التصنيفات
مدونتي

جدلية الفنون في الخطاب الإعلامي الجديد



في عالم يتقاطع فيه الفن والإعلام على نحو غير مسبوق، تبرز جدلية الفنون في الخطاب الإعلامي الجديد كإحدى الإشكاليات الثقافية والفكرية المعاصرة. فلم يعد الفن ذلك الكيان المستقل الذي يعيش في صالات العرض أو صفحات الكتب، بل صار اليوم أداة مركزيّة داخل المنظومة الإعلامية الرقمية، يُعاد تشكيله باستمرار لخدمة أجندات، أو التأثير في وجدان الجمهور، أو حتى بوصفه لغة خطابية بحد ذاتها.

1. تحولات المشهد: من الجماليات إلى الوظيفة
مع صعود الإعلام الجديد القائم على التفاعلية والبصرية الفائقة، تغيّر مفهوم “الفن” من كونه تعبيرًا عن الذات أو الجماعة، إلى أداة توصل الرسائل وتبني الرأي العام. وهنا تبرز إشكالية: هل ما يُنتَج اليوم فن، أم دعاية؟
قد يجيب مارشال ماكلوهان، المفكر الكندي في وسائل الإعلام:
“الفن هو رادار المجتمع، يكشف عنه قبل أن يعي هو ذاته ما يحدث.” وهذا يكشف كيف بات الفن مستبقًا لتحولات الواقع، لكنه حين يدخل دائرة الإعلام يتحول أحيانًا إلى أداة استهلاك لحظي، لا كشف مستقبلي. ورغم جاذبية الصورة الاستعارية التي يقدمها ماكلوهان، إلا أن تشبيه الفن بـ”الرادار” يحمل نزعة حتمية مفرطة. لا يكون الفن دومًا استباقيًا لتحولات المجتمع، بل في أحيان كثيرة يكون ارتكاسيًا أو حنينيًا، يعيد إنتاج الماضي أو يحاول مقاومة الحاضر لا كشف مستقبله.
كما أن هذا التصور يتجاهل البعد الفردي والذاتي للفن، باعتباره ممارسة شخصية أو حدسية، لا تُختزل في وظيفة استشرافية.


2. الفن كخطاب: هل يمكن أن يكون محايدًا؟
في عالم اليوم، تُستخدم الصور، الموسيقى، وحتى تصميم الشعارات، كأدوات إقناع أو مقاومة. ومع ذلك، لا يمكن للفن أن يكون محايدًا حين يُستخدم ضمن خطابٍ إعلامي مصمم للتأثير والتوجيه. وربما هو ما حدا بالإعلامية الأميركية سوزان سونتاغ لأن تصرّح:
“كل صورة هي أيضًا تلاعب بالواقع… ليست الصورة محايدة، إنها إعلان موقف.”
في ظل هذا، يصبح الفن في الإعلام حقلًا ملغومًا بالنيات والسياقات، لا مجرد تعبير حر. في هذا القول، تميل سونتاغ إلى تسييس الصورة بوصفها أداة موقف، ما قد يُفضي إلى إفراغ الفن البصري من إمكاناته التجريبية أو التأملية. فلا يمكن اختزال كل صورة في موقف. فبعض الأعمال الفنية تعمد إلى الغموض، الإيهام، أو حتى العبث، دون نية مسبقة لصناعة موقف أو خطاب.
كما أن هذا الرأي قد يُستخدم لتجريم الصور بحسن نية، فيتحول الفنانون إلى متهمين بالرسائل المضمَنة حتى إن لم يقصدوها.

3. المنصات الرقمية: ساحة جدل وأداة انتقاء
فرضت المنصات الرقمية إيقاعًا جديدًا للفنون، من خلال: السرعة، القابلية للمشاركة، والتفاعل اللحظي. ليصبح العمل الفني مطالبًا بالإيجاز والجاذبية البصرية أكثر من العمق.
فيقول الناقد الإعلامي نيل بوستمان: “نحن نمرح أنفسنا حتى الموت. الثقافة المرئية تستهلك المعنى لتحوله إلى ترفيه.”
وهنا يكمن الخطر: أن يصبح الفن مجرّد عنصر تسويقي في صناعة المحتوى، لا مساحة للتأمل الجمالي. وبوستمان – رغم دقته في رصد ظاهرة ترفيهية طاغية – يتبنى لهجة تشاؤمية قاتمة تُخفي احتمالات مهمة:
فالثقافة المرئية ليست دومًا استهلاكية، بل يمكنها أن تكون أداة للتحفيز المعرفي أو إثارة التساؤلات الكبرى بصيغة مختزلة.
ثم إن تحويل المعنى إلى ترفيه لا يعني بالضرورة سقوط القيمة، بل ربما هو تحوّل في أدوات التأثير لا في عمقه.


4. الفن الشعبي والإعلام الجماهيري
باتت الفنون الشعبية – مثل الرقصات، الأغاني القصيرة، والميمات البصرية – تُقدَّم كجزء من الهوية الإعلامية، لكنها غالبًا تفقد بعدها التاريخي العميق وتُختصر في الاستعراض.
لتقول آريانا هافينغتون، مؤسسة “هافينغتون بوست”:
“في عصر الإعلام الجديد، يتم اختزال الفكرة في ما يمكن مشاركته، لا في ما يمكن التفكير فيه.” وتمثّل رؤية آريانا هافينغتون موقفًا نقديًا صحيحًا تجاه التفاهة المُنتشرة في بعض منصات الإعلام الجديد، لكنها تُعمّم بشكل يُهمّش جهود المبدعين الرقميين الذين يبنون محتوىً عميقًا ضمن شروط العصر.
كذلك، المشاركة ليست نقيضًا للتفكير، بل يمكن أن تكون مدخلًا له، خاصة لدى الأجيال التي تتعلم من خلال التفاعل الرقمي، لا القراءة التأملية وحدها.


5. هل نحن أمام إعلام فني أم فن إعلامي؟
كتب المفكر الفرنسي رولان بارت مرة: “الصور ليست أشياء تُرى فحسب، بل أشياء تُقرأ”. في هذا الطرح البنيوي، يُحمّل بارت الصورة عبئًا تأويليًا لغويًا، كأنما الفن لا يكتمل إلا إذا خضع لسلطة القراءة والنقد. لكن هذه النظرة تتناسى أن بعض الصور أو الأعمال الفنية لا تُقرأ بل تُحسّ، تُعاش، وتُتذوق دون حاجة إلى تحليل لغوي أو تأويلي.
بمعنى آخر، ليست كل تجربة جمالية بحاجة إلى “قراءة”، وبعض الفن ينتصر للصمت لا للنص. واليوم، تذوب الحدود، ويزداد التداخل، وبات الفن أحد أدوات تشكيل الخطاب الإعلامي، ليس كزينة بل كمكوّن جوهري في البنية السردية. فالمتلقي اليوم يُطلب منه أن يفكك الرسائل الفنية كما يفكك خطابًا إعلاميًا، لأن الجمال بات يحمل وظيفة، والدلالة تتجاوز الشكل.

في ظل هذا التداخل، تبرز الحاجة إلى نقد ثقافي يُحلل كيف تُستخدم الفنون في الخطاب الإعلامي: هل تُستنبت لأجل التأثير العاطفي فقط، أم تُستثمر في بناء وعي جماعي؟

إن جدلية الفنون في الخطاب الإعلامي الجديد لا تُحسم بإجابات قاطعة، لكنها تستدعي يقظة فكرية تقاوم الانزلاق نحو الاستهلاك الخالي من المعنى.
وكما قال الناقد الإعلامي الأميركي هربرت شيلر في كتابه الشهير (المتلاعبون بالعقول):
“من يتحكم بالثقافة، يتحكم بالعقول”. وهنا تعبير عن قلق مشروع تجاه سلطة الإعلام وصناعة الثقافة الجماهيرية، لكنها قد تقود إلى نظرية مؤامرة شمولية مبالغ فيها. فالثقافة – رغم التوجيه – ليست فضاءً خاضعًا بالكامل للسلطة، بل تمتلك طاقة مقاومة كامنة، تتجلى في الفن المتمرد، والمحتوى التفاعلي، والخيال الشعبي.
كما أن العقول لا تُستَعبد فقط، بل تُبدع وتنتقد وتُسائل.

د. فهد توفيق الهندال

مارشال ماكلوهان – فيلسوف كندي متخصص في الإعلام

رولان بارت – ناقد فرنسي

سوزان سونتاغ – كاتبة وناقدة أميركية

نيل بوستمان – ناقد ثقافي أميركي

آريانا هافينغتون – مؤسسة موقع “هافينغتون بوست”

هربرت شيلر – ناقد إعلامي أمريكي





التصنيفات
مدونتي

لابوبو العصر: ثقافة عادة الاستهلاك



في زمن تغمرنا فيه المنصات، وتتدفق المحتويات من كل اتجاه، يُخيّل إلينا أننا نعيش في عصر الثقافة المتوهجة. لكن الحقيقة الصامتة تقول شيئًا آخر، إذ تَحوّلت الثقافة من ممارسة إنتاجية وفضاء للتفكير إلى سلوك استهلاكي سريع، أشبه بوجبة مجمدة تُسخَّن على عجل ثم تُنسى.

أصبحت ثقافة العالم اليوم في كثير من مظاهره، نشاطًا استهلاكيًا مكررًا. نتابع، نُعجب، نُشارك، ثم ننسى. لا أثر يُترك، ولا معرفة تُبنى، ولا ذائقة تُصقل. لقد تحوّل القارئ إلى متابع، والمبدع إلى محتوى، والفكرة إلى ترند. ثقافة اللحظة قتلت التأمل، وسرعة النشر أجهزت على عمق المعنى.
إنها حالة تُشبه سباق الأرنب والسلحفاة، لكن مع فارق قاتل. فالأرنب ما زال نائمًا في وهم تفوقه، والسلحفاة لم تعد تتحرك. أصبح السباق نفسه مسرحًا للشكليات، لا مساحة للإبداع. فتحول الفعل الثقافي إلى استعراض منصّات، لا صناعة مضمون، فتُعلن الريادة في الشعارات، لكنها غائبة في العمق.
ولأن ثقافة الفرد قائمة على التفاعل اللحظي، وليس على البناء المعرفي، انعكست على الثقافة العامة، فأصبحنا رهائن حلقة استهلاكية لا تتيح وقتًا للتفكير أو لإنتاج جديد.

