التصنيفات
مدونتي

وجوه صاحبة الجلالة

بدأت قبل مدّة بقراءة رواية «سبعة» للأديب الراحل غازي القصيبي، فشدّتني منذ الصفحات الأولى بسردها الهادئ الذي يُخفي وراءها اضطرابًا إنسانيًا عميقًا. في رواية القصيبي، تتقاطع سبعة وجوه بين الخطايا والأوهام، لكن الوجه الذي ظلّ راسخًا طويلاً كان وجه الصحافي مسعود أسعد.
إذ يمشي مسعود في دهاليز المهنة كمن يسير في متاهة من المرايا، يرى في كل انعكاس ملامحه تتبدّل. فلم يقدّمه القصيبي كخائن للمهنة، بل ككائن يُهزم ببطء، كمن يكتشف أن الكلمة قد تُشترى في الطريق قبل أن تصل إلى الورق. يظهر التردّد في لغته مثل نَفَسٍ متقطّع بين جملٍ طويلةٍ مثقلةٍ بالضمير. فليس مسعود أسعد مجرد رئيس تحرير صحفي، بل هو ضمير يتعلّم الخيانة على مهل، فيتحول صوته من نبرة البحث عن الحقيقة إلى البحث عن الفضيحة، كما لو أنه فقد صلته الأولى بالنار التي أوقدته.
أثناء قراءة الرواية، تذكرت مشاهدتي  لفيلم The Post كنموذج آخر لمهنة المتاعب، إذ لم يصوّر ستيفن سبيلبرغ غرفة التحرير كمكانٍ عادي، بل كخيمةٍ عسكريةٍ يخوض فيها الصحافيون حربًا بوسائل الورق والحبر. الضوء هنا بطلٌ موازٍ؛ يتسرّب من النوافذ على الوجوه المتوترة كأنه يُنقّب عن الحقيقة في العتمة.
فكاثرين غراهام، التي أدّت دورها ميريل ستريب، ليست ناشرة فحسب، بل امرأة تواجه عالم الرجال لا بالسلاح بل بالكلمة، امرأةٌ تتعلّم في منتصف العمر أن الشجاعة قد تأتي متأخرة لكنها تأتي مكتملة. خلفها مجلس إدارة من الرجال يتصارعون بين فكرة النشر كوسيلة ربح، أو الابتعاد عن أي خسارة محتملة بسبب النشر أيضا. ولعل شخصية بن برادلي التي أدى دورها توم هانكس في حماسها لنشر أكاذيب الحكومة الأمريكية حول حرب فيتنام، هي أقرب من مسعود أسعد في السعي نحو المجد الشخصي لا المهني.
مقابل شخصيتي مسعود أسعد و بن برادلي، استدعيت من ذاكرتي شخصية محفوظ عجب في رواية «دموع صاحبة الجلالة» للكاتب موسى صبري، فمحفوظ هنا  ليس فارسًا يطارد الحقيقة، بل صيّادًا يترصّد ثقة الآخرين به، بحثا عن القمة والسلطة، متسلقًا مستغلًا كل فرص ذلك حتى لو كلفه ذلك خيانة ثقة آمال صدقي، زميلته الأقرب، من ساعدته في بداية مشواره، من أظهر لها الحب وأضمر مصلحته وراء ذلك.
ليقف على حافة الأضواء أو الهامش، ولا يعرف أيّهما يخصّه أكثر. فهو الوجه الذي خسر المعنى حين صار للمعنى ثمن.
بين تلك الوجوه، يقف مسعود أسعد في المسافة البينية. فلا مثالية The Post السينمائية، ولا واقعية دموع صاحبة الجلالة الدرامية. هو مجرّد إنسانٍ يحاول أن يكتب بمهنية في زمنٍ يبيعها بالعناوين. ففيه طموح  كاثرين غراهام حين تكتشف أن الكلمة قد تكلّف إمبراطورية، وفيه أنانية بن برادلي،  وقسوة محفوظ عجب حين يكتشف أن الصعود لعرش صاحبة الجلالة أكثر ربحًا وأغلى من دموعها.
جاءت شخصية مسعود أسعد مكتوبة بلغةٍ تقترب من لغة اعتراف جمعي، إذ يذوب الحوار في التأمل، وتمشي الجملة على نصل الحقيقة. ليجعل منها القصيبي صوتًا داخليًا للرواية، كأنّ كل الشخصيات الأخرى وجوها له أو احتمالاتٌ لنجاته.

د. فهد توفيق الهندال

أضف تعليق