في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن العشرين، عقدت في الكويت ندوة بعنوان ( ندوة الفكر العربي المعاصر)* في أكتوبر من العام 1997. أتذكر الندوة بكل تفاصيلها، الأوراق المقدمة والمداخلات والمشاحنات التي رافقتها، في حدث استثنائي لأهمية الأسماء المشاركة، والمحاور الفكرية الجريئة التي تضمنتها، فكانت حدثا ثقافيا استثنائيا وقتها، ووعيا ناضجا بالثقافة العربية وروادّها.
استمرت الندوة لمدة أربعة ايام على فترتين، وشارك فيها عدد من المثقفين والمفكرين العرب، عولجت فيها ثلاثة محاور أساسية هي:
المحور الأول: “اتجاهات الخطاب الفكري العربي المعاصر: تقييم نقدي” ، وتوزع على خمسة أبحاث هي:
1- الاتجاه السلفي، قدمها: د. حيدر ابراهيم، د. سليم العوا، د. فهمي جدعان، د. رضوان السيد. 2- الاتجاه الليبرالي، قدمها: د. علي الدين هلال، د. عبد الخالق عبدالله، المستشار طارق البشري، د. جابر عصفور. 3- الاتجاه القومي، قدمها: د. علي حرب ود. علي اومليل. 4- الاتجاه التوفيقي، قدمها: د. محمد جابر الأنصاري ود. ناصيف نصار. 5- الاتجاه الماركسي، قدمها: شوقي جلال وأحمد الديني.
وتضمن المحور الثاني: “إشكاليات الفكر العربي المعاصر: تقييم واستشراف”، ضمت اربعة أبحاث هي:
1- التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية وانعكاساتها الفكرية، قدمها: د. محمد السيد سعيد ود. باقر النجار. 2- اشكاليات الفكر العربي المجتمعية والسلطوية، قدمها: د. خلدون النقيب ود. أحمد أبو زيد. 3- الفكر العربي والجماهير (إشكالية النخبة)، قدمها: د. تركي الحمد ود.فؤاد زكريا. 4- الفكر العربي بين النظرية والواقع، قدمها: د. محمود أمين العالم وأياد مدني.
في حين جاء عنوان المحور الثالث: “استشراف المستقبل”، وتضمن العناوين:
1- الفكر العربي والزمن: أين نحن من نهضة مطلع القرن، قدمها: د. السيد يسين ود. الحبيب الجنحاني. 2 -الفكر العربي والمستجدات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية في العالم، قدمها: د. اسماعيل صبري عبدالله ود. رمزي زكي. 3- الفكر العربي وجدلية التقدم والتأخر، قدمها: جورج طرابيشي ود. محمد الرميحي.
تخيّل معي هذه الأسماء الجليلة والأوراق التي قدموها، والأفكار التي طرحت، وأثارت الحوار والنقاش والجدل والخلاف حولها.
وقد نشرت الأوراق في عدد يناير من مجلة عالم الفكر العام 1998.
وجدير بالذكر، أنه سبق الندوة بعامين عددٌ خاص من المجلة العربية للعلوم الإنسانية الصادرة عن جامعة الكويت بالتعاون مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن ندوة نُظمت في عنوان مشابه، تناولت بعض المواضيع مبكرا قبل عقد الندوة، وهو أمر لا ننتقده، بل نشيد به كثيرا لكونه من جهة أكاديمية كجامعة الكويت مما يوضح دورها الطليعي آنذاك في طرح هذه القضايا. فلا ضير بأن تكمل الندوات مشاريع بعضها البعض، على خلاف اليوم. إذ أن هناك الكثير من الندوات الثقافية العربية التي تُطرح فيها عناوين كبرى برّاقة ومثقلة بالمصطلحات، لكن حين يُرفع الستار، سرعان ما نكتشف أن العنوان أكبر من المتن، وأن الطرح يراوح مكانه بين التعميم والإنشاء، دون تفكيك حقيقي، بل مجرد نسخ للمفاهيم، بلا مواجهة صادقة للأسئلة. ناهيك عن تكرار الأسماء، مما يفيد ثبات الآراء والأفكار دون تجديدهما.
سنحاول أبراز ملامح الخلل، وهي:
1. التهويل المفاهيمي:
كثير من العناوين توظّف مصطلحات فلسفية أو فكرية معقدة، لا يتم تفكيكها داخل الجلسات، وكأنها ديكور خطابي لشدّ الانتباه لا أكثر، وكأن عناوين الأوراق اجتمعت واتفقت على ذات العنوان!
2. التكرار والتدوير:
نفس العناوين تعود كل عام، بصياغات مختلفة، ولكن بالمحتوى ذاته، دون طرح جديد أو زوايا مغايرة.
3. الانفصال عن الواقع:
الندوات تناقش “الهوية” أو “ما بعد الحداثة”، بينما لا علاقة لها بتجربة المتلقي أو المبدع اليوم، ولا تقدّم توصيات أو حلول قابلة للتنفيذ.
4. غياب سؤال “لماذا؟”
إذ تُطرح العناوين من أجل الندوة، لا من أجل حاجة فكرية أو جدل مجتمعي حقيقي، فتغيب الأسئلة الجذرية وتحضر الشعارات.
5- عدم التنسيق بين الجهات المنظمة، بحيث تكون الندوات أشبه بسلسلة فكرية، تكمل بعضها البعض، وليس تغريدا في كل عنوان يهيمون، المهم سد ثغرة جدول، دون بحث في أرشيف الندوات ومحاولة امساك خيط ما من ندوة سابقة، ليكون أساس أخرى لاحقة.
نحن لا نرفض العناوين الكبرى بذاتها، بل ننتقد تحويلها إلى قوالب بلاغية فارغة بدل أن تكون مداخل لمساءلة الواقع وتوسيع أفق الفهم. فالعنوان، في الندوة كما في النص، يجب أن يكون وعدًا بالمضمون. لا بديلاً عنه.
*نقلت تفاصيل الندوة من جريدة السفير اللبنانية عدد 7834 بتاريخ 1997-10-29
د. فهد توفيق الهندال
#نقد_ثقافي #الندوات_الثقافية #خطاب_ثقافي #العناوين_الكبرى #فكر_نقدي