بل إن هذا الانحدار لا يقتصر على الأفراد، بل ينسحب على المؤسسات التي تُروّج الاستهلاك الثقافي تحت مسمى “الوصول السريع” أو “الانتشار”. في حين أن الثقافة الفعلية، كما كان يُمارسها غازي القصيبي في حياته الإدارية، تتطلب صبرًا وتخطيطًا ومثابرة، لا بهرجة:
“الإنسان الذي يرفض التغيير، إنسان يعيش في الماضي، والماضي لا يُنتج شيئًا.”

ويقبع العالم اليوم في حاضرٍ بلا إنتاج، نكرّر الأفكار ذاتها، ونتداول الوجوه ذاتها، حتى أصبح المبدع غريبًا في سوق الثقافة المصنّعة. فثقافة الاستهلاك، إن لم تُقاوَم، تتحوّل من وسيلة انتشار إلى وسيلة إلغاء. تُلغي التميّز، وتُفرّغ الجمال، وتحوّل الجمهور إلى متلقٍّ بلا وعي. والأسوأ، أنها تُغري بالعجز، فكل شيء “جاهز”، وكل مجهود “مؤجل”.

لابوبو العصر هو اسم ساخر، لكنه يحكي مأساة حقيقية، مأساة ثقافة تتجمّل بالحداثة، لكنها تفقد روحها كلما كرّرت ذاتها دون تفكير. بات اليوم سلعة ثقافية. ستجدها يوما إلى جانب موسيقى بتهوفن وجون ويليامز، ولوحات فان جوخ وبيكاسو، وكتب أرسطو وابن رشد!
لا نريد تغيير العالم، بل تغيير عادتنا اليومية في جوهر الاهتمام، علّها تخرجنا من حالة وجوم العادة المكررة وادمان الاستهلاك العبثي إلى عالم مليء بالتجدد والابتكار الفردي.

لأسرد عليكم هذه القصة التي أوردها جيمس كلير في كتابه (العادات الذرية)، وليسمح لي وقت القارئ:
في أحد أحياء طوكيو، اعتاد سائق حافلة يُدعى “سايتو” أن يُقلّ الركاب في نفس الطريق كل يوم، بنفس التوقيت، وبنفس الروتين. ومع مرور الوقت، لاحظ أن أغلب الركاب كانوا يجلسون صامتين، يحدّقون في هواتفهم أو يغطّون في النوم. بدا له المشهد آليًا، بلا حياة.
فقرر في أحد الأيام أن يُجري تغييرًا بسيطًا. لم يكن الأمر إعلانًا كبيرًا، ولا حملة ترويجية، بل عادة صغيرة: كل صباح، يرحّب بالركاب باسم الحي الذي ينطلقون منه، ويضيف جملة تحفيزية قصيرة.
“صباح الخير من شينجوكو… تذكّروا اليوم أن تبتسموا لمن بجواركم.”
في البداية، لم يُعره أحد انتباهًا. لكن بعد أسابيع، بدأ بعض الركاب يردّون التحية، ثم ظهرت على النوافذ رسائل مكتوبة من الركاب تشكره على كلماته. البعض تغيّر مزاجه طوال اليوم بسببه.
بعد عام، عُرف “سايتو” في الإعلام الياباني بلقب سائق الأمل، وتحول فعله البسيط إلى حركة اجتماعية: مؤسسات بدأت تضع عبارات تحفيزية يومية في مداخلها، ووسائل النقل تبنّت فكرة “كلمة صباحية”. كل هذا… بدأ بعادة واحدة.
يعلّق جيمس كلير على هذا النوع من القصص قائلاً:
“العادات الصغيرة تُعيد تشكيل هويتك ببطء. كل فعل هو صوت تقول به لنفسك: هذا أنا.”
وهكذا، لم يكن سايتو يحاول “تغيير العالم”، بل فقط أن يكون إنسانًا أفضل في مكانه. وكانت النتيجة: عدوى إيجابية، غيّرت المشهد بأكمله.
فكما يقول جيمس كلير:
“النجاح هو نتاج العادات اليومية، لا التحولات الدراماتيكية.”
فلنُراجع عاداتنا الثقافية. لعلنا بذلك نكتب نهاية لابوبو العصر، وبداية عصر يستحق أن نُسميه: عصر الإبداع الحقيقي، لا عصر الإعادة والتسلق على منجزات سابقة.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

سرديةُ أثينا المعاصرة: الخطابُ بوصفِه وعيا موازيا

جمعت الأساطير الاغريقية القديمة، النقيضين (الحكمة والحرب) في شخصية واحدة كأثينا، ولم يأت ذلك اعتباطًا، بل يكشف عن بنية رمزية مركبة في المخيال الإغريقي، حيث لا تُفهم الآلهة كمجرد كائنات فوق بشرية، بل كمرايا للأسئلة الكبرى في الوجود الإنساني.
فأثينا ليست إلهة الحرب بمعناها العنيف مثل الإله آريس (Ares)، الذي يمثل العنف الأهوج، والشهوة للدم، والحرب الفوضوية، بل أثينا تمثل الحرب بوصفها خيارًا استراتيجيًا، عقلانيًا، تكتيكيًا.
فالحرب هنا، عند أثينا، ليست جنونًا… بل امتدادًا للحكمة عندما تفشل السياسة. لتمثل أثينا العدل أيضًا، فهي تدخل المعارك حين يكون الحق مهددًا. فتحمل درعًا وتحمي الأبطال (مثل أوديسيوس وبيرسيوس) ولكن بعقلٍ لا بعاطفة.
لهذا تُرسم غالبًا وهي تُمسك برمح بيد وبكتاب أو بومة بالأخرى، وكأنها تقول ما قاله أفلاطون في الجمهورية:
«لا يحرس المدينة إلا من امتلك الفلسفة والشجاعة معًا».

في زمنٍ معاصر، تتقاطعُ فيه الجبهاتُ العسكرية مع نشراتِ الأخبار وخيوطِ التواصل الاجتماعي ومنابرِ الفكر، لم تَعُد الحربُ محصورةً في ميدانٍ ماديٍّ وحسب، بل أضحت صراعًا على المعنى، وعلى من يكتبه ومن يَحقُّ له أن يرويه. وكما يقول المؤرخ إريك هوبزباوم:
«الذين يروون الحكاية، يملكون العالم»
يمكن تفصيل ذلك عبر النقاط التالية:
1. الحربُ بوصفِها سرديّة: من الوقائعِ إلى التأويل
ليس السرد مجرّد نقلٍ للأحداث، بل هو إعادةُ بناءٍ معرفيٌّ وأخلاقيٌّ لها؛ إذ يُنتقى ما يُروى، ويُضخَّم أو يُخفَّف، ويُوجَّه إلى جمهورٍ بعينه. لذلك يؤكّد الفيلسوف بول ريكور: «كلُّ سردٍ هو تأويل، وكلُّ تأويلٍ هو شكلٌ من أشكال السلطة»
وبينما تُهدَّم البيوت على الأرض، تُعاد هندسةُ الذاكرة في الفضاءات الرقمية. هنا تُصبح الكتابةُ، كما يعبّر محمود درويش، فعلَ بقاء: «أكتبُ كي لا يسرق أحدٌ صمتي»
2. الخطابُ السياسيّ: شرعنةُ العنف أم تجميلُ العدالة؟
تُعيد اللغةُ الرسمية تحديدَ الحرب عبر مصطلحاتٍ بديلة، مثل: «عمليةٌ عسكرية» بدل «حرب»، و«أضرار جانبية» بدل «ضحايا مدنيين». وفي ذلك يحذّر جان بول سارتر:
«أخطرُ الكائنات ليس الذي يحمل السلاح، بل مَن يكتب ليُبرّره». فالخطابُ هنا لا يُبلِّغ وحسب، بل يسعى إلى تهذيبِ القسوة وإضفاءِ مشروعيّةٍ أخلاقيةٍ عليها.

3. الخطابُ الإعلاميّ: بين الاستقطابِ والتزييف
تتنافس شاشاتُ العالم على صياغة صورةٍ «موضوعيّة»، لكنها كثيرًا ما تُخفي بنياتٍ استعماريةً أو تحشيديّة. يقول جورج أورويل:
«في زمنِ الكذب، يصبح قولُ الحقيقة فعلًا ثوريًّا».
بينما يذكّرنا الشاعر سليم بركات بمرآة البثّ:
«الدمُ لا يُرى في البثّ المباشر، يُغطّيه التعليقُ الصوتي»
وهكذا تتأرجح الرواية بين خطابٍ يوازن شكلًا ويُقصي جوهرًا، وخطابٍ آخر مقاومٍ يلجأ إلى التاريخ والصراع المستمر، وخطابٍ ثالث فوضويٍّ يُنتج سرديّاتٍ بديلةً قد تكون ملهمةً أو مضلّلة.

4. الخطابُ الثقافيّ والفنّي: فالحربُ كجرحٍ لا يلتئم
في الهامش المشتعل، يكتب الفنّان ما تعجزُ البياناتُ العسكريّة عن إظهاره؛ يكتب وجعَ الإنسان، لا وجاهةَ المنتصر. تقول نازك الملائكة:
«في الحرب لا ينتصرُ أحد؛ الجميعُ يخسر: الأم، الطفل، اللغة، وحتى الشعر».
وتضيف سوزان سونتاغ في حول الألم والآخرين:
«لقد فقدنا القدرةَ على الحزن كما ينبغي، لأنّ الصور سبقت المشاعر».
لتتحول الرواية، والمسرح، والسينما إلى سجلٍّ عاطفيٍّ مضاد، تبني ذاكرةً أعمق من العنوان العاجل.

