرجة أنه يعتبر شهادة أدبية منه ، فذكر أنه يرى نفسه قارئا بالدرجة الأولى قبل أن يكون كاتبا ، وأن ما قرأه أهم بكثير مما كتبه ، معللا ذلك : ” فالمرء يقرأ ما يرغب فيه ، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه ، وإنما ما يستطيعه ” . ليعود بذاكرته إلى ما قبل ستين عاما ، إلى مكتبة والده في بوينس آيرس ، وقراءة ألف ليلة وليلة التي يعود إليها دائما شأنها في ذلك شأن قصيدة جون كيتس المسماة ( أغنية إلى عندليب ) التي كان يرددها والده على مسامعه ، ليتذكر هذه الأبيات منها :

أنت لم تولد للموت، أيها العصفورُ الخالدْ

يجب ألا يدوسك أناس آخرون جائعون

الصوتُ الذى أسمعه عابراً هذه الليلة، هو الذىسمعه

فى الأيام القديمة، الفلاحُ والملكْ

ربما هذا الغناءُ نفسه، قد شقّ طريقاً

إلى قلب “روث” الحزين، عندما، بحنينٍ إلى المنزل

توقَّفتْ باكيةً فى حقل قمحٍ غريب .

عندما يصرّح أديب عالمي مثل بورخيس عن أهمية قراءة ما قرأه سابقا ، بل ويتذكر ما كان يسمعه ويردده مرارا وتكرارا ، فلأنه أراد البوح بما كان يعتقده بأن اللغة مثلا ، هي لقول أشياء للشكوى أو للتذمر من عدم السعادة ، إلا أنه بعد سماع هذه الأبيات أيقن أن اللغة أيضا موسيقى وعاطفة ، وهنا تكشّف له الشعر ، وتبصّر فيه . لهذا يستمتع بورخيس في كونه قارئا أكثر من كونه كاتبا ، فالقارئ غير مضطر إلى الإحساس بالقلق والغم ، إنه يتطلع إلى السعادة وحسب .

لاشك ان عودة بورخيس إلى كتب سبق له قراءتها تختلف عن غيره ، وهو بمكانته الأدبية التي وصل إليها ، هو تجديد المعنى لهذه القراءات . إلا أن هناك من تعود على مرجعية محدودة ، لا يتقبل فكرة تجاوزها مع ذاته ، لضعف ما أو عجز في استيعاب معنى الشعر أولا قبل القراءة ، وانشغال تام بما خارج الشعر وعالمه الشفيف. وفي هذه الحالة المناقضة شكلا ومضمونا لحالة بورخيس يعيش هذا البعض وهما عبّر عنه الكاتب السعودي محمد الرطيان في خاطرة مذهلة :

” يقولون لك : قراءة كتاب واحد 3 مرات خير من قراءة 3 كتب مرة واحدة . لا تصدقهم، فهذا ما يروجه ” الحفظة ” ! والأكيد أن قراءة 3 كتب مرة واحدة أفضل . لست مطالباً بحفظها ولا حتى بفهمها الفهم الكامل . هي بالنهاية ستتراكم بداخلك بشكل لا تعيه .وتقوم بتشكيلك بشكل مختلف . ” مع الكتاب الواحد ” بقراءاته الثلاث ستكون نفس الكتاب . مع قراءة 3 كتب ستكون : أنت”. هنا تكون القراءة بصيرة أكثر .

لذلك عزيزي الشاعر الشاب، عندما تجلس بقرب شاعر صاحب تجربة، ابحث عن بصيرته في القراءة وتقبله الاختلاف مع الآخر شعرا وفنا. ولا تنجرف بعواطفك نحوه دون نقده، فإن الشعر تجدد وثورة في المعنى ، لا يستكين في ظل واحد.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

