التصنيفات
مدونتي

Adaptation or Remake !

خيانة الأصل، أم الاختباء في الظل!

“كل نص جديد هو قراءة لنص سابق، وإعادة كتابته هي إعادة تأويله.”

جيرار جينيت، في كتابه “عتبات النص”

 

في النقد الفني والأدبي، لا يعدّ الاقتباس مجرد “نقل” من وسيط لآخر، ولا تُعدّ إعادة الإنتاج مجرد “نسخة مطورة” من عمل كلاسيكي. بل كلاهما ينتمي إلى فعل مركّب يقوم على القراءة، والتأويل، وإعادة البناء.

هنا، يبرز تساؤل أساس، هل تظل الأعمال الجديدة ظلالًا للنصوص السابقة، أم أنها تثمر تخييلات جديدة تستحق أن تُقرأ بوصفها كيانات مستقلة؟

سيلخّص هذا المقال التمييز النقدي بين الاقتباس وإعادة الإنتاج بوصفهما مفاهيم جمالية وثقافية، ويضيء على أمثلة من السياقين العربي والغربي، ليفكك ذلك الشعور المألوف بأن كل اقتباس “خيانة”، وكل إعادة إنتاج “استسهال”.

ليس الاقتباس الفني Adaptation   نقلاً آليًا، بل هو إعادة تخييل للنص الأصلي داخل بنية فنية مغايرة. إنه فعل تأويلي مزدوج: يفكك النص الأصلي، ثم يعيد تركيبه في سياق وسائط جديدة (فيلم، مسرح، مسلسل، كوميكس، إلخ).

ويمكن تنفيذه عبر عدة مفاهيم:

– التحويل الوسائطي Transmediality  ، أي القصة من وسيط لغوي (كالرواية) إلى وسيط بصري أو أدائي.

– التوطين الثقافي Localization، أي القصة لتناسب بيئة جديدة (ثقافية، زمانية، لغوية).

– الإخلاص الفني Fidelity  ، وهناك جدل النقد حول مدى وفاء العمل المقتبَس للنص الأصل، وهل ذلك شرط للنجاح؟

لا يخدم الاقتباس الناجح سرد القصة فحسب، بل يضيء طبقات جديدة من المعنى، قد تلامس مشكلات الواقع المعاصرة.

وشهدت الساحة العربية عددًا من الاقتباسات الفنية التي خرجت من أسر النص الأصلي، لتعيد تقديمه ضمن رؤية محلية أو درامية جديدة. من أبرز تلك التجارب، الأعمال الروائية والقصصية لنجيب محفوظ، طه حسين، العقاد، احسان عبدالقدوس، يوسف ادريس، وغيرهم، التي تحولت لأفلام سينمائية أو أعمال درامية أو مسرحية، وقوبلت بحركة معاكسة من المسرح والسينما للدراما، ومن الدراما للسينما ومن المسرح للسينما، كمسرحية (أنا وأنت وهي) لفؤاد المهندس وشويكار، أو مدرسة المشاغبين من المسرح للسينما، وصح النوم من الدراما للسينما وغيرها . ولكن لم تكن بمنأى من تغييرات لصالح الصيغة المُحوّلة إليها. كفيلم “عمارة يعقوبيان” المقتبس عن رواية علاء الأسواني، حيث قدّم المخرج مروان حامد اقتباسًا جريئًا لم يخشَ مواجهة التابوهات السياسية والدينية والاجتماعية. حُذفت بعض الشخصيات الجانبية، وتكثفت خطوط الصراع، مما جعل الفيلم وسيلة بصرية لتحريض الوعي، لا مجرد توثيق لرواية.

وبأسلوب مختلف، جاء فيلم “اللص والكلاب”، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ. اقترب الفيلم من النفس التعبيري، وغاص في البعد النفسي للبطل، محولًا القصة من مأساة سياسية إلى تأمل وجودي. ورغم إخلاصه الكبير للنص، إلا أن التوظيف البصري قدّم بعدًا لم يكن ظاهرًا في السرد الروائي.

وفي مجال التلفزيون، نذكر مسلسل “نحن لا نزرع الشوك”، الذي اقتُبس من رواية يوسف السباعي، وتمددت أحداثه بإضافة بعض الخطوط الدرامية، كما جرى “تلطيف” النهايات لتلائم الذائقة الجماهيرية، مما جعله عملاً جماهيريًا ناجحًا رغم افتقاده لحدة التراجيديا الأصلية.

وهذه الأعمال وغيرها، قد تُظهر أن الاقتباس العربي حين يُدار بفكر تأويلي ناقد، لا يتوقف عند النقل السطحي، بل يولّد حوارًا إبداعيًا بين النص القديم وسياق التلقي الجديد.