5. سؤالُ الحياد: هل يمكن كتابةُ سرديّةٍ بلا انحياز؟
الحيادُ في ذاته موقف؛ فلا يوجد سرد محايد، لأن اختيار زاوية السرد هو بحد ذاته موقف. وبالتالي، كل خطاب عن الحرب، إن لم يكن منحازًا للحقيقة، فهو منحاز لوجهة نظر ما.
فما نختارُ أن نصمتَ عنه يُرسّخ ظلمًا ما؟
يقرِّر إدوارد سعيد بصرامة:
«الحياد في وجه الظلم خيانةٌ للمعنى».
بذلك يصبحُ المبدع بين خيارَين: إمّا أن يُؤرِّخ للضحية، أو يُنظّر للجلّاد؛ فحتى الصمتُ اصطفافٌ ضمنيّ.
لذلك، السردُ سلاحُ مَن لا سلاحَ له.فحين تسيطر القوى الكبرى على العتاد، يبقى الخطابُ حقلَ الضعيف الأخير. من لا يروي تجربتَه سيجد مَن يكتبُ عنه بما يَخدم مصلحتَه. يقول الطاهر بن جلّون:
«الكتابةُ فعلُ نجاة، لا رفاهية»
ويصرخ إلياس خوري:
«أكتبُ، لأنهم لا يكفّون عن القتل»
هكذا يغدو السردُ وطنًا بديلًا، وذاكرةً مضادةً للنسيان، وجبهةً لا بدَّ أن تُخاض بالكلمة، قبل أن تُخاض بالسلاح.
وأن نُعيد رسم الحرب لا كغريزةٍ، بل كمسؤوليةٍ فكرية وأخلاقية، وأن نُدافع عن السرد بوصفه مجالًا لمقاومة العنف، لا فقط للتوثيق.
وكأنّ أثينا، في نسختها المعاصرة، تنادينا عبر شاشات الأخبار وصفحات الكتابة، لتقول:
«لا تدعوا الجنون ينفرد بالسرد. فكروا، ثم احموا تفكيركم.»
وهكذا، يصبح الوعي النقدي والكتابة الحيّة درع أثينا الجديد في وجه طغيان الخطاب الواحد.

د. فهد توفيق الهندال

لوحة أثينا المعاصرة عبر AI








التصنيفات
مدونتي

النقد الثقافي وأرخبيل الخطابات “المُفرّغة” !



يخبرنا فوكو أن النقد ليس تمرينًا على التفكيك بقدر ما هو ممارسة للحرية. حرية التفكير خارج الأطر الجاهزة، وحرية النظر إلى الواقع من زوايا غير مأهولة. فالنقد عنده لا يهدف إلى الهدم، بل إلى كشف البُنى الخفية التي تُنتج أفكارنا، وتشكّل وعينا دون أن نشعر.

ولهذا، لا يشترط أن يكون النقد انعكاسًا لرغبات الجمهور أو أهوائهم، بل قد يتقاطع معها أو يناقضها، لأن وظيفته ليست الإرضاء، بل الإضاءة. زاوية النقد ليست مرآةً لما أحبه الناس أو كرهوه، بل عدسة تُعيد ترتيب المشهد وتُبرز ما خفي تحت سطح الخطاب.

وإذا ما رأى صاحب النص أن النقد عبءٌ أو تطفّلٌ أو تسلّقٌ على جهده، فهو بذلك يكشف عن رفضٍ ضمني للمساءلة، وتمسّكٍ مريح بالسلطة التي يعتقد أنها حصرية له. كأن النص ينبغي أن يُقرأ بإجلال لا باشتباك، وأن يُترك معصومًا لا معروضًا على طاولة السؤال.

لكن الحقيقة أن النص الذي لا يُستدعى إلى ساحة النقد، نصٌ محكومٌ عليه بالعزلة. فكما أن الفكر لا يتطور دون صراع، فإن الكتابة لا تنضج دون أن تمر بمحكّ الفحص. وفقط حين يتقبل صاحب النص هذا الامتحان، يُصبح شريكًا في مشروع المعرفة، لا مجرد صدى لها.

في عالم يفيض بالخطابات والصور والرموز، لا يكفي أن ننظر إلى الظواهر من سطحها، بل علينا أن نسبر أعماقها لنكشف ما تُخفيه من سلطات ومعانٍ خفية. وهنا يأتي دور النقد الثقافي كما يُعرّفه الدكتور عبد الله الغذامي، بوصفه أداة لكشف البُنى الفكرية والسلطوية الكامنة وراء المنتجات الثقافية، سواء كانت نصوصًا أدبية أو مظاهر اجتماعية أو حتى أنماطًا استهلاكية.

لا يرى الغذامي في النقد مجرد تحليل جمالي أو لغوي، بل يرى فيه تفكيكًا للخطاب وكشفًا للعلاقات غير المرئية بين النص والمجتمع، بين اللغة والسلطة، بين الهوية والتمثيل. إنه يحرّكنا من سؤال “كيف كُتب النص؟” إلى سؤال “لماذا كُتب بهذا الشكل؟ ولصالح من؟”.

من هذا المنظور، تصبح كل ظاهرة ثقافية قابلة للقراءة بوصفها نصًا اجتماعيًا، يحمل في طياته تمثيلات طبقية، جندرية، أيديولوجية. سواء كانت إعلانًا تجاريًا، أو مهرجانًا، أو حتى لبسًا شائعًا، فإنها تحوي في داخلها خطابًا يُشكّل وعينا ويعيد إنتاج النظام الرمزي للمجتمع.

لذا، فدراسة الظاهرة من منظور النقد الثقافي لا تهدف إلى إدخالها في قوالب جامدة، بل إلى تحرير وعينا منها، وفهم كيف نُشكَّل نحن من خلالها. وكما يؤكد الغذامي، فإن هذا النوع من النقد ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة لفهم أنفسنا والواقع الذي نعيشه، بعيدًا عن الانبهار الساذج أو الرفض الغاضب.

إن ظاهرة “الجزر الثقافية”، بحسب توصيف الغذامي، تُشير إلى تَشظّي الخطاب الثقافي إلى دوائر مغلقة، كل منها تتكلم مع ذاتها وتُعيد إنتاج قيمها، دون انفتاح فعلي على الآخر. وهي ظاهرة تتفاقم في المجتمعات التي تُهيمن فيها الهويات الضيقة، سواء كانت فئوية أو مناطقية أو أيديولوجية.

هذا التشظي يُفضي إلى انحسار الثقافة العامة بوصفها فضاءً مشتركًا للحوار والتفاعل. إذ لم تَعُد الثقافة في هذا السياق مشروعًا جامعًا أو حوارًا نقديًا يطمح إلى تشكيل وعي جماعي، بل تحوّلت إلى أرخبيل من الخطابات المتوازية، لاسيما المفرّغة، التي لا تتقاطع إلا لتصطدم.

وتكمن خطورة هذه الظاهرة في أمرين:

1. تفريغ الثقافة من بعدها الجدلي: إذ تضعف قيم الحوار والنقاش المفتوح، ويتم استبدالها بالتكرار داخل الدائرة المغلقة، مما يؤدي إلى جمود الفكرة وركود الذائقة.

2. تراجع دور المثقف النقدي: لأن المثقف الذي يخرج من نسقه الضيق يُتَّهم غالبًا بالتخلي عن “الهوية”، فيُقصى أو يُشكك في دوافعه، فتخسر الثقافة صوتًا حيويًا كان يمكن أن يُحدث الأثر المطلوب.

وهكذا، فإن الجزر الثقافية لا تنعزل فقط عن بعضها، بل تُعزل الثقافة ذاتها عن أفقها الأوسع، وتحاصرها داخل قوالب الهويات الفرعية. وبمرور الزمن، تُصبح الثقافة هامشية في حياة المجتمع، غير قادرة على التأثير أو التغيير، لأن سلطة الانتماء تتغلب على سلطة السؤال، وسلطة العُرف تتغلب على حرية النقد.

إن تفكيك هذه الجزر وإعادة وصل الحقول الثقافية ببعضها، هو أحد أهم أهداف النقد الثقافي. لأنه لا يدافع عن ثقافة “موحَّدة” بل عن ثقافة متداولة، حرة، ومتقاطعة، تُنتج ذاتها من خلال الاختلاف لا الانعزال.

في هذا الإطار، يصبح النقد الثقافي ضرورة لفهم هذه الظواهر لا كمشكلات طارئة، بل كبُنى مترسّخة تُعيد إنتاج نفسها داخل المنظومة الثقافية. فالنقد هنا لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يُسائل علاقتها بالهوية، والتاريخ، والخطاب السائد، في محاولة لتفكيك أسباب تشكّل هذه الجزر، وتحليل آليات اشتغالها ضمن النسيج الاجتماعي الأشمل.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

رؤية عُمان 2040 : الهويةالثقافية والإبداعية

كانت أيام جميلة التي قضيتها في عُمان، وهو البلد الذي يحظى بزياراتي المتعددة خلال العام الواحد، لما له ولأهله من مكانة كبيرة بدأت منذ أول زيارة عام 2014 كناشر، فتحولت إلى علاقة حميمة وجدانية مع الأصدقاء وأهلها، لتتوج في حصولي على درجة الدكتوراه من أهم جامعاتها، جامعة السلطان قابوس العريقة والمتقدمة أكاديميا عبر تصنيفات عربية وعالمية. فكانت زيارتي قبل أسبوع استكمالا لهذه المحبة، وستستمر باذن الله. وكنت قد قدمت ورشة ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب تحت عنوان ( تجويد كتابة القصة القصيرة) بعد دعوة كريمة من اللجنة الثقافية للمعرض، في حفاوة وضيافة وتنسيق واهتمام، برهن على القدرة العالية والنشطة والاحترافية  للقائمين على الأنشطة والمعرض، بما يمكنهم لاقامة فعاليات ثقافية عالمية على مدار العام . وهذا يؤكد على تحوّل الفعل الثقافي في عمان باعتماد الثقافة موردا رئيسا في تنمية الإنسان في عمان. إذ تؤكد رؤية عمان 2040 على بناء مجتمعٍ يُفخر بهويته وثقافته ويعمل على صون تراثه وتعزيزه. فمن أهداف الرؤية دعم المعرفة والإبداع في المجتمع وتعزيز الاستثمار المستدام في التراث والثقافة والفنون كركائز للتنمية الاقتصادية الوطنية. ترتبط هذه الأهداف بتعميق الوعي بالهوية الوطنية والإرث الحضاري في المناهج ووسائل الإعلام؛ إذ تهدف إلى تكوين مجتمع مبدع قادر على استثمار معارفه وثقافته في دفع التنمية.

