في حوار مسجّل ومصوّر بين المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد وبعض السيدات الفلسطينيات، وسؤاله لهن: ” هل يجب أن يحبّنا الغرب؟” فردت احداهن بكل عفوية: “ولماذا لا يحبّونا مثل ما يحبوا الاسرائليين ويدعموهم لقتلنا”!
من فجر الصراع العربي الصهيوني، لم تكن المعركة حول فلسطين عسكرية أو سياسية فحسب، بل وأصبحت اليوم معركة مصير سرديات قديمة وأخرى جديدة، في من يملك الحق في رواية التاريخ؟ ومن يملك سلطة تعريف الأرض والهوية؟
لقد استخدمت الحركة الصهيونية منذ بداياتها خطابًا تاريخيًا وأثريًا لتبرير «حق مزعوم» في الأرض، معتمدة على إعادة تفسير النصوص الدينية، والبحث الأثري الانتقائي، وصناعة صورة الفلسطيني بوصفه غائبًا أو عابرًا. هذه ليست أخطاء عابرة، بل بروباغندا معرفية ممنهجة.
ويمكن العودة لكتاب (اختلاق اسرائيل القديمة واسكات التاريخ الفلسطيني) للايرلندي كيث وايتلام. للوقوف على الاساطير القديمة والسياسات الحديثة التي دعمت ذلك الاختلاق.
لكن المفارقة أن كشف هذا «الاختلاق» لا يجب أن يقود إلى بروباغندا مضادة، بل يمكن توظيفه بشكل علمي وأخلاقي لبناء رواية فلسطينية راسخة وموثوقة.
كيف ذلك؟
يمكن ذلك بتحويل النقد إلى أدلة في الكتب والدراسات التي تكشف التلاعب بالتاريخ (مثل كتاب اختلاق إسرائيل القديمة) تقدّم مادة ثمينة. بدل الاكتفاء بالاحتجاج بها، يمكن تلخيصها بلغة مبسطة، ترجمتها وتعميمها، وهو ما استفادت منه الأجيال الجديدة في استعمالها في،وسائل التأثير الاجتماعي العالمية، واستخدامها في المحافل الحقوقية والإعلامي. مما أثّر في وعي شعوب العالم، التي،بدورها دفعت حكوماتها للاعتراف بالدولة الفلسطينية وحق شعبها بالحياة والسيادة والاستقلال.
إن إعادة سرد التاريخ من الداخل ليس كافياً لتفنيد سرد الآخر، بل يجب تقديم سرد فلسطيني أصيل، كشهادات أهل الأرض، الوثائق العائلية، الأسماء، الحكايات، الذاكرة الشعبية، الأدب، العمارة و كل ذلك يثبت استمرارية الوجود الحضاري، وبلغات العالم المختلفة.
كذلك، ربط الأدلة بالوجدان، لكون العالم لا يقتنع بالأرقام فقط، بل بالقصص، وهو ما استفادت منه القضية الفلسطينية أثناء حرب الابادة الحالية، بأن تمتزج الحقائق التاريخية بلغة إنسانية وفنية، مثل: (أفلام، روايات، معارض، وثائقيات) تُظهر فلسطين كحياة نابضة، ومصير شعب، لا كملف سياسي جامد.
مع مخاطبة العالم بلغته، من خلال استخدام مصطلحات مثل حقيقة الاستعمار الاستيطاني وابادته المستمرة بمحو الأجيال وذاكرتها، وتسييس الآثار الانسانية. ولعل هذا يضع القضية في إطار حقوقي عالمي مفهوم، ويُخرجها من خطاب الصراع الديني أو القومي الضيق.
وتحويل المسار من الدفاع إلى المبادرة، بدل الرد الدائم على رواية الآخر، يمكن امتلاك زمام المبادرة، بنشر دراسات، إطلاق مشاريع أرشيفية، تنظيم معارض، تقديم ملفات قانونية، أي الانتقال من موقع “الضحية” إلى موقع “المنتج للمعرفة”.
إن كشف اختلاق إسرائيل للسرد التاريخي ليس غاية بحد ذاته، بل فرصة لبناء خطاب فلسطيني وقومي أكثر فاعلية يجمع بين الدليل العلمي والرمزية الثقافية والشرعية القانونية.
فالقوة الحقيقية لا تأتي من فضح الكذب فقط، بل من بناء حقيقة واضحة، موثقة، وجذّابة إنسانياً.
هذا هو مسار التأثير العميق. وهذا ما يصنع الذاكرة التي لا تُمحى أبداً.
د. فهد توفيق الهندال



هروب