Hunger

فيلم تايلندي يغوص في أعماق جوع النفس البشرية، وعدم شعورها بالشبع نتيجة الطمع المستمر، ومحاولة اشباع هذه الغريزة التي قد تتحول لجانب حيواني أكثر منه بشري. الفيلم في مدته التي تقارب ساعتين وأقل، يتناول قصة الطباخة (أوي) العاملة في مطعم ذي استثمار محدود لعائلتها، تقدم الوجبات الشعبية الرخيصة في مجتمع مسحوق طبقيا وماديا، لكنه مستقر اجتماعيا، لتدخل في تجربة مغامرة مغايرة عليها في فرصة العمل مع أشهر طباخي مدينتها (بول) الذي يقصده الطبقة المخملية وكبار علية القوم لما يجدونه من متعة فيما يطبخه وما يمثلهم كطبقة عالية وما يداعب شهيتهم المفرطة تجاه شهوة الجوع وليست حاجته، ولعل (بول) هنا يمثل الفرد الذي صعد من بيئة مسحوقة كما هي (أوي) إلا أنه تخلى عن قيمه في سبيل تحقيق مجده الشخصي وأيضا متعته السرية في رؤية الشراهة في عيون زبائنه المخمليين لما يحركه فيهم جوعهم من مشاعر اللذة، فتتحقق لذته الخاصة في ذلهم عبر الطعام الذي يطبخه لهم، سواء في سهراتهم الماجنة أو رحلات صيدهم لطرائد الحياة المحرمة. فتشكّل (أوي) الوجه الثاني للطموح نحو الخروج من الهامش، ولكن ليس على حساب القيم وشراكة الحياة مع الآخرين، ودون التخلي عن التميّز في خدمة الناس ومعاملتهم. فالجوع ليس بالضرورة يعبر عن شهوة جامحة، وإنما أيضا هو حاجة إنسانية للاستمرار على مائدة الحياة.

اعتمد الفيلم على التصوير الدقيق لتفاصيل الطبخ، على تناقضي النار /الضوء عند (أوي) والظلمة/ الغموض عند (بول)، والمقابلة بسن سرعة ايقاع الحياة المتعبة عند (أوي)، الاسترخاء والغموض المؤثث بالهدوء عند (بول) ، الانفعالات المرتسمة على ملامح (أوي) لمشاعرها المرتبكة والمتأثرة، والبرود المسيطر على (بول) غير المبالي بأي معاني الحياة سوى المجد الشخصي.

من أعمق مشاهد الفيلم تلك الحوارات بين (بول) و(أوي) وما تكشفه من تناقضات الشخصية بينهما، برغم أنهما من ذات الهامش، ولكن تكسب القيم في نهاية المطاف بين الشخصيتين. من جملة الحوارات يمكن أخرج بهذه العبارات:

1. لكي تصبح طاهياً ، فأنت بحاجة إلى دافع أقوى من الحب.

2. ليس هناك ديمقراطية في المطبخ ، فقط الدكتاتورية.

3. الفقراء يأكلون لإنهاء جوعهم ، ولكن عندما يكون لديك أكثر من ما يكفي من الطعام ، فإن جوعك لا ينتهي.

إذن، رسالة الفيلم: ليس هناك ماهو أصعب من مطبخ الحياة، يتنوع فيه الطهاة بحسب جوع زبائنهم.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

سرد الترند

هناك من يردد أن الفن هو انعكاس للمجتمع وأنه يفضح أمراضه وعوراته!
وهنا أتساءل ما هو المقياس الفعلي للفن والفنان؟
هل هو بعدد الأعمال التي قدمها الشخص القائم بدور الفنان؟
هل بعدد الجوائز التي حصل عليها وإن كان بعضها غير ذات قيمة فنية؟
هل يرتبط ذلك بحجم جماهيرية هذا الفنان، شأنه في ذلك شأن بقية المشاهير من نجوم السوشيال ميديا؟
نفس هذه الأسئلة أطرحها بخصوص المثقف المبدع، روائيا، قاصا، شاعرا أو مسرحيا؟
تختلف الإجابة من فرد لآخر بحسب الوعي الخاص به، ولكن ما قد لا يكون حاضرا، هي تلك الاجابة المرتبطة بالأثر الدائم لهذا الفن في النفس البشرية، وتعود إليه كل ما أردت اشعال قنديل وعيك أمام طريقك. فالفن شعلة الأسئلة الدائمة التي لا تقبل الإجابات القطعية أو النهائية، الفن هو أن تغلق مسامعك عن العالم حولك وتستمتع بما تسمع ويتغلغل إلى روحك فيهذبها أجمل مما كانت عليه. الفن أن يجمع ما فرقته السياسة، وما نفته النظرية من جمال الفن ودهشته.
والروائي شأنه شأن كاتب الدراما الموسمية، قد لا يعبر عن وعي جديد، وإنما قد يكون نتيجة أوعية سرود سابقة مختزنة في ذاكرته تمت إعادة تدويرها في شكل سردي جديد، لذلك لا غرابة لفقدان الذات لوحدتها الموضوعية ومسؤوليتها في عملية القول، وفقدت عمقها في مصدرية وجهات النظر.
وهذا يفسّر وجود أعمال مكتوبة بشكل أقرب لدراما الترند، في البحث عن ضجة ما، قد تلقي حجرا في مياه راكدة بسبب مشهد تافه أو كتابة ركيكة، ويدخل المجتمع في تطاحن وتلاسن في وسائل التواصل الاجتماعي بسبب تراكمات ماضوية وليس اسقاطات سياسية كما يعتقد كتّابها وتبريرهم غير المنطقي ولا واقعي حيال ذلك!
فهو ذات الجمهور الذي ينتفض باسم العيب الاجتماعي على مشهد من مسلسل خلعت فيه الممثلة ملابسها الداخلية بشكل ايحائي وليس مباشرا لتقيس وزنها، متناسين أنهم قد يفعلون ذلك في نفس الموقف، هو ذات الجمهور الذي قد ينتفض حول مشهد سردي حول دخول الفتاة لسن المراهقة وما تتطلبه من عناية صحية خاصة ليست بخافية على المجتمع الذي يشاهد دعايات وسائل تلك العناية يوميا على شاشات الفضائيات بين المسلسلات !
ليست الصورة التي تثيرنا ولا الخيال الممكن عنها، ولكنه الوهم المتضخم بالعيب الاجتماعي، وأيضا توهمنا أن الكتابة تعكس كل الواقع دون تخييل فني، أو معالجة درامية مفترضة. وهذا ما يسقط في براثنه الجمهور والكاتب معا.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