 ثانيًا: إعادة الإنتاج Remake

إعادة صناعة العمل الفني نفسه، غالبًا بنفس الوسيط (فيلم لفيلم، مسلسل لمسلسل)، مع تحديث تقني أو زمني، لكنه يحتفظ بجوهر القصة الأساسية.  وقد يكون مرد ذلك:

  • النوستالجيا الجمالية و اللعب على حنين الجمهور للماضي.
  • التحديث التقني، باستخدام أدوات حديثة دون تغيير جوهر النص.

ولكن هل يعيد الـRemake  تمجيد العمل الأول، أم يعيد النظر فيه؟

محاولات إعادة الإنتاج (Remake) العربية تحديات فنية وجماهيرية صعبة، بسبب غياب الرؤية الإبداعية أو ضعف التبرير الفني وراء العودة للعمل القديم.

من أبرز هذه الإخفاقات، مسلسل “ليالي الحلمية – الجزء السادس”، الذي حاول إحياء عمل درامي شهير أنتج في الثمانينات، لكنه قدم سردًا مهلهلًا وشخصيات بلا ملامح حقيقية. فالنص الأصلي الذي كتبه أسامة أنور عكاشة كان محمولًا على لغة سياسية وتاريخية عميقة، لم تستطع النسخة الجديدة سوى محاكاتها شكليًا دون جوهر.

ومثله، مسلسل “باب الحارة” في أجزائه المتأخرة، تحوّل إلى مثال صارخ على الاستنزاف التجاري للنصوص الشعبية. إذ تم تغيير الممثلين، وتفكيك الشخصيات، وإعادة تدوير الصراعات، دون أي إضافة فنية تبرر استمرار السلسلة. فأصبح العمل يفتقد لما يُسمى “الضرورة الدرامية”.

كذلك، أعيد تقديم مسرحية “العيال كبرت” مع طاقم شاب، لكنها لم تتجاوز فكرة “إعادة التمثيل” إلى قراءة جديدة للنص. فافتقدت النسخة للعفوية والعمق الاجتماعي اللذين ميّزا العمل الأصلي. فإعادة تلميع الماضي دون مساءلته، غالبا ما يسقط النسخة الجديدة في فخ العمل الأصلي وظله. لذلك، فإن نجاح الـ Remake  لا يتحدد بالجمال البصري، بل بقدرته على فتح أفق جديد في قراءة القصة القديمة.

هل الإبداع في “الخيانة” أم في “الولاء”؟

“الخيانة الخلّاقة” هو مصطلح أطلقه بعض النقاد لوصف الاقتباسات التي لا تلتزم بالحرف، بل تفكك النص وتعيد تركيبه لتضيء أبعاده من جديد. على العكس، الأعمال التي تلتزم بالأصل دون إضافة تصبح ظلًا باهتًا أو صدى باهتًا للصوت الأصلي.

يقول المخرج الفرنسي تروفو:

“الاقتباس الناجح هو الذي يُشبه الفيلم الذي كان يمكن أن يكتبه المؤلف لو عاش اليوم.”

فالاقتباس الناجح لا “يستعير” النص، بل يولّد منه نصًا جديدًا له شرعيته. أما إعادة الإنتاج، فإن لم تحمل نفسًا نقديًا أو تحديثًا حقيقيًا، فقد تتحول إلى مرآة مكسورة لا تعكس إلا الحنين العقيم.

وكما كتب بورخيس: “كل قارئ هو كاتب متخفٍ”… فإن كل مقتبِس أو مُعيد إنتاج، إما أن يكون قارئًا خلاقًا يكتب من خلال الفن، أو مجرد ناسخ في مهب التكرار.

تُظهر هذه الأمثلة أن الاقتباسات العربية الناجحة غالبًا ما تتضمن قراءة جديدة للنص الأصلي، أو تعريبًا ذكيًا يتفاعل مع الثقافة المحلية، ما يجعلها مشاريع فنية قائمة بذاتها، تبرّر وجودها وتضيف بعدًا للنص المقتبَس.

أما إعادة الإنتاج، فحين تغيب عنها الرؤية الناقدة وتتوقف عند حدود التحديث البصري أو استبدال الممثلين، فإنها تسقط سريعًا في فخ الاستسهال، وتتحول إلى محاكاة بلا معنى.

في المحصلة، ليس السؤال هل نقتبس أم نعيد إنتاج؟ بل، هل نملك رؤية نقدية تبرر الفعل الفني؟ وهل العمل الجديد يضيء النص القديم، أم يختبئ في ظله؟

د.فهد توفيق الهندال

 

أضف تعليق