ففي قطاع الفنون والآداب، تشمل توجهات الرؤية دعم القطاع الثقافي والإبداعي عبر رعاية الفنون والإعلام والثقافة. ففي إطار الاستراتيجية الوطنية للثقافة، أُطلق مشروع «المختبرات الثقافية العمانية» – الذي أُطلق بالأمس- والذي يهدف إلى تقديم موروث السلطنة الزاخر بالطاقات الوطنية عبر معارض وبحوث ومنتديات، ويسعى إلى تعزيز الهوية العمانية عالمياً من خلال التعاون بين المؤسسات الحكومية والخاصة. كما تتضمن المبادرات إنشاء مرافق فنية جديدة؛ فمثلاً تم الإعلان عن مشاريع مثل «مدينة الأفلام» لدعم صناعة السينما المحلية و«منتزه إبداع» لعرض المنتجات الثقافية العمانية. وتستهدف هذه المشاريع جذب المواهب الشابة والمستثمرين في مجالات الأدب والفنون عبر توفير بنية تحتية متخصصة ومعارض دورية وفرص للشراكة الدولية، بما يعزز الشراكة الثقافية بين الجميع، وانحسار مساحة الجزر الثقافية.

وفي قطاع التراث، تضع الرؤية الحفاظ على التراث الثقافي المادي وغير المادي نصب عينيها من خلال تبني سياسات صون وترميم للمعالم التاريخية. فقد ركزت على ضرورة الحفاظ على الهوية العمانية من خلال ترميم القلاع والحصون وتحويلها إلى مواقع ثقافية وسياحية جذابة. وضمن خطة التنمية السياحية والثقافية، تم طرح الفرص الاستثمارية لإحياء هذه المواقع وتحويلها إلى مراكز ثقافية تخدم المجتمع والزوار، انسجاماً مع التوجهات الوطنية لصون التراث العماني المتعدد على امتداد رقعة السلطنة وتعزيزه دولياً. بالإضافة إلى ذلك، تدعم الحكومة إنشاء متاحف ومدارس للفنون والحرف التقليدية، وإقامة مهرجانات أدبية وفنية لتعزيز التعبير الثقافي وإثراء المشهد الثقافي العماني.

وفيما تعلق بالصناعات الإبداعية، اعتُبرت هذه الصناعات من القطاعات المحورية في تنويع الاقتصاد. إذ أطلقت الحكومة برنامجًا وطنيًّا لتطوير هذه الصناعات (تحت مظلة برنامج «نَزْدَهِر» للاستثمار والتصدير) شمل وضع خارطة طريق واستراتيجيات لتعزيز هذا القطاع. فقد أعلنت وزارة التجارة والصناعة عن استشارة عالمية لصياغة استراتيجية قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية وضوابطه الاستثمارية، بهدف جذب الاستثمارات إلى هذا القطاع الجديد. كما نظّمت ورش عمل وطنية بالشراكة بين وزارة الثقافة وهيئات الاستثمار لتحديد الفرص والقدرات الرئيسية، مما أثمر عن إطلاق مشاريع كبرى (مثلاً: «مدينة أفلام» و«إبداع بارك» وغيرها)، وفرص استثمارية جديدة في مختلف أنحاء السلطنة. وتعتمد هذه البرامج على تعزيز شراكات مثمرة بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات الثقافية لتحفيز الإبداع وتشغيل الطاقات الوطنية في الإنتاج الفني والأدبي.

وبتكامل هذه الخطوات، تبرز رؤية 2040 عُمان كداعمٍ قوي للثقافة والإبداع، من خلال تحقيق مجموعة من المبادرات القطاعية التي تحفز الفنون والآداب، تحمي التراث، وتطلق العنان للصناعات الإبداعية كمحرك مهم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لا تنحصر بفعاليات عام معين أو دورة أو خطة سنوية، وإنما هي مسيرة مكملة، ستحقق ريادتها في المنطقة على مختلف القطاعات الثقافية، العلمية و الرياضة.

د. فهد توفيق الهندال

المصادر:

بيانات رسمية عن رؤية عُمان 2040، وبيانات وزارة الثقافة ووسائل الإعلام العمانية حول مبادرات القطاع الثقافي.

التصنيفات
مدونتي

سرديات نهاية العالم

يُشير مفهوم “نهاية العالم” أو ما يُعرف بـ Apocalypse / Post-Apocalyptic Catastrophe  إلى نوع من السيناريوهات أو التصورات التي تتخيّل انهيار الحضارة كما نعرفها، إما بفعل كارثة طبيعية أو حرب نووية أو وباء أو تدخل بشري أو خارق. وهو ما جاء ضمنا دون إشارة مباشرة، في أفكار فرويد، نيتشة، هايدجر، سارتر، كامو، كافكا وستيفن كينج.

ما المقصود بـ”كارثة نهاية العالم”؟
هي لحظة تحول جذري في مصير البشرية، تؤدي إلى:
• تدمير البنى التحتية.
• انقراض أغلب البشر أو تحوّلهم.
• اختفاء القانون والدولة.
• ظهور مجتمعات جديدة بدائية، فوضوية، أو ديكتاتورية.

لماذا أصبح هذا النوع من الأفلام مرغوبا؟
تُساهم في تخليص نفسي من الخوف الوجودي، إذ يعيد تخيّل نهاية العالم السيطرة على المجهول. كذلك اختبار للإنسانية، بما الذي يبقى من الأخلاق عندما تنهار الحضارة؟ وهذا تساؤل فلسفي، مرتبط بسؤال آخر: هل الإنسان يستحق النجاة؟ أم هو سبب الكارثة؟
ولعل خيال ومغامرة لدى المتلقي، يجعل هذا النوع من السينما، من أكثر الأنواع السينمائية تشويقًا وبصرية، والأكثر كتابة وإنتاجا.

سينما نهاية العالم

يمكن رصد نهاية العالم في ثلاث أفلام مختارة، أولها فيلم Furiosa حيث نهاية العالم غير مفسرة بشكل مباشر، لكنها خلفية دائمة، إما انهيار سياسي، بيئي، مجتمعي.
في حين، يلقي فيلم  Book of Eli اللائمة على الحرب النووية في نهاية العالم، لكن الكارثة تتحول إلى مسألة إيمان وبحث عن المعنى التاريخي لكل ما حدث.
أما فيلم Waterworld ، فالعقاب هنا  بيئي، بسبب الاحتباس الحراري المتزايد، وما سببه من ذوبان مستمر للجليد في القارتين القطبيتين.
وليست كارثة نهاية العالم دمارًا بيئيا أو سياسيا أو اقتصاديا، بل   تمثل نهاية اليقين بجدوى العالم الحي، وإعادة لضبط أخلاقية العالم، بتقاسم ثروات الأرض بين كل الأحياء نحو توازن طبيعي وبيئي مستمر، بعد عقود من تغيّر المناخ، وتصاعد حدة الحروب وانتشارها، وتفشي فيروس الطمع الرأسمالي والتكنولوجي.
وفيما يلي، تحليل مقارن للأفلام الثلاث:

يشترك فيلم “Furiosa: A Mad Max Saga”  من سلسلة Mad Max من حيث الثيمات والعالم السردي بفيلمي “The Book of Eli” و”Waterworld”، في نوع “ما بعد الكارثة” (post-apocalyptic)، لكنها تختلف في بعض النواحي الأسلوبية والرمزية. إليك نقاط المقارنة:

1. العالم السردي والمكان:
Furiosa و Mad Max Saga: تدور أحداث الفيلم في صحراء جافة خالية من الموارد، حيث البنزين والماء نادران. تهيمن عليه العصابات والأنظمة القمعية.
في حين يمثل فيلم  The Book of Eli عالم دمرته حرب نووية، قاحل، رملي، حيث يسود العنف وتحكم العصابات القرى، مع احتكار القوة بكل أشكالها، ومنها التاريخ بيد زعيم العصابة بيل كارنيج.
Waterworld على العكس منهما، تدور أحداثه في عالم مغمورو بالماء بسبب ذوبان الجليد، حيث تصبح الأرض الجافة  أسطورة، ويصبح الماء مصدر الحياة والصراع.
الربط بين الأفلام الثلاثة:

1.الطبيعة متطرفة (جفاف أو فيضان) و”الموارد الشحيحة” فتصبح رمزية للسلطة، سواء كانت الماء أو الوقود أو المعرفة (كما في كتاب إيلاي).
2. البطل/البطلة بوصفه(ـا) ناجيًا وحاملاً للمعنى:
• Furiosa: البطلة التي تبدأ كضحية وتتحول إلى محاربة، تقاتل لاستعادة أرضها الأصلية، وتمنح الأمل للآخرين.
• Eli: بطل صامت روحاني، يحمل كتابًا مقدسًا يمثل الأمل والبوصلة الأخلاقية لعالم محطم.
• Mariner في Waterworld: كائن متحوّل يتنقل في عالم غارق، يبحث عن معنى، ويحمي طفلة تحمل خريطة للأرض الجافة.
ليجسد الثلاثة نوعًا من “النجاة الوجودية”، فهم ليسوا مجرد مقاتلين بل رموز للرجاء والخلود الثقافي/الروحي.
3. الصراع:
• في Furiosa، الصراع بين الطغاة ومَن يسعون للحرية.
• في Eli، الصراع بين الحافظ الأخلاقي (Eli) والسلطة المتسلطة التي تريد استغلال الدين.
• في Waterworld، الصراع بين المعرفة (الخريطة للأرض) والطمع.
إذن، يصور كل فيلم رحلة الصراع ضد بنية استغلالية تستحوذ على مورد نادر، ويركز على الصراع الرمزي بين “الحياة/المعرفة” و”السلطة/الاستغلال”.
4. الرؤية الجمالية والأسلوب:
• Furiosa: سرعة، تصوير ديناميكي، مشاهد مطاردة متقنة.
• Eli: ألوان باهتة، إيقاع بطيء، تصوير تأملي فلسفي.
• Waterworld: مغامرة سينمائية ضخمة، مشاهد بحرية مبهرة.
وتستخدم قصص الأفلام الثلاث كلها تستخدم البيئة القاسية كعنصر جمالي وشعري يعكس الفراغ الوجودي والبحث عن المعنى.
في ختام هذا المقال، يتضح أن فكرة “نهاية العالم” ليست مجرد خيال سينمائي أو أدب فانتازي، بل مرآة تعكس أعمق مخاوف الإنسان وأسئلته الوجودية: من نكون حين يسقط النظام العالمي؟ ما الذي يبقى حين تغيب القيم؟ وهل يمكن أن تنبت الحياة من تحت أنقاض الفناء؟
لقد عبرت الروايات والأفلام والفلسفات عن هذه اللحظة الفارقة، كلٌ بلغته، لكن القاسم المشترك هو الإيمان بأن ما بعد الكارثة ليس دومًا موتًا، بل احتمال لبداية جديدة، بشرط أن يكون الإنسان على قدر من الوعي، والإرادة، والأخلاق في مواجهة العدم.
وهكذا، لا تنتهي العوالم في الأدب والسينما، بل تبدأ من جديد ـ بروح أكثر صفاء، وبصيرة أكثر نفاذًا.
فالنهاية، في جوهرها، ليست إلا استعارة مكثفة للبداية.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

أخوة ليلى.. المجتمع في مواجهة المرأة


يُعد فيلم “أخوة ليلى” لكاتبه ومخرجه سعيد روستايي أحد أبرز الأفلام الإيرانية الحديثة التي تعكس الصراعات العائلية في ظل التغيرات الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالمجتمع الإيراني. 