عام الشعر العربي

بموافقة مجلس الوزراء السعودي، تمت تسمية عام 2023 بعام الشعر العربي، وذلك تعميقاً للاعتزاز بالتراث الإبداع وتأصيلاً لدور الجزيرة العربية وطناً لثقافة العرب وإنجازهم الحضاري، كما جاء في قرار مجلس الوزراء السعودي. ويأتي عام الشعر العربي بعد تسمية العام 2021 بعام الحرف العربي وعام 2022 بعام القهوة العربية، وشهدت المملكة فعاليات احتفائية متنوعة على مدار العام بهذه القيم والرموز العربية بما تشكلّه من امتداد حضاري عربي، وما يحمله من مخزون ثقافي عريق وأصيل.

وأجد عام الشعر العربي تجسيدا لرغبة جادة في استعادة الشعر لمكانته وهويته التاريخية والثقافية في الجزيرة العربية بعدما ازدحمت الساحة بتخمة روائية على حساب الرشاقة الشعرية، ولعل أهمية الشعر العربي تكمن في تكوين الهالة المعرفية والثقافية لدى المجتمع كما قال الشاعر جاسم الصحيح في تعليقه على تسمية عام الشعر العربي:”يجب أن نعترف أنّ الشعر يحتاج لمثل هذه المبادرة السامية التي تعمّق العلاقة الحاضرة بين المجتمع والشعر، وترتفع بها إلى مستوى الهالة المعرفية والثقافية، بدلاً من أن تبقى علاقة مقتصرة على الترفيه والاستئناس بالشعر فقط”.

عند الاطلاع على التقويم الثقافي للمؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية في المملكة نجد أنها منسجمة تماما وتسير وفق قرار مجلس الوزارء في اطلاق وسم الشعر العربي على عام 2023 بما حشّدته من فعاليات وأمسيات شعرية وندوات نقدية تدور في فلك الشعر والشعراء، بالاضافة لالتزام كافة وسائل الإعلام بحضور وسم عام الشعر العربي في مختلف جداول برامجها، كجزء من خطة تسويقية عامة على مدار العام، وهذا بطبيعة الحال سيساهم في صناعة جمهور مثقف ومبدع قادر على مواكبة الحداثة والتطور مع الاحتفاظ بروح الأصالة والهوية العربية.

عندما نجد اهتماما بالثقافة والإبداع من أعلى المستويات السياسية في المملكة، فهو استشعار لأهميتها في تشكيل المستقبل وحضورها كشريك استراتيجي في رؤية المملكة 2030 في بناء الإنسان قبل العمران وأن تكون الثقافة موردا من ايرادات المملكة، وهذا لن يكون إلا بوجود الشخص المناسب في المكان المناسب، ووضع الرؤى والأهداف التي سيكون لها نتائج مثمرة على المدى البعيد، ويكفي الاطلاع على كم المبادرات التي تقدمها وزارة الثقافة وهيئة الأدب والنشر والترجمة كمثالين وليس للحصر، ستجد عاما ثقافيا مليئا بالأفكار الجديدة وحضورا كبيرا من المهتمين والمتابعين، بفضل قيمة المحتوى وجدية الرؤية.

