يشكّل إدوارد سعيد أحد أبرز أعلام النقد الثقافي في القرن العشرين. فمنذ كتابه الأشهر الاستشراق (1978) وحتى الثقافة والإمبريالية (1993)، فتح سعيد الباب أمام جيل كامل من الدراسات التي أعادت النظر في علاقة الثقافة بالسلطة، وفضحت كيف شكّلت المعرفة الأوروبية عن الشرق والعالم الثالث أداة من أدوات الإمبراطورية.
غير أن إسهامه الأكبر تجلّى في صياغة مفهوم الخطاب الإمبريالي، باعتباره نسقًا معرفيًا ولغويًا وأدبيًا منح المشروعية الثقافية للاستعمار الغربي.
1. مفهوم الخطاب الإمبريالي
ليس الخطاب عند سعيد مجرد كلمات، بل بنية فكرية وثقافية تتجاوز النصوص لتؤسس رؤية للعالم. الإمبراطورية الغربية لم تعتمد فقط على المدافع والبوارج، بل على الرواية، الشعر، الفلسفة، والعلوم الإنسانية التي أعادت إنتاج صورة “الآخر” كموضوع للهيمنة. بذلك يصبح الأدب الغربي – من جين أوستن إلى جوزيف كونراد – جزءًا من آلة الاستعمار، وإن بدا للوهلة الأولى محايدًا أو إنسانيًا.
2. الأدب كمرآة للإمبراطورية
في رواية مانسفيلد بارك لجين أوستن، يظهر ذكرٌ عابر لمزارع السكر في أنتيغوا، وهي المزارع التي قامت على استغلال العبيد. هذا الحضور الصامت يفضح كيف كانت الإمبراطورية متجذرة في تفاصيل الحياة الأدبية اليومية.
وفي قلب الظلام لكونراد، نجد نقدًا أخلاقيًا للاستعمار، لكن من داخل مركزية أوروبية ترى أفريقيا كـ”فراغ مظلم”، وتُغيب أصوات أهلها.
ويبرهن سعيد أن الأدب الغربي هو نص إمبريالي بامتياز، ليس لأنه يمجّد الاستعمار دائمًا، بل لأنه يرسّخ مركزية أوروبا في تمثيل العالم.
3. الثنائية الحضارية: “نحن” و”هم”
يقوم الخطاب الإمبريالي على تقسيم حاد:
“نحن” الغرب: العقلانية، التقدّم، النظام.
“هم” الآخرون: العاطفة، البدائية، الفوضى.
هذه الثنائية ليست بريئة، بل هي آلية أيديولوجية لتبرير السيطرة. فالشرق، في المخيال الغربي، يحتاج إلى “وصاية” أوروبية، ما يجعل الاحتلال فعلًا “حضاريًا” في نظر الأوروبي.
4. المقاومة الثقافية وإعادة الكتابة
إدوارد سعيد يرفض أن يكون المثقف مجرد قارئ خاضع. بل يدعو إلى قراءة مضادة تكشف آثار الاستعمار في النصوص الأدبية والفكرية، وتعيد سرد التاريخ من منظور الشعوب المستَعمَرة.
من هنا تأتي أهمية ربط الأدب الغربي بأدب المقاومة في فلسطين والهند وأفريقيا، حيث يصبح الكتابة نفسها فعلا مقاوما.
5. الامتداد المعاصر للخطاب الإمبريالي
يحذر سعيد من الاعتقاد بأن الخطاب الإمبريالي انتهى بانتهاء الاستعمار الكلاسيكي. بل هو يعيد إنتاج نفسه اليوم عبر:
– وسائل الإعلام الغربية التي تهيمن على تمثيل العرب والمسلمين (خصوصًا بعد 11 سبتمبر).
– الخطاب الأكاديمي في الجامعات الغربية.
– السينما والأدب الحديثين.
بذلك، فإن المعركة مع الإمبريالية مستمرة ثقافيًا، وإن تغيّرت أدواتها.
هكذا، فإن الفكر العربي النقدي وجد في سعيد مرجعية عالمية، وفي الوقت نفسه قدّم مقاربات محلية أكثر التصاقًا بالسياق العربي. ويمكن قراءة مشروع سعيد بوصفه تفكيكًا لمفهوم الحقيقة الكونية في الفكر الغربي. فالخطاب الإمبريالي ادّعى امتلاك الحقيقة حول “العالم الآخر”، بينما في جوهره هو خطاب قوة. وهنا يلتقي مع فوكو في ربط المعرفة بالسلطة، لكنه يذهب أبعد بالتركيز على الاستعمار كتجسيد لهذه العلاقة.
إذن، الخطاب الإمبريالي الذي حلّله إدوارد سعيد ليس مجرد دراسة أدبية، بل مشروع تحرري يسعى إلى إعادة كتابة العلاقة بين الثقافة والسلطة. وهو مشروع ما يزال حاضرًا اليوم في مواجهة الصور النمطية والعنف الرمزي الذي تمارسه وسائل الإعلام والسياسة العالمية على الشرق والعالم العربي.
لإن مقاومة الاستعمار – كما يقول سعيد- لا تبدأ بالبندقية، بل تبدأ بـ الكلمة، وبفضح كيف صيغت الحكاية ومن يملك حق روايتها.