يدور الفيلم حول ليلى، المرأة القوية التي تحاول إنقاذ عائلتها من الفقر المدقع، وسط إخوة يتصارعون فيما بينهم بسبب الطموحات الشخصية والميراث.
يتناول الفيلم بواقعية لاذعة المشكلات الاجتماعية مثل البطالة، الفساد، والصراع بين القيم العائلية والتغيرات الاقتصادية. ومن خلال سيناريو متقن، يبرز الفيلم العلاقة المتوترة بين أفراد الأسرة، حيث تحاول ليلى جاهدةً إقناع إخوتها بمشروع استثماري قد يكون طوق النجاة لهم، لكن الطمع والتقاليد يقفان عقبة أمام ذلك.
جاء الحوار في الفيلم عميقا وواقعيا، يعكس التوتر النفسي والاجتماعي الذي يعيشه الأفراد. لا توجد مبالغات أو خطب مفتعلة، بل تسلسل درامي ينساب بسلاسة، مما يجعل المشاهد ينغمس في تفاصيل الحياة اليومية
لشخصيات الفيلم.

الشخصيات
يتميز فيلم “أخوة ليلى” بشخصياته المعقدة التي تمثل جوانب مختلفة من المجتمع الإيراني. من خلال هذه الشخصيات، يقدم الفيلم دراسة نفسية واجتماعية للعائلة الإيرانية، حيث يتصارع كل فرد مع ظروفه وطموحاته في ظل القيود الاقتصادية والثقافية.
1. ليلى (ترانه عليدوستي) – المرأة القوية والمهمشة
• الدور: البطلة ومحور القصة، تمثل العقل المدبر للعائلة.
• التحليل: ليلى هي شخصية قوية، ذكية، وعملية، لكنها تعاني من التهميش بسبب كونها امرأة في مجتمع ذكوري. تحمل على عاتقها مسؤولية إنقاذ إخوتها من الفقر، لكنها تواجه عقبات بسبب تقاليد العائلة والطمع الداخلي.
• الرمزية: تمثل المرأة الإيرانية العصرية التي تسعى للاستقلال والنجاح، لكنها تُحاصر بين المسؤوليات الأسرية والتقاليد الاجتماعية التي تعيق تقدمها.
2. الأب (سعيد بورصميمي) – رمز السلطة والتقاليد القديمة
• الدور: الأب المتسلط الذي يتمسك بالماضي ويرفض التغيير.
• التحليل: يرى الأب أن الميراث العائلي مرتبط بالشرف والمكانة الاجتماعية أكثر من كونه وسيلة للنجاة الاقتصادية. يصر على استخدام المال بطريقة تعزز نفوذه التقليدي بدلاً من التفكير في مستقبل أولاده.
• الرمزية: يمثل الأبوية التقليدية التي تعرقل التقدم من خلال التمسك بالهيبة الفارغة بدلاً من التفكير الواقعي في التحديات الاقتصادية.
3. بيمان معادي (منوشهر) – الفشل القيادي
• الدور: الأخ الأكبر الذي يفترض أن يكون قائد العائلة، لكنه ضعيف وغير قادر على اتخاذ قرارات صحيحة.
• التحليل: يتمتع بصفات قيادية شكلية لكنه يفتقر إلى البصيرة الاقتصادية، مما يجعله مجرد واجهة للسلطة العائلية دون تأثير حقيقي.
• الرمزية: يجسد القيادات الفاشلة في المجتمع، حيث يحاول التمسك بالمكانة التقليدية دون امتلاك القدرة على مواجهة التحديات الحديثة.
4. نويد محمد زاده (علي رضا) – الغضب والاندفاع
• الدور: أحد الإخوة الذي يعاني من الغضب وعدم الاستقرار النفسي.
• التحليل: شخص متمرد، لا يؤمن بالسلطة العائلية، لكنه يفتقر إلى استراتيجية واضحة لتغيير وضعه. يعبر عن إحباطه بالتصرفات العدوانية بدلاً من البحث عن حلول عملية.
• الرمزية: يمثل الشباب الغاضب في إيران، الذين يشعرون بأنهم ضحايا للنظام الاجتماعي والاقتصادي، لكنهم غير قادرين على إيجاد طريق واضح للخروج من الأزمة.
5. الإخوة الآخرون – الطمع والانقسام الداخلي
• الدور: شخصيات ثانوية لكنها تعكس التشرذم داخل العائلة.
• التحليل: كل واحد منهم يسعى لتحقيق مكاسب شخصية على حساب العائلة، مما يعكس كيف تؤدي الأنانية والطمع إلى تدمير الروابط العائلية.
• الرمزية: يمثلون الانقسامات الداخلية في المجتمع، حيث يسعى كل فرد لتحقيق مصالحه الخاصة بدلاً من التفكير في الحل الجماعي.
6. الأم مثلت العاطفة والصبر والتضحية، لكنها في الوقت ذاته شخصية سلبية لا تملك قوة التأثير على قرارات العائلة. رغم حضورها الهادئ، إلا أنها تعكس مأساة المرأة الإيرانية التقليدية التي تجد نفسها وسط صراعات لا تملك القدرة على التحكم فيها.
هي الركيزة العاطفية للعائلة، تحاول تهدئة الأوضاع بين الأب والأبناء، لكنها لا تمتلك سلطة حقيقية. تعيش دور المراقِبة الصامتة، فهي ترى كيف تنهار العائلة لكنها تكتفي بالتحسر دون القدرة على التدخل الحاسم. وتحمل في طيات شخصيتها الاستسلام والخضوع للتقاليد، مما يجعلها نموذجًا للأمهات اللواتي كبرن في ظل نظام أبوي لا يمنحهن القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية. المفارقة أن الأم كانت في صراع مستمر مع المرأة / ابنتها ليلى، لكونها ترى فيها القوة الغائبة عنها
الرمزية:
• تمثل أفكار المجتمع القديمة التي تراقب التغيرات من دون أن تتدخل، تمامًا كما تفعل بعض الأجيال الأكبر سنًا التي تشهد انهيار القيم الاجتماعية دون محاولة التغيير. كما تعكس التهميش النسوي في المجتمع التقليدي، حيث يُنظر إلى النساء كداعمين للعائلة لكن دون منحهن السلطة الفعلية في صنع القرار.
ورغم أن شخصية الأم ليست المحرك الرئيسي في القصة، إلا أنها تعكس مصير الأمهات في العائلات المحافظة، حيث يتحملن عبء المشكلات العائلية لكن دون امتلاك القدرة على التصرف. هي مثال للمرأة التي فقدت صوتها وسط نظام أبوي صارم، مما يجعل شخصيتها حزينة وعميقة في الوقت ذاته.
أبرز الحوارات في فيلم “أخوة ليلى”
يتميز الفيلم بحوارات قوية ومؤثرة تعكس الصراعات العائلية والاجتماعية التي يمر بها الأبطال. الحوارات ليست مجرد كلمات، بل هي صراعات مصغرة تجسد الانقسامات بين الشخصيات، سواء بين ليلى وإخوتها، أو ليلى ووالدها، أو حتى بين الإخوة أنفسهم.
1. مواجهة ليلى مع إخوتها – الحلم الضائع
ليلى: “أنتم لا تفهمون! هذه ليست مجرد فكرة، إنها فرصتنا الأخيرة للخروج من هذا المستنقع!”
المعنى: هنا، تعكس ليلى إحباطها من إخوتها الذين يرفضون الاستماع إليها، وهي لحظة تكشف الفرق بين التفكير العملي (ليلى) والعاطفة والطمع (الإخوة).
2. صراع الأب مع ليلى – سطوة التقاليد
الأب: “الشرف لا يُشترى بالمال يا ليلى، لكنه يُحفظ به!”
ليلى (بغضب): “ما فائدته إذا كنا جوعى؟!”
المعنى: يوضح هذا الحوار التناقض بين الأب، الذي يقدس القيم التقليدية والمظهر الاجتماعي، وليلى التي ترى الواقع بعيون عملية. إنه صراع بين جيلين، بين ماضٍ متجمد ومستقبل يتطلب التغيير.
3. الإخوة وصراعهم حول الذهب – الأنانية والخذلان
أحد الإخوة (باحتقار): “لماذا علينا أن نسمع لامرأة؟ أنتِ تحلمين، ولن نصبح خدامًا لكِ!”
ليلى (بهدوء جارح): “أنا فقط أحاول إنقاذكم من أنفسكم، لكنكم تفضلون الغرق.”
المعنى: في هذه اللحظة، نرى مدى تجذر العقلية الذكورية، حيث لا يستطيع الإخوة تقبل فكرة أن تكون ليلى أذكى منهم، حتى لو كانت محاولاتها لصالحهم.
4. لحظة الانهيار – اعتراف ليلى بالهزيمة
ليلى (بصوت مكسور): “لقد حاولت، لكن لا أحد يريد أن يُنقَذ.”
المعنى: هذه الجملة تلخص مأساة ليلى كشخصية عالقة في بيئة ترفض التغيير، رغم حاجتها الماسة إليه. إنها لحظة الاستسلام، حيث تدرك أن عقلانيتها وذكائها لن يكونا كافيين ضد عائلة تحكمها الأنانية والعادات البالية.
لماذا الحوارات قوية؟
كان كل حوار يحمل انفعالات حقيقية، من الغضب إلى الاستسلام. وتعبر عن الشخصيات بوضوح. فلا يوجد حوار زائد أو عشوائي، بل كل جملة تخدم الحبكة.