أخيرا.. كانت ليلة مذهلة بكل جوانبها بحضور صاحب السمو الملكي الشاعر بدر بن عبدالمحسن في أمسية لم يشهد لها نظير من تنظيم مبادرة إثراء، حاوره فيها الإعلامي القدير تركي الدخيل، وشهدها حضور كبير استمتع بهذه الاحتفالية شعرا وموسيقا وفنا تشكيليا وسط حضور عدد من الفنانين الكبار الذين غنوا للبدر، فكان بحق بدر التمام لليلة قلّما يجود بها الزمن.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

أنا البحر، لن تشتري صمتي طلقة طائِشة

من أجمل ما قرأت وسمعت من الشاعرة العمانية المتألقة عائشة السيف، التي لم يمنعها تخصصها الهندسي من خوض غمار بحر الشعر الذي يبدل قمصانه كل يوم، فقد انطلقت من أرض الشعر في عُمان في فلك الشعر العربي قبل أن تتوّج مؤخرا كأميرة للشعر كأول شاعرة -ربما- في مثل عمرها تتغلب على قامات الشعر في هذا الزمن.

قد نختلف أو نتفق على برنامج جاءت فكرته منطلقة من لقب أمير الشعراء الذي حمله لأول مرة أحمد شوقي، باجماع الشعراء والأدباء في عصره، لكن هذا لم يمنع من وجود شعراء لا يقلون أهمية معه كحافظ ابراهيم وخليل مطران و غيرهما.

ولكن من وجهة نظر. كان اسم البرنامج حافزا اعلاميا كما هو ثقافيا لكي يتبارى الشعراء ويصقلوا موهبتهم وقريحتهم في زمن بات يطلق عليه زمن الرواية، ولكن هذه الغواية لم تطفئ جذوة الشعر ودفئه، بل ساهمت في فك لثام الخجل عن كثيرين فشدوا الرحال نحو البرنامج وغيره من البرامج والمسابقات المعنية بالشعر.

فعلى غرار أمير الشعراء في أبوظبي، هناك مسابقة شاعر الرسول في كتارا بقطر، وهي شاهدة على تدفق الشعر في أسمى صوره في مدح سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم. فمثل هذه البرامج والمسابقات هي فرصة لحضور الشعر إعلاميا، وفرصة للشعراء لكي يستمتعوا وينصتوا ويتأملوا في تجاربهم الشعرية ويراجعوها.

نحن بحاجة لكي نتابع المشهد الشعري اليوم، فهو الحاجة الأدبية التي تهذّب الكثير من المشاعر والأنفس بعدما اختنقت بضجيج الرواية وزخمها الإعلامي. نحن نبحث عن شعراء يعيدون الوجه الأنيق للشعر، ويوسعون مدارك الوعي لدى المتلقي، بعيدا عن التنظير وصنمية الشكل ورتابة المعنى.

في احدى زياراتي لأحد منتديات الشباب، استمعت لعدد منهم، اللافت أن العمودي والتفعيلة كانا طاغيين على كل القصائد المقروءة، فتساءلت عن غياب قصيدة النثر، فما كان الرد من أحد الحاضرين: هذا شعر التغريب من المستعمر! ذهلت عندما سمعت مثل هذه الرأي الذي يمثّل جهلا لتاريخ كثير من شعراء قصيدة النثر، انطلقوا من التفعيلة وعبروا بوابتها نحو تجارب شعرية حديثة، في زمن باتت الشعرية فيه تحاكي الحياة وتمثّل كل أشكالها، ولا تتقوقع في شكل واحد. بل إن في الشعر العمودي أوالتفعيلة ما يضاهي في حداثته أفضل القصائد النثرية بما يضمه من شعرية مفترضة تفوقت على الشكل.

أخيرا.. وبعد اعلان فوز الشاعرة العمانية عائشة السيفي بلقب أمير الشعراء، كان متوقعا الهجوم الكبير والتشكيك وبث المقاطع المبتورة من سياقها لبعض قصائدها، وهذا ليس مستغربا، فقد نال ذلك مواطنها الشاعر جمال الملا الذي فاز بالدورة الأولى لشاعر الرسول في الدوحة، كما هو الحال مع الروائية العمانية جوخة الحارثي بعد فوزها بجائزة “المان” بوكر العالمية، وكأن الأدب مفصّل فقط على هوية معينة.

