في أطروحته المثيرة للجدل عن الحداثة السائلة، ذكر المفكر البولندي زيغمونت باومان، أن العلاقات والقيم باتت هشة وسريعة الزوال. الشهرة المفبركة هنا تجسيد مباشر لهذه “السيولة”، فهي شهرة لحظية، بلا جذور، تختفي بمجرد أن يظهر مشهد آخر أكثر جاذبية.
في عالم اليوم، إذ تتحوّل الهواتف إلى منصّات عرض، وتختصر العدسات الرقمية الطريق إلى قلوب الجماهير، صار حبّ الشهرة هوسًا متفشّيًا لدى كثيرين. لم يعد يكفي أن يكون الإنسان موهوبًا، أو صاحب فكرة لامعة، أو حتى ذو تأثير حقيقي في محيطه، بل بات بعضهم يلجأ إلى صناعة المواقف المفبركة واللحظات المصطنعة لاقتناص لفتة إعجاب، أو “إعجاب”.
لم يعد مفهوم الشهرة، في زمن التواصل الاجتماعي، مرتبطًا بالمنجز الفكري أو الإبداعي أو الإسهام المجتمعي الحقيقي. بل تحوّل – في كثير من الحالات – إلى مسرح من المواقف المصطنعة والمشاهد المفبركة التي تُدار بعناية لتثير تعاطف الجمهور أو إعجابه. إننا أمام تحوّل خطير: من الشهرة بوصفها نتيجة طبيعية لعمل حقيقي، إلى الشهرة باعتبارها سلعة يمكن صناعتها والتسويق لها، بل وبيعها مقابل هدايا ودعوات مجانية.
المواقف التي نراها يوميًا على منصات التواصل لا تخلو من مشاعر، لكنها مشاعر محسوبة ومصوّرة، تخضع لقوانين الإخراج أكثر مما تخضع لصدق العفوية. تقديم مساعدة لمحتاج، مفاجأة أحد الوالدين، أو القيام بعمل خيري، كلها أفعال نبيلة، لكنها حين تُعاد مرارًا أمام الكاميرا، وتُزيَّن بمؤثرات بصرية وصوتية، فإنها تتحول إلى عرض استهلاكي يفقد جوهره الأخلاقي.
في هذا السياق الجديد، أصبحت الشهرة عملة لها مقابل مادي مباشر: وجبات مجانية من المطاعم، إقامات فندقية، منتجات تُهدى مقابل “منشور”، ودعوات حصرية إلى فعاليات. بهذا، يغدو المؤثر جزءًا من اقتصاد تجاري يقوم على استثمار صورته، لا على قيمة حقيقية يقدّمها. إننا أمام تبادل واضح، مشهد مصطنع يولّد شهرة، والشهرة تستجلب الهدايا والامتيازات.
غير أن الثمن الأكبر يُدفع في مستوى القيم. إذ تتعرض القيم الإنسانية الأساسية – كالكرم، والإيثار، والتعاطف – لخطر التشويه، حين تتحول إلى أدوات للتسويق، أو تُستثمر كوسائل لتحقيق مكاسب آنية. هنا يفقد الفعل الأخلاقي أصالته، وتصبح النية الصادقة مشكوكًا فيها. ومع الزمن، قد ينشأ جيل ينظر إلى العطاء بوصفه مشهدًا إعلاميًا، لا التزامًا إنسانيًا.
الفارق الجوهري بين الشهرة المفبركة والشهرة الحقيقية يكمن في الصدق والاستمرارية. الأولى سريعة الزوال، مثل ومضة فلاش تنطفئ بمجرد انتهاء العرض، أما الثانية فتنمو ببطء، لكنها تترسخ في الوعي الجمعي بفضل أثرها العميق. إن المجتمعات التي تنساق وراء مشاهد مصطنعة، تُخاطر بأن تُربّي أبناءها على قيم وهمية، بينما المجتمعات التي تحتفي بالفعل الحقيقي، تُرسّخ نموذجًا إنسانيًا أصيلًا.
د. فهد توفيق الهندال