التصوير والإخراج
يبرع سعيد روستايي في تقديم فيلمه بأسلوب واقعي وحاد، حيث يركز على التفاصيل الحياتية التي تجعل المشاهد يشعر وكأنه يعيش داخل الأحداث. يعتمد على السرد البطيء المتصاعد، مما يمنح الشخصيات مساحة للتطور ويجعل التوتر العائلي ملموسًا في كل مشهد. من خلال:
التصعيد الدرامي التدريجي: يبدأ الفيلم بمشكلات يومية، لكنه يتطور إلى صراع عائلي واقتصادي مكثف، مما يعكس عبثية الحياة في ظل الفقر والصراعات الاجتماعية.
التحكم في الإيقاع: رغم أن بعض المشاهد تبدو طويلة، إلا أنها تساهم في خلق إحساس بالضغط النفسي الذي يعيشه الأبطال.
إبراز الشخصيات: يستخدم روستايي زوايا تصوير خاصة تجسد الشخصيات وكأنها عالقة في مصيرها، مثل اللقطات القريبة التي تكشف تفاصيل الوجوه والانفعالات بدقة.
التصوير – المرآة البصرية للواقع الكئيب، ليعتمد التصوير في الفيلم على الألوان الباردة والداكنة، مما يعكس الواقع القاسي الذي تعيشه الشخصيات. المصور السينمائي هادي بهزاد نجح في جعل الكاميرا جزءًا من الصراع النفسي والاجتماعي، وذلك من خلال:
اللقطات القريبة (Close-ups): تُظهر وجوه الشخصيات بانفعالاتها الحقيقية، مما يعزز الشعور بالعجز والغضب.
التصوير اليدوي (Handheld Camera): يضفي إحساسًا بالعفوية والواقعية، كأن المشاهد يشاهد وثائقيًا عن معاناة عائلة إيرانية.
الإضاءة الطبيعية: غياب الأضواء الاصطناعية يجعل المشاهد تبدو أكثر واقعية، مما يزيد الإحساس بالقسوة الاجتماعية والاقتصادية.
زوايا الكاميرا الضيقة والمغلقة: تعكس شعور الشخصيات بالاختناق داخل أوضاعهم المأزومة، حيث تبدو البيوت والشوارع وكأنها سجون غير مرئية.

الموسيقى والمؤثرات
جاءت الموسيقى التصويرية للموسيقار رامن كوشا  هادئة لكنها مؤثرة، تدعم المشاهد العاطفية دون أن تفرض نفسها بقوة. لعبت المؤثرات الصوتية دورًا مهمًا في تعميق الإحساس بالمكان، خاصةً في المشاهد التي تعكس صخب المدينة والفوضى الاجتماعية.

“أخوة ليلى”  فيلم إنساني بامتياز، يعكس قضايا اجتماعية وسياسية دون خطاب مباشر، ويعتمد على الشخصيات القوية والدراما العائلية العميقة لإيصال رسالته. بإخراج محكم وأداء استثنائي، يستحق الفيلم أن يكون من بين أفضل الأعمال الإيرانية الحديثة.

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

ساعات ديكارت وسيف ديموقليس


يعد كتاب “ساعات ديكارت رديئة الصنع .. لماذا نمرض؟ ” للدكتور نادر كاظم والصادر عن دار ومكتبة صوفيا،  آخر اصداراته التي تضيف للمكتبة العربية بما احتواه من تحليل إنساني إجتماعي للمرض وفلسفته المكتسبة. تكمن أهمية الكتاب في الطريقة التي يعيد بها الدكتور نادر كاظم تعريف المرض، ليس فقط كحالة جسدية أو اضطراب صحي، بل كظاهرة وجودية وإنسانية تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية واجتماعية ونفسية.

يعكس عنوان “ساعات ديكارت رديئة الصنع” جوهر الفكرة الفلسفية التي يستند إليها الكتاب، وهي رؤية الجسد البشري والعلاقة بين المرض والصحة من منظور ديكارت الفلسفي والميكانيكي الذي كان يؤمن أن الجسد البشري يشبه الآلة أو الساعة الميكانيكية الدقيقة التي تعمل بانسجام وتنظيم. وفق فلسفته، أي خلل أو عطل في هذه الآلة يؤدي إلى المرض.
واستعار الكاتب هذا المجاز ليبني عليه رؤيته للمرض كخلل في نظام الجسد، ولكنه يتجاوز ذلك لاستكشاف أبعاد المرض النفسية والوجودية. وهي على النحو التالي:

1. معالجة المرض من زاوية فلسفية وجودية:
يطرح الكتاب المرض كجزء أساسي من التجربة الإنسانية، لا كشيء يجب التخلص منه أو الهروب منه فحسب. كما يناقش كيف أن المرض يعيد تشكيل فهمنا للحياة والموت، إذ يقدم المرض فرصة للتأمل في هشاشة الإنسان وفي حدود قوته الجسدية والنفسية.
ومن خلال تأملات فلسفية عميقة، يضع المرض في إطار دورة الحياة الطبيعية، مما يثير تساؤلات عن الغاية من الألم والمعاناة، ويقدم منظورًا جديدًا حول القيمة الخفية للمرض كجزء من التجربة الإنسانية.
2. استعراض العلاقة بين المرض والمجتمع:
يبرز الكتاب كيفية تعامل المجتمع مع المرضى كأفراد ضعفاء أو عاجزين، وفي المقابل كيف أن المرض يغيّر ديناميكيات العلاقة بين الفرد والمجتمع. كما يعكس الكتاب طبيعة التفاعل البشري مع المرض، سواء على مستوى التضامن أو الوصم الاجتماعي.


3. إسقاطات على تجارب فلاسفة ومفكرين:
أحد الجوانب الأكثر إثارة هو استعراض الكتاب لتجارب عدد من المفكرين والفلاسفة مع المرض وتأثيره على أفكارهم ورؤاهم.
على سبيل المثال:
جان بول سارتر، وكيف أثر المرض على فلسفته الوجودية. ولوي ألتوسير: كيف استخدم المرض كأداة للبحث والتفكير. وإدوارد سعيد في انعكاس المرض على إبداعه الأدبي ورؤيته النقدية.
وفي هذا الجانب، يظهر أن المرض ليس عائقًا للإبداع، بل يمكن أن يكون محفزًا لإعادة التفكير والابتكار.


4. دمج الطب بالفلسفة:
يناقش الكتاب كيف أن الطب لا يمكن أن ينفصل عن الفلسفة عند محاولة فهم المرض. يقدم مقارنة بين نظرتين:
نظرة ديكارت الميكانيكية التي ترى الجسم كآلة معقدة.
ونظرة مونتاني التي ترى أن المرض جزء طبيعي من دورة الحياة. وهذا التناول يجذب القارئ لفهم الجسد والمرض من منظور شمولي يجمع بين العلوم الإنسانية والطبية.


5. تحدي المفاهيم السائدة عن الصحة والمرض:
يشكك الكتاب في رؤية الصحة كحالة “مثالية” والمرض كحالة “استثنائية”، بل يعيد تعريف المرض كجزء أصيل من وجودنا.
ويتساءل: هل يمكن أن يعيش البشر بدون المرض؟ وما الذي قد يحدث لو اختفى المرض تمامًا؟
ويبرز هذا الطرح الدور الإيجابي للمرض في جعلنا نقدر الصحة، ويدفعنا إلى استغلال تجاربنا المرضية كفرص لفهم الذات والحياة.


6. أهمية الكتاب في السياق الثقافي:
إذ يفتح الكتاب النقاش حول كيفية تعامل الثقافة الإنسانية، خاصة في المجتمعات العربية، مع المرض والمرضى. كما يعالج التصورات الاجتماعية والدينية عن الألم والمعاناة، ويدعو للتفكير النقدي في هذه القضايا. كما يكسر الكتاب بعض التابوهات المرتبطة بالموت والمرض، ويجعل النقاش حولهما أكثر انفتاحًا وعمقًا.


7. لغة وأسلوب الكتاب:
يتميز الكتاب بلغة سرديّة فلسفية عميقة، لكنها في الوقت نفسه موجهة للجمهور العام، مما يجعله مناسبًا للقراء المهتمين بالفلسفة والطب والإنسانية على حد سواء. وجاء الأسلوب جامعا بين السرد القصصي والتحليل الأكاديمي، مما يجعل القراءة ممتعة ومثرية.


8. قيمة الكتاب الأكاديمية والفكرية:
يضيف الكتاب إلى الأدب العربي المعاصر كتابًا نادرًا في نوعه، حيث يتناول قضايا الوجود والمرض والموت بجرأة وعمق.
ويمكن استخدامه كمرجع أكاديمي في مجالات متعددة مثل الفلسفة، العلوم الإنسانية، الطب النفسي، والدراسات الثقافية.


استعرض كتاب “ساعات ديكارت” شخصيات بارزة من الفلاسفة والمفكرين الذين كان للمرض دور كبير في تشكيل حياتهم وفلسفاتهم. هؤلاء الشخصيات ليسوا مجرد موضوعات للنقاش، بل يشكلون محورًا لفهم العلاقة بين الجسد، النفس، والمرض. فيما يلي أبرز الشخصيات التي تم ذكرها في الكتاب:

1. رينيه ديكارت (1596-1650):

يعد ديكارت شخصية مركزية في الكتاب، حيث يناقش الكاتب رؤيته للجسد كآلة أو ساعة ميكانيكية دقيقة الصنع.

يبرز الكتاب تناقض ديكارت الذي كان يرى أن المرض خلل في “الآلة البشرية” لكنه عاش حياة صحية إلى حد كبير ومات بنزلة برد تطورت إلى التهاب رئوي.

يناقش الكاتب علاقة ديكارت بالطب ورؤيته للمرض كجزء من الطبيعة البشرية.


2. ميشيل دي مونتاني (1533-1592):

يقدم الكاتب مونتاني كنموذج مضاد لديكارت، حيث يرى أن المرض جزء من دورة الحياة الطبيعية وليس خللًا يجب إصلاحه.

عانى مونتاني من مرض حصوات الكلى، وهو ما أثر بوضوح على فلسفته ونظرته للحياة.

يتناول الكاتب كيف تعامل مونتاني مع مرضه بروح فلسفية وتأملية، ورأى في الألم فرصة لفهم الحياة والموت بشكل أعمق.


3. جان بول سارتر (1905-1980):

يعرض الكتاب تجربة سارتر مع المرض، خاصة مشاكله الصحية المتعلقة بالجهاز العصبي.

يناقش كيف أثرت هذه التجارب على فلسفته الوجودية، وخاصة فكرة “الإنسان يصنع نفسه”.

المرض في حياة سارتر كان أداة فلسفية للتأمل حول الحرية والمسؤولية.