واختم بما بدأته، بما اخترته مما قالته عائشة :
إنهم يطلقون الرصاصَ الكثيفَ على شفتيّ
ويحترفُونَ امتصاصَ الهواءِ المقيمِ عَلَى رئتيّ

يرِيدُونني جثةً ليصلُّوا عليَّ ..
ويوجعهم أن بنتاً تحبُّ علانيةً دون رهبَةْ

إنهمْ يطلقُونَ الرصاصَ الكثيفَ على شَفتيّ ..
ولكنّهم كلمَا صوبوا أتلاشى ، وتحمِلُ أجنِحةٌ كتِفَيّ

وإنْ صوبُوا أتناسلُ
سلوَى، شميسَة، مريمَ، بشرَى
حنَانَ، وزهرَة ، أحلامَ

أصبحُ كلَّ النساء اللواتي ولدنَ
أو القادمَاتُ اللواتيْ سيولَدنَ
أنجُو -إذا صوّبُوا- فأنَا عائشَةْ

وأنا البَحرُ .. لنْ تشتريْ صمْتَهُ طلقَةٌ طَّائشةْ ..

***

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

الطارئون في الكتابة للسياسة

أصبح العالم خلال فترة وجيزة أكبر منصة لتناول السياسة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، بصرف النظر عن الهوية والعمق التي تحتمها هذه الكتابات، ولكن أن تتصفح بعض الحسابات بشكل يومي، يصيبك العجب والملل في نفس الوقت من هذه المساحة الواسعة من المهتمين بالشأن السياسي، لتكون المنشورات والتغريدات مقياسك الحساس لفكرة صاحبها ومضمونها. وربما تعجبك تغريدات ومنشورات كثيرة ، في حين يصيبك مضمون بعضها بنوع من المغص المزعج . وقد ينطبق الأمر أيضا عند الآخر / القارئ !

في كتابه المختلف ، يقدم الإنجليزي جورج أورويل جملة من أفكاره وتأملاته وقراءاته التي تدور حول عالم الكتابة، وهو الروائي العتيد صاحب الأعمال المميزة والمؤثرة بقضاياها ورؤاها حتى اليوم – كرواية 1984 – لا يجد في كتابة المقال سوى رغبة ذاتية في التعبير عن بهجته عن شغفه المستمر تجاه الأسلوب النثري ، بعيدا عن التنظير السمج والرياء الفارغ . لذا ، فإن الجمهور الذي اختاره لم يكن من الطبقة الأرستقراطية بل الوسطى الدنيا غير المهنية التي لم تحظ بتعليم ثانوي والطبقة العاملة التي علّمت نفسها ذاتيا . ذلك مرده إلى أن أدب أورويل كان شعبيا في توجهه وليس نخبويا متعاليا .

في كتاب أورويل ( لماذا أكتب ) والذي ترجمه للعربية بكل اقتدار البحريني علي مدن وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ووزارة الثقافة البحرينية ، تم اختيار جملة من مقالاته التي عبّر عنها أورويل في أمنيته بأن يجعل الكتابة السياسية فناً ، برغم أن مقالاته هنا ليست منشورات سياسية وإنما تركيزها أدبي ، إلا أنه يرى أن كل كاتب هو بشكل ما داعية سياسي ، وأن مواضيعه محكومة بالرسالة التي يحاول نشرها . ولذلك كانت مقالاته نصيب دراسات محدودة لدراسة الفن الشعبي على اعتبار أنها تعبر بطريقة أو بأخرى عن المزاج العام غير الرسمي . وهنا جوهر أصل وفكرة المقال أنه تعبير عن رأي عام وفق نظرة شخصية قابلة للنقاش ومجبرة بالموضوعية مع الآخر ، على أساس أن كاتب المقال هو كاتب حقيقي متى ما فكّر باستقلالية وحرية أكثر من الأقلام المأجورة أو المروجة لأفكار حزبية ما . وهو ما قال عنه أورويل مرة : ” الكاتب ليس بامكانه أن يكون عضوا مخلصا في حزب سياسي ” . يقول ذلك وهو اليساري النشط والمؤيد لحزب العمال ، وقد يراه البعض تناقضا بقدر ما أراه شفافية ومصداقية لكاتب حقيقي ، يكتب عن واقع ملموس عليه أن يستمر في دورة حياته وأن لا تتوقف لأي سبب ، خاصة لو كان سياسيا ، لأن الحياة أشمل وأعم من هستيريا سياسية عابرة . لأختم المقال بهذا الاقتباس من مقاله ( بعض الأفكار حول العلجوم الشائع ) ليكون نصيحةلبعض المحسوبين على المقال السياسي شكلا وسطحا لا عمقا وفهما :” كم مرة وقفت وأنا أرى العلاجيم تتكاثر ، أو أرنبين بريين يقومان بمباراة ملاكمة في حقل قمح ناشئ ، وفكرت بكل الأشخاص المهمين الذين سوف يمنعونني من الاستمتاع بهذا لو أمكنهم ، لكن لحسن الحظ ليس بوسعهم عمل ذلك ، طالما أنك لست مريضا فعليا أو جائعا أو خائفا أو محبوسا في سجن أو مخيم عطلة ، الربيع ما يزال هو الربيع . القنابل النووية تتراكم في المصانع ، وافراد الشرطة يطوفون عبر المدن ، والأكاذيب تتدفق من مكبرات الصوت ، لكن الأرض ماتزال تدور حول الشمس ، لا الدكتاتوريون ولا البيروقراطيون – مهما اعترضوا بعمق على العملية – قادرون على ايقافها ” .

