لاحظت في معرض الكتاب هذا العام، حضور عدد من الكتّاب بشكل يومي إلى مقر دور نشر كتبهم، في سبيل التحاور مع القراء حول أفكارهم في اصداراتهم. وهنا، قد يعتقد رأي أن وظيفة الكاتب الكتابة فقط وليس التسويق لكتبه، ويعتقد الرأي الآخر أن ذلك ليس نقصا من مكانته ولا خروجا عن دوره ككاتب، بل استكمالا لوجوده ودعما لكتبه.
قديما، يُعدّ الجاحظ واحدًا من أوائل الأدباء الذين فهموا أن النصّ وحده لا يكفي، وأن الكاتب لا بدّ أن يعرّف الناس بمشروعه الفكري. فلم يكتفِ الجاحظ بتأليف كتبه، بل كان يسعى لنشر أفكاره بشتى الوسائل المتاحة في عصره. فكتب الرسائل، وناظر، وجلس في الأسواق، وقدّم كتبه للوجهاء والأمراء، بل شرح لماذا كتب هذا وذاك، وما الهدف منه، وكيف ينبغي للقارئ أن يتلقاه. كان واعيًا بأن الأدب يحتاج إلى حضور صاحبه. من أشهر الأمثلة أنه كتب مقدّمات طويلة لعدد من كتبه يبرّر فيها اختياراته ويعرض رؤيته ويخاطب القارئ مباشرة، وكأنه يقول:
“أنا هنا لأقدّم أدبي، ولأكون مقدمته الأولى.”
وقد ساهم هذا الأسلوب في انتشار كتبه في أرجاء العالم الإسلامي، حتى قيل إن كتبه كانت تُنقل على ظهور الجمال من بغداد إلى مصر والأندلس.
وقبل الجاحظ بقرون، أدرك النابغة الذبياني أن الشعر يحتاج إلى صوت صاحبه. إذ كان يدخل سوق عكاظ ويقرأ شعره بنفسه، يتحدّث عنه أمام القبائل، ويشرح معانيه ويدافع عن قصائده.
لم يكن شاعرًا صامتًا، بل كان واجهة شعره، واعيًا بأن القصيدة تكتمل حين يسمع الناس صاحبها ويعرفون ملامحه وقصته.
ولهذا صار اسمه رمزًا للفصاحة، تتناقله الأجيال.
وفي تجارب كبار الكتّاب بعد قرون ما يؤكد هذه الحقيقة.
فشارلز ديكنز رائد “الجولات القرائية”، كان يسافر لقراءة فصول من كتبه أمام الجمهور، وبيعت بفضله طبعات هائلة من رواياته.
واستفاد جورج برنادشو من المسرح والصحافة ليشيع أفكاره، ويجعل كتبه جزءًا من الجدل العام، مما زاد انتشارها.
عربيا، نجد جبران خليل جبران الذي روّج لأعماله عبر المحاضرات في بوسطن ونيويورك، ومن خلال “الرابطة القلمية”. كان يكتب رسائل مفتوحة ويشارك القراء مراحل كتابة.
ولم يكتف عميد الأدب العربي طه حسين بالكتابة، بل قدّم نفسه محاضرًا ومحاورًا وناقدًا، فلم يعتمد على نصوصه وحدها، بل استخدم الصحافة، والمحاضرات، والبرامج الإذاعية لينشر أفكاره. كان يتحدث عن كتبه قبل صدورها وبعدها، ويشرح رؤيته ويناظر، فصار اسمه مرادفًا للنهضة وأدبها.
ونجيب محفوظ، رغم هدوئه وطبعه المتحفظ، ظل حاضرًا حين يستدعي الأمر، يمهّد لأعماله بالحوار والتفسير ويتيح للقارئ فرصة الاقتراب من عالمه السردي.
وفي الخليج، نجد غازي القصيبي نموذجًا للأديب الذي حمل مشروعه بوضوح، وكتب عنه، وتحدّث بشأنه، وخلق سياقًا يعرّف القراء بما يريد قوله قبل أن يقولوه هم عنه.
كذلك أمين معلوف الذي يدرك دائمًا أن الكتاب حين يُطلق إلى العالم يحتاج إلى ضوء مرافق يوضّح مساره ويهيّئ قارئه.
ولا يختلف المشهد عالميًا. فعلى الرغم من ندرة ظهور هاروكي موراكامي، إلا أنه حين يصدر عملًا جديدًا يتحدث عنه بعمق، ويكتب يومياته عن الكتابة، ويهيئ جمهوره للدخول إلى عالمه. بينما جعل باولو كويلو من التواصل الإجتماعي جسرًا يصل به إلى قرّائه ومعجبيه. هؤلاء لم يكونوا مؤثرين، بل كانوا أصواتًا واقعيّة لمشاريع ملموسة.
إذن، لم يعد بالإمكان اليوم أن يكتفي الكاتب بالانعزال والاكتفاء برمي نصّه في البحر منتظرًا قارئًا يصله صدفة. فالعلاقة بين الأدب وجمهوره تغيّرت؛ فالنصّ مهما كان راسخًا وعميقًا يحتاج إلى من يقدّمه ويهديه إلى الناس. والدعوة هنا إلى أن يكون الأديب واجهة مشروعه لا تعني أن يتحول إلى “بلوغر” أو “إنفلونسر”، بل أن يعي أن مشروعه الإبداعي يحتاج إلى حضور يليق به وأن صوت الكاتب هو الامتداد الطبيعي لصوت النص.
هذه التجارب ليست ترفًا بل ضرورة. ففي عالم يزدحم بالأصوات والاهتمامات، يصعب على النصّ أن يعلن عن نفسه وحده. والكاتب الذي يتوارى خلف العزلة يترك نصوصه وحيدة في زحامٍ لا يرحم. ليس المطلوب أن يبحث عن الشهرة، ولا أن يركض خلف “الترند”، بل أن يمنح مشروعه الحد الأدنى من الحضور الذي يسمح للقارئ برؤية ما يكتبه حقًا. فالقارئ يريد أن يشعر بأن هناك إنسانًا يقف خلف النص، صاحب رؤية وملامح وتجربة، لا مجرد كتابٍ صامت على رفّ بارد.
إن الكاتب الذي لا يقدّم نفسه يترك الباب مواربًا، ويعرض مشروعه لأن يضيع بين الأعمال المتراكمة. والكتابة اليوم ليست مجرد نصّ، بل مشروع حياة يحتاج إلى حضور صاحبه. ولعل أجمل ما في الأمر أن هذا الحضور لا يتطلب ضجيجًا، بل يكفيه أن يكون صادقًا، متوازنًا، متسقًا مع روح النصّ.
وهكذا يصبح الأديب واجهة أدبه ليس لأنه يسعى إلى الضوء فحسب وهذا حقّه، بل لأن العمل الجيد يستحق من يحمله إلى الضوء. فالنصّ الذي لا يجد من يعرف الناس به، كثيرًا ما يظل مختبئًا في الظل ولو كان عظيمًا. ويبقى الكاتب، في نهاية الأمر، هو الجسر الذي تعبر عبره كتبه إلى قلوب القراء.
د. فهد توفيق الهندال