4. لوي ألتوسير (1918-1990):

شخصية مثيرة في الكتاب، إذ يناقش الكاتب كيف استخدم ألتوسير مرضه النفسي كأداة للتفكير والتعبير.

يظهر الكتاب كيف أن ألتوسير، رغم معاناته من الاكتئاب والمرض النفسي، ظل قادرًا على إنتاج أعمال فلسفية كبرى.


5. فرانز فانون (1925-1961):

يظهر فانون في الكتاب كشخصية فلسفية مهمة ربطت المرض بالاستعمار والعنصرية.

يناقش الكاتب كيف وصف فانون الاستعمار كـ”مرض مزمن” وتأثير العنصرية على الجسد والنفس.

المرض بالنسبة لفانون لم يكن شخصيًا فقط، بل كان مجازًا للحالة الاجتماعية والسياسية للمستعمرين.


6. إدوارد سعيد (1935-2003):

يعرض الكاتب تجربة إدوارد سعيد مع مرض اللوكيميا، وكيف أثر ذلك على أعماله الفكرية والنقدية.

يناقش الكتاب كيف تداخل المرض مع اهتمام سعيد بفكرة الاستعمار والثقافة، خاصة في كتابه “الاستشراق”.

7. شخصيات تاريخية وطبية أخرى:

ماركوس أوريليوس: يقتبس الكاتب أفكاره حول المرض كخذلان الجسد للروح.

بليني الأكبر (23-79 م): يظهر في مناقشة الألم الجسدي من منظور الطبيعة.

تيبيريوس قيصر: يُستشهد به في سياق العلاقة بين العمر والصحة، حيث قال إنه لا يجب على الشخص بعد الثلاثين أن يحتاج إلى طبيب.

8. شخصيات رمزية أو مجازية:

“سيف ديموقليس”: يستخدم كرمز للتوتر الدائم الذي يعيشه الإنسان تحت تهديد المرض.

الحصان الجامح: استعارة مجازية للجسد الذي يخرج عن السيطرة أثناء المرض.

ولعل استحضار هذه الشخصيات يساعد الكاتب على تقديم نظرة شمولية عن المرض، حيث يتنقل بين التجارب الشخصية لهؤلاء المفكرين والرؤى الفلسفية التي صاغوها. هذا التنوع يمنح الكتاب طابعًا فكريًا وإنسانيًا، حيث يظهر المرض كعنصر يربط بين التجارب الفردية والأسئلة الفلسفية الكبرى.


أخيرا وليس آخرا، كتاب “ساعات ديكارت رديئة الصنع” ليس مجرد تأملات فلسفية عن المرض، بل هو دعوة لفهم أنفسنا كبشر بشكل أعمق. ويعكس كيف يمكن للمرض أن يكون تجربة تحريرية وإبداعية، وكيف أنه جزء لا يتجزأ من دورة الحياة كسيف ديموقليس المسلط على رؤوسنا. وبفضل طرح الكتاب الفلسفي العميق والأسئلة التي يثيرها، يفتح بابًا جديدًا للتأمل في جوانب الحياة التي نميل إلى تجنبها، مما يجعله من الأعمال المهمة في المكتبة العربي الحديثة.

د. فهد توفيق الهندال

نشر المقال في جريدة أخبار الأدب المصرية 2 فبراير 2025

التصنيفات
مدونتي

هوبال.. المسير والمصير!

فيلم “هوبال” دراما سعودية أُنتجت عام 2024، من إخراج عبدالعزيز الشلاحي وتأليف مفرج المجفل. ويضم فريق العمل مجموعة من الممثلين البارزين والواعدين.

يتميّز فيلم “هوبال” بقصة عميقة تستعرض الصراع بين الإنسان والطبيعة، وكذلك الصراعات الداخلية للشخصيات. تدور أحداث الفيلم حول عائلة الجد “ليام”، الذي قرّر الانتقال إلى الصحراء ليعيش في عزلة مع أبنائه وأحفاده، سعيًا للهروب من ضوضاء المدينة وما يصفه بـ”ذنوب الحداثة”، والفكرة الشائعة باقتراب “أشراط الساعة” بعد الغزو العراقي للكويت في أغسطس ١٩٩٠.

يستخدم الفيلم هذا الإطار ليتناول مواضيع إنسانية واجتماعية تعكس تجربة البحث عن الطهارة والسكينة بعيدًا عن صخب العالم.
تبدأ قصة الفيلم حول القرار الغامض من الجد ليام بالابتعاد عن حياة المدينة، ويجبر عائلته على مرافقته إلى عمق الصحراء. وبينما يحاول الجميع التأقلم مع البيئة القاسية، تبدأ الخلافات بين أفراد الأسرة بالظهور. كل شخصية تحمل أعباءها وخلافاتها الداخلية، مما يضيف طبقات درامية معقدة. ومع مرور الوقت، يظهر أن الجد ليس مجرد رجل هارب من الواقع، بل هو شخص يبحث عن تكفير عن خطايا قديمة. ومن خلال بعض الحوارات والتلميحات، يكتشف المشاهد أن اختياره للعزلة له علاقة بحدث مأساوي من ماضيه، وهو ما يثير تساؤلات حول معنى الغفران والهروب من المسؤولية.

شخصيات الفيلم:
• الجد ليام: الشخصية المحورية، يمثل الحكمة الممزوجة بالعزلة. صراعه الداخلي بين ماضيه ورغبته في حياة نقية يجعل شخصيته عميقة وملهمة.
• سارة: زوجة الابن الأكبر، التي تمثل صوت العقل والواقعية في القصة. تعاني من صراع داخلي بين رغبتها في دعم العائلة وبين شكوكها حول قرار الجد.
• الأحفاد: يمثلون الجيل الجديد الذي يشعر بالضياع بين عالمين مختلفين: حياة المدينة المتحضرة وعزلة الصحراء القاسية. ويبرز هنا الحفيدان عسّاف وريفة، ولعل عسّاف يمثل الجيل الذي يتبع أثر الجيل السابق، بكل تناقضاته.
يمتاز الفيلم بالرمزية المكثفة التي تعكس صراعات إنسانية وجودية:
• الصحراء: تمثل العزلة والتنقية، لكنها أيضًا تعكس القسوة والخطر. الصحراء في الفيلم ليست مجرد مكان، بل هي شخصية بحد ذاتها، تختبر صبر العائلة وقوة روابطها.
• المدينة مقابل الصحراء: المدينة تمثل الحداثة والتكنولوجيا والذنب، بينما الصحراء ترمز إلى البساطة والطهارة، لكنها أيضًا مليئة بالمخاطر.
• الحيوانات البرية: تظهر في الفيلم كرموز للحرية والقوة، لكنها تعكس أيضًا التحديات التي تواجهها العائلة في التكيف مع الطبيعة، كما هي الجمال التي ينادونها ب (هوبال)، فهي تحمل قدرا من الطاعة والصبر على العطش، وربما الحقد على الواقع.
فيلم “هوبال” ليس مجرد دراما عائلية، بل هو عمل سينمائي يعكس قضايا إنسانية ووجودية، ويستحق أن يُشاهد بتأنٍ لفهم أبعاده الرمزية والفلسفية.

فريق العمل:
• إبراهيم الحساوي: قام بدور الجد “ليّام”، الشخصية المحورية التي تقود العائلة وتفرض عليها العزلة في الصحراء، وبقيت رمزية حتى في غيابها الغامض.
• مشعل المطيري: جسّد دور “شنار بن ليّام”، أحد أبناء الجد ليّام، يسير على خطى الأب ليّام في التشدد بالبقاء بالصحراء، مع جانب أناني انتهازي في قنص الفرص والمتع والذهاب للمدينة بحجة جلب الماء الذي يهرقه قبل أن ينفذ.
• ميلا الزهراني: لعبت دور “سرّا”، وهي شخصية الأم التي تهتم بأبنائها وتواجه تحديات الحياة في الصحراء.
• حمدي الفريدي: أدى دور “بتال بن ليّام”، أحد أفراد العائلة، شخصية تعيش واقعا مترددا بين الصحراء وطاعة الأب ليّام والمدينة حيث بنت مرزوق التي يهواها.
• دريعان الدريعان: قام بدور “سطّام بن ليّام”، أحد أبناء الجد ليّام، الذي ترك الصحراء،وذهب للمدينة ثم عاد طالبا الغفران قبل حلول نهاية العالم.
• عبدالرحمن عبدالله: جسّد شخصية “نهار بن ليّام”، أحد أفراد العائلة، الشخصية الغامضة والحمل الثقيل بما رمز إليه ارتدائه الفروة طوال الفيلم حتى لحظة ما.
• حمد فرحان: لعب دور “عسّاف”، الشاب الذي يسعى لإنقاذ ابنة عمه “ريفة” المصابة بالحصبة، ويمتلك قدرة على قص الأثر وأجوبة الأسئلة الصعبة.
• أمل سامي: أدت دور “ريفة”، ابنة العم المصابة بالحصبة، تمثل الحياة المثقلة والمحبوسة في الظل خوفا من الضوء بحجة المرض.
• فايز بن جريس: شارك في دور “ماجد” القصير.
• ريم فهد: لعبت دور “صيتة”.
• نورة الحميدي: جسّدت دور “الجدة نورة”، الشخصية الصلبة بعد الأب ليّام ومرشدة العائلة بعده.
• راوية أحمد: أدت دور “معتوقة”، الابنة التي احتضنتها وربتها نورة.
ويحسب للفيلم الكتابة العميقة لمفرح المجفل وتمكنه من لغة البيئة ومعتقداتها وأفكار شخصياتها. وما كان لهذه القصة أن تخرج لولا الرؤية البصرية المذهلة للمخرج عبدالعزيز الشلاحي في تقديم النص على مستويات اللقطات البانورامية، إلى جانب الموسيقى المؤثرة للفنانة سعاد بشناق التي تعتبر نصًا موازيا.

أخيرا .. يقدّم الفيلم تساؤلات فلسفية عميقة حول:
• هل يمكن للإنسان الهروب من ماضيه؟
• إلى أي مدى يمكن للعائلة أن تبقى متماسكة في وجه التحديات؟
• هل العزلة هي الحل لإيجاد السلام الداخلي، أم أنها هروب من الواقع؟

د. فهد توفيق الهندال

التصنيفات
مدونتي

مائة عام من العزلة.. تحدي الرواية والدراما

أصدرت منصة “نتفليكس” في ديسمبر 2024 مسلسل “مائة عام من العزلة”، المقتبس من رواية الكاتب العالمي والكولومبي الأصل غابرييل غارسيا ماركيز، بعد حصول “نتفليكس” على حقوق تحويل الرواية إلى مسلسل عام 2019، بمباركة من ورثة ماركيز، خاصة ابنيه رودريغو وغونزالو، اللذين شاركا كمنتجين منفذين.
تم تصوير المسلسل في كولومبيا، حيث بُنيت أربع نسخ من بلدة ماكوندو المُتخيّلة لتجسيد تطور الزمن عبر الأجيال.