ما يود قوله أورويل في هذا الكتاب وأحاول اسقاطه في هذا المقال، أن من أهم أسباب تردي الكتابة للسياسة، هو هذا الزخم الكبير ممن يعتقدون أنهم كتّاب أو محللي سياسة، عبر حساباتهم الشخصية، ثم يتحولوا لضيوف دائمين في برامج سياسة وهم لا يملكون رصيدا وافرا من القراءات والمعرفة التي تؤهلهم لذلك، وهو ما تكتشفه في تعميم السطحية أو افتعال المعارك الكلامية دون أدنى قدرة على التحليل المنطقي والاقناع.

ولعل هذا ينسحب على الشأن الثقافي، فكثرة من يطلقون على أنفسهم كتّاب جعل الناس يضعون التفاح السليم مع الفاسد في نفس السلة.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

كانت لنا أيام في الدمام

بدعوة كريمة من رابطة الأدباء في الكويت، وضيافة أصيلة من نادي المنطقة الشرقية الأدبي، شاركت في المنتدى الثقافي الخليجي الثاني خلال الفترة (19-20 فبراير 2023) تحت عنوان (الحركة النقدية في دول مجلس التعاون الخليجي خلال عشرين عاما)، شاركني في هذه الدعوة الاستاذ الدكتور سالم عباس خداده باحثا وشاعرا ورفيقا في رحلة السفر. وأبا أحمد شخصية تتمتع بموسوعة شعرية مذهلة وروح أدبية جميلة.

تضمن المنتدى على مدى يومين أربعة جلسات نقدية وأمسيتين شعريتين ضمن مهرجان شعري حمل اسم دورة الشاعر عبدالله بن علي آل عبدالقادر في مئويته الأولى، شارك في الأمسيتين جمع مع شعراء دول مجلس التعاون الخليجي بقصائد أطربت المساء والعقول والقلوب. كان المنتدى فرصة ثمينة في التعارف والحوارات، مثمنين كرم الضيافة والحفاوة من أسرة نادي المنطقة الشرقية الأدبي، وعلى رأسهم الأستاذ الفاضل محمد بن عبدالله بودي، الذي لم يدخر جهدا في أن يعيش الجميع روح الأخوة والعائلة الواحدة خلال تواجدنا في المنتدى.

من جهتي، قدمت ورقة استعرضت فيها الجهود النقدية الأدبية في الكويت خلال عشرين عاما (2002-2022) لكوني أحد الفاعلين بها والشاهدين عليها ، سواء للمؤسسات الرسمية أو الأهلية أو الأفراد، بما يوثّق للحركة النقدية الأدبية وتعزيزا واستكمالا الدور الريادي المؤسس لها.

وعلى هامش المنتدى، كانت للوفود زيارات لعدد من معالم المنطقة الشرقية في الدمام والأحساء، حيث زيارة لأحد مصانع التمور والوقوف ميدانيا على عملية تصنيع التمور، بعدها زيارة قصر محافظ الأحساء صاحب السمو الملكي سعود بن طلال بن بدر بن عبدالعزيز آل سعود والسلام عليه. ثم تضمنت جولتنا زيارة جبل قارة العجيب بمعالمه وعوالمه، وزيارة المدرسة الأميرية، ثم سوق القيصرية، حيث مهرجان التمور الموسمي.

بعدها زيارة مجلس الشيخ عبدالعزيز بودي، لتنتهي الجولة باقامة حفل عشاء على شرف الوفود في بستان الحماد الكرام، وعدنا لمقر اقامة الوفود والعودة للكويت صباح اليوم التالي.