تميّز العمل بميزانية ضخمة، تُعد من أكبر الميزانيات المخصصة لإنتاج غير أمريكي على المنصة. لهذا يُعد هذا العمل من أكثر المشاريع الطموحة للمنصة، حيث تم تصويره بالكامل في كولومبيا وباللغة الإسبانية، مع فريق عمل كولومبي، تماشيًا مع رؤية ماركيز الأصلية.
حصل المسلسل على تقييمات إيجابية من النقاد، حيث نال نسبة 94% على موقع “Rotten Tomatoes” ، إذ أشاد النقاد بالتمثيل، والإخراج، والقدرة على نقل روح الرواية إلى الشاشة، مع الحفاظ على عناصر الواقعية السحرية التي تميزت بها.
كما تميز المسلسل بأداء قوي من الممثلين الكولومبيين، خاصة مارليدا سوتو في دور أورسولا، وكلاوديو كاتانيو في دور أوريليانو بوينديا. ليتولى الإخراج كل من لورا مورا، الحائزة على جائزة “الصدفة الذهبية” في مهرجان سان سيباستيان السينمائي عام 2022، والأرجنتيني أليكس غارسيا لوبيز.
استطاع المسلسل تقديم عناصر الواقعية السحرية بمهارة، معتمدًا على المؤثرات البصرية الحية بدلاً من التكنولوجيا الرقمية، مما أضفى مصداقية وجمالية على المشاهد. على سبيل المثال، في مشهد سقوط الأزهار من السماء، تم استخدام أزهار حقيقية بدلاً من المؤثرات الرقمية.
وكما هو معروف، تعدّ رواية مائة عام من العزلة، التي صدرت عام 1967، من أعظم روائع الأدب العالمي، إذ تمزج بين الواقعية والسحر في سرد ملحمي لحياة عائلة بوينديا في قرية ماكوندو الخيالية. أما مسلسل “نتفليكس”، الذي تم إنتاجه في 2024، فهو محاولة طموحة لتقديم هذه الرواية المعقدة بصريًا إلى جمهور عالمي. فيما يلي مقارنة بين الرواية والمسلسل من عدة جوانب:
1. السرد:
اعتمدت الرواية على أسلوب السرد الشامل، حيث يروي غابرييل غارسيا ماركيز أحداث الرواية بلهجة شبه خرافية، ممزوجة بالواقعية السحرية. وجاء تسلسل أحداث الرواية بشكل دائري وغير خطي، مما يعكس فكرة الحتمية التاريخية والتكرار في حياة العائلة.
في حين اعتمد المسلسل على سرد خطي أكثر وضوحًا، ما يسهل على المشاهدين متابعة تطور الأحداث، خاصة مع تشابك الأجيال. كما حاول المسلسل الحفاظ على الواقعية السحرية، فإنه فقد أحيانًا العمق الفلسفي الذي تميز به السرد الأصلي، مما يبرهن على صعوبة تحويل السرد اللّفظي المكتنز بالمعنى إلى سرد بصري يعتمد الصورة في كثير من الجوانب.

2. الواقعية السحرية :
تعدّ الرواية المثال الأبرز للواقعية السحرية؛ حيث تم تقديم الأحداث الخارقة للطبيعة كجزء طبيعي من حياة الشخصيات. مثل صعود ريميديوس إلى السماء وسقوط الزهور من السماء تعكس السحرية بسلاسة دون تفسيرات.
ونقل المسلسل الواقعية السحرية باستخدام مؤثرات بصرية متقنة، مثل سقوط الأزهار أو المشاهد المرتبطة بشبح برودينثيو أغيلار.

3. الشخصيات:

تتيمز الرواية بكثرة الشخصيات التي تنتمي لعائلة بوينديا، مع تكرار الأسماء مثل أوريليانو وخوسيه أركاديو، مما يعكس موضوع التكرار والقدر. وتم تقديم الشخصيات بطريقة رمزية، بما تمثله من أفكار أو حالات إنسانية.
لذلك، قام المسلسل بتقليل عدد الشخصيات والتعمق في بعضها لتسهيل السرد البصري، مما جعل الشخصيات أكثر “إنسانية” وأقل رمزية. وتم تطوير بعض الشخصيات بشكل يختلف عن الرواية، مثل أورسولا، التي حصلت على دور أكثر تأثيرًا.

4. الحبكة:

جاءت الحبكة معقدة ومليئة بالتشابكات العائلية والأحداث العجائبية التي قد تربك القارئ أحيانًا. لتنتهي الرواية بنبوءة عن نهاية عائلة بوينديا، مما يعكس عبثية الجهد الإنساني.
في حين اختصر المسلسل بعض الأحداث وتجنب التكرار المبالغ فيه، لجعل القصة أكثر جاذبية للمشاهدين.
لتكون النهاية جاءت مشابهة للرواية، لكنها أقل حدة في التأكيد على الحتمية والزوال.

ولأن الرواية تعالج موضوعات كبرى مثل القدر، العزلة، الحتمية التاريخية، والاغتراب الإنساني وما طرحته من تساؤلات عميقة عن معنى الحياة ودورة الزمن، ركّز المسلسل على الشخصيات الرئيسية في الرواية متمثلة أولا بخوسيه أركاديو بوينديا مؤسس ماكوندو، القرية الخيالية التي تدور فيها أحداث الرواية. يمثل الطموح البشري والرغبة في الابتكار والاكتشاف. ولعل قراره بتأسيس القرية في منطقة مجهولة يعكس الروح الريادية التي تحاول تحدي المجهول. كذلك اهتمامه بالعلوم والخيمياء، بالتعاون مع الغجري ميليسيديس، يظهر بحثه المستمر عن الحقيقة والخلود، رغم أنه يقوده إلى الجنون في النهاية.
ولعل خوسيه أركاديو يمثل الحلم الإنساني الطموح الذي ينهار تحت وطأة العزلة والهوس. عزلته الجسدية والعقلية في نهاية حياته تجسد فشل الإنسان في مواجهة عبثية العالم.
أما شخصية الأم أورسولا إيغواران، فقد مثلت رمز الثبات والحكمة في دورها كعمود للعائلة، وهي الشخصية الأكثر ثباتًا واستمرارية في الرواية، حيث تعيش عبر أجيال متعددة. كرمز  للقيم التقليدية والأخلاقية التي تحاول توجيه العائلة وحمايتها من الانهيار. ولعل دورها في إدارة شؤون الأسرة والاقتصاد يجعلها القوة الحقيقية وراء استمرار عائلة بوينديا، رغم كونها أمية، إلا أنها تتميز ببصيرة عميقة وقدرة على استشراف مصير عائلتها. تحذر من تكرار الأخطاء، لكنها ترى تلك الأخطاء تتكرر جيلاً بعد جيل. لتمثل أورسولا الحكمة التقليدية والصمود الإنساني في مواجهة الحتمية التاريخية. حياتها الطويلة تعكس محاولتها عبثًا كسر دورة الزمن والقدر.
الشخصية الثالثة، الابن الثاني أوريليانو بوينديا، رمز الصراع والانعزال، ويُعد أحد أكثر الشخصيات تعقيدًا في الرواية.
ليتحول من شاب حالم إلى قائد عسكري يخوض 32 حربًا أهلية، لكنه يفشل في تحقيق أهدافه.ليمثل الوجه السياسي للرواية، حيث يعكس الصراعات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها أمريكا اللاتينية. وبالرغم
من شهرته كقائد، يعيش أوريليانو عزلة داخلية عميقة. فهو دائمًا بعيد عن عائلته ومجتمعه، ويبدو وكأنه يسعى للهرب من ذاته. وكأن أوريليانو رمز العبثية في السعي وراء السلطة والمعرفة. يصنع أسماكًا ذهبية خلال عزله، في إشارة إلى عدم جدوى جهوده وخيبات أمله.
تكمن العزلة في رواية مائة عام من العزلة في عدة مستويات، وهي ليست مجرد حالة فيزيائية أو اجتماعية، بل تمتد إلى عمق نفسي وفلسفي يشمل الشخصيات، العائلة، والمجتمع ككل. غابرييل غارسيا ماركيز يعالج مفهوم العزلة باعتباره جزءًا أساسيًا من الطبيعة الإنسانية والحياة. فماكوندو تمثلت رمزا للعزلة الاجتماعية والجغرافية والتاريخية. إذ بقيت معزولة عن العالم الخارجي في بدايتها، ولا تتواصل مع الحضارة إلا من خلال الغجر والتجار. ومع مرور الزمن، أصبحت القرية مرهونة للصراعات السياسية والأزمات، لكنها تفقد هويتها وتُنسى في النهاية، حيث تصل العزلة الاجتماعية ذروتها عندما تفقد القرية سكانها وتتلاشى تدريجيًا، معبرة عن انهيار المجتمع. وأن العزلة ليست فقط حالة شخصية أو اجتماعية، بل هي مصير محتوم لكل من يحاول كسر قيود الزمن والقدر، مما يجعل الرواية تأملًا عميقًا في عبثية السعي الإنساني كما صوّرها ماركيز. من أجل ذلك، جاءت رؤية المخرج البصرية للرواية معتمدة على المزج بين الواقعية والسحر، مع احترام العناصر الرمزية للرواية. فاستُخدمت تقنيات سينمائية متطورة لتقديم ماكوندو كعالم نابض بالحياة، لكن في نفس الوقت يكتنفه الغموض والقدرية. وربما نجح المسلسل في تقديم تجربة بصرية غنية تُبرز روح الرواية، مع الحفاظ على توازن دقيق بين العناصر الأدبية والمرئية. وهو ما يشكّل تحديا كبيرا للمشاريع الروائية المطروحة على طاولة التجريب الدرامي، إن كانت ستمثّل الرواية المُختارة ساحةً خصبة للتخييل الدرامي أم صدمة على سطحية العمل الروائي نفسه!

فهد توفيق الهندال