لقد حفرت هذه الزيارة والدعوة نقطة مهمة جدا، اقتبس معها عنوان كتاب الدكتور غازي القصيبي رحمه الله ( الخليج يتحدث شعرا ونثرا) بأنه يتحدث نقدا أيضا، ولا أعتقد أن الأمر مقصور علينا نحن القائمين على النقد في الكويت، وإنما بكل المهتمين بالعمل النقدي أو الحركة الإبداعية ككل في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وسط ما نشهده من انفجار سردي هائل جدا، ووسط تزاحم وتنافس الأجيال المتعددة في عقد واحد على الكتابة الإبداعية، حافز معظمها في ذلك الجوائز الأدبية التي تناسلت أكثر من قبل ، دافعها الرغبة في الحضور المستمر في المشهد الثقافي ، محركها الورش المهتمة في الكتابة الإبداعية.

فالنقد مهمة ليست سهلة، وليست محصورة بالفرد دون المجتمع، الذي مهما اجتهد فإنه يقاتل لوحده في ميدان يكتفي البقية فيه بالتفرج والتذمر.

لهذا توجهت مجموعة من المبدعين والمتخصصين لتأسيس مختبرات خاصة بالتحليل النقدي للكتابات الإبداعية، وأُنشئت بيوت للشعر والسرد ، يهتم مؤسسوها وروادها في متابعة وتحليل المشهد عبر نصوص مبدعيه ، دون أدنى دعم من المؤسسات الرسمية .

لهذا، التواصل مطلوب بين الملتقيات الثقافية مع المختبرات السردية في تبادل الخبرات والمقترحات، تتجاوز حالة الجزر الثقافية التي تعيشها معظم الملتقيات والتجمعات الثقافية في الكويت والمنطقة العربية. وهذا ما نأمله أن يتحقق قريبا،

فمهم جدا هذا اللقاءات الخليجية لتعزيز روح الأخوة والتعاون بين أبناء المنطقة في زمن باتت فيها منطقة الخليج العربي محركة للاقتصاد والسياسة العالميين، كما أنها باتت قبلة الأدب والنقد والبحث العلمي، ومنصة الجوائز الأدبية المرموقة وواحة آمنة مستقرة أدام الله عليها أمنها وأمانها بعزيمة أبناءها المخلصين.

فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

النص الروائي ومتاهته!

لاشك عند تحوّل الرواية التفاعلية إلى رواية منشورة أي مطبوعة، يعني انتفاء صفتها التفاعلية، لكونها باتت في صورة نهائية لا تقبل التعديل لاحقا، كما يظن. ولكن ألا يمكن أن تنشر منها طبعات لاحقة، قد تكون فيها استدراكات أو تعديلات عليها بعد تفاعل المتلقين معها كمطبوعة؟

من المعروف أن هناك طبعات معدّلة أو منقحة لروايات سبق لها أن صدرت في طبعات أولى، وجد الكاتب أو الناشر ضرورة في اصدار طبعات جديدة مَزيدة أو منقحة بناء على ردة فعل من القراء وآرائهم، أو أنها صدرت كأجزاء متفرقة، ثم صدرت جميعها في مجلد واحد. إذن كان هناك بالأصل تفاعل مع المتلقي، ولكنه تفاعل لاحق وليس متزامن.

ثمة أسئلة تحتاج مرانا كبيرا واطلاعا واسعا على مزاجية وانتقائية المتلقي، لأنه في الحالتين سلطة لا مناص منها و إليها.

والرواية التقليدية عانت من هذه السلطة لطبيعة التواصل اللاحق مع العمل دون أدنى فرصة للتفاعل مع النص والكاتب. وقد أتساءل هنا .. على مَن تقع مسؤولية تراجع الوظيفة التوصيلية في الرواية؟ هل تقع على عاتق المبدع (الروائي)، أم (المتلقي)، أم النص (الرواية)؟ 

بهذا السؤال انطلقت الناقدة السورية أسماء معيكل في كتابها ( الأفق المفتوح – نظريّة التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر ) حيث أنها وصلت لنتيجة شبه نهائية ، أنه ومع ثورة المعلوماتية في عصر التكنولوجيا المتقدمة، بدأ المبدع يحسّ بتراجع دور القراءة مما جعله يهمل القارئ عموما، ويجنح إلى تغليب الجانب الذاتي في إبداعه على الجانب الموضوعي، وهذا أدّى إلى تراجع الوظيفة التواصلية ، برغم أنها الأساسية للرواية. لأنّ المبد ع – كما ترى معيكل – لم يعد يهتم بمتلقيه ، بقدر ما هو مهتم بالتعبير عن قناعاته ورؤاه بعيداً من الموضوعية، وهو ما انعكس سلبا على المتلقي الذي بدأ يشعر بإهمال المبدع له وربما تعاليه عليه ، مما جعل عدد القراء الذين ما زالوا يقرأون له في تراجع مستمر من جهة. ومن جهة ثانية، أخذ القارئ يتّهم المبدع بالغموض والإغراب وصعوبة فهمه. وبدوره رفض المبدع الاتهامات الموجهة اليه ، وراح يحض القارئ على ضرورة تسلّحه بالأدوات المعرفيّة اللازمة لفتح أبواب النص، والدخول إلى عالمه. كما بدأ يطالب بوجود قارئ خارق أو نموذجي لنصه.

خلاصة ما تحاول أن تصل إليه معيكل أنه بات بعض الكتاب يخلق لنفسه قراء خاصين به ربما بشروط معرفته وثقافته، لا يقبل  من غيرهم أي أسئلة أو ملاحظات مادام أنهم خارج حظيرته.  وهو ما يعني انغلاق أعماله عليه وعلى من حوله فقط. هل يمكن أن ننفي صفة التفاعلية مع الرواية التقليدية بهذه الحال؟ 

في حين ، يكون الأمر مغايرا للروائي الباحث عن العالمية ، الذي يرى في أعماله – وترجمتها خاصة – وسيلة للحوار مع الآخر المختلف معه ، متجاوزا لغته ومدارك ثقافته ومعرفته،  دون مواربة أو خوف من اتساع أفق الآخر . 

لعل هذا ما يمكن تلمسه مع روائي عالمي مثل جابرييل غارسيا ماركيز الذي يصرح وهو في مجده الأدبي العالمي أنه بدأ الكتابة بمحض الصدفة ، فقط ليبرهن لأحد أصدقائه أن جيله قادر على أنجاب كتّاب ، ليسقط في شرك الكتابة ويجد فيها المتعة، ثم في الشرك التالي وهو اكتشاف أن عشقه للكتابة يفوق حبه لأي شيء آخر في الدنيا. لأسرد موقفا عنه ذكره الصحافي الكولومبي أليساندرو دوكي ، الذي زار  ماركيز بينما  كان يكتب رواية ( الجنرال في متاهته) ، ولاحظ كيف توقف ماركيز عن الكتابة فجأة وأجرى مكالمة هاتفية، صدمت دوكي نفسه ، حيث اتصل ليسأل أحد علماء الفلك إن كان قد تحقّق من أن القمر كان بدراً في 10 يونيو 1813 ، فجاءت الإجابة مخيّبة لآماله ، لأن ماركيز تغيّر وجهه وطلب من متحدّثه التأكد من هذه المعلومة  في  أقرب وقت ممكن لأمر مهم وعاجل وخاص بفصل كامل  بالرواية . فسأله دوكي ( أي قارئ سيهتم بهذه المعلومة، ومن سيبحث إن كان القمر يوم 10 يونيو 1813 كاملاً أم لا ؟) فأجابه ماركيز بأهمية وجود قارئ متابع للروائي، مستشهدا باسم فرناندو غارابيتو الذي كان يمسك بأخطاء ماركيز في روايات سابقة ، وبناء على ذلك يعتبره أصعب قارئ له ، ورغم أنه لم يكن يعرفه شخصياً.  

وعندما صدرت رواية ( الجنرال في متاهته) لم يجد دوكي الفصل الذي يحتوي على ليلة العاشر من يونيو 1813 في غرناطة الجديدة ، حيث لم يكن قمرها بدراً كما تمنى ماركيز. ليكمل دوكي أنه بعد ثلاث أو أربع سنوات تعرّف إلى غارابيتو شخصيا وأخبره بلقائه بماركيز وما حدث. حينها قال غارابيتو: ( من المؤسف أن نُحرم من فصل بهذا الجمال بسببي). 

بالمقابل، كان هناك تفاعل بين الروائي امبرتو ايكو وقرائه حول بعض أعمتاله الروائية، كتغييره لاسم شخصية روائية حتى لا يكون هناك ترابط نصي سهل المعاينة والادراك مع حياة روائي يحمل ذات الإسم. فللقارئ الحق في الربط بينهما. أو عندم سأله أحد أصدقائه عن اسم امبارو في رواية (بندول فوكو)، بأنه بالأصل اسم لجبل مذكور في بعض الأغاني الشعبية، مما سبب مفاجأة لايكو، وغيرها من الحكايات التي ذكرها عن تفاعل القراء معه، فلنتخيّل لو كان هناك تفاعل بالأصل قائم بين الروائي وقراءه عبر روابط متاحة للتواصل والتعليق؟

وهذا ما نحاول الوصول إليه، بأن أثر الرواية التفاعلية من الممكن أن يكون حميدا ومنجزا للنص في حال اتصاله مع المتلقي في لحظة الخلق والتكوين للنص. 

فهد توفيق الهندال