يخبرنا فوكو أن النقد ليس تمرينًا على التفكيك بقدر ما هو ممارسة للحرية. حرية التفكير خارج الأطر الجاهزة، وحرية النظر إلى الواقع من زوايا غير مأهولة. فالنقد عنده لا يهدف إلى الهدم، بل إلى كشف البُنى الخفية التي تُنتج أفكارنا، وتشكّل وعينا دون أن نشعر.
ولهذا، لا يشترط أن يكون النقد انعكاسًا لرغبات الجمهور أو أهوائهم، بل قد يتقاطع معها أو يناقضها، لأن وظيفته ليست الإرضاء، بل الإضاءة. زاوية النقد ليست مرآةً لما أحبه الناس أو كرهوه، بل عدسة تُعيد ترتيب المشهد وتُبرز ما خفي تحت سطح الخطاب.
وإذا ما رأى صاحب النص أن النقد عبءٌ أو تطفّلٌ أو تسلّقٌ على جهده، فهو بذلك يكشف عن رفضٍ ضمني للمساءلة، وتمسّكٍ مريح بالسلطة التي يعتقد أنها حصرية له. كأن النص ينبغي أن يُقرأ بإجلال لا باشتباك، وأن يُترك معصومًا لا معروضًا على طاولة السؤال.
لكن الحقيقة أن النص الذي لا يُستدعى إلى ساحة النقد، نصٌ محكومٌ عليه بالعزلة. فكما أن الفكر لا يتطور دون صراع، فإن الكتابة لا تنضج دون أن تمر بمحكّ الفحص. وفقط حين يتقبل صاحب النص هذا الامتحان، يُصبح شريكًا في مشروع المعرفة، لا مجرد صدى لها.
في عالم يفيض بالخطابات والصور والرموز، لا يكفي أن ننظر إلى الظواهر من سطحها، بل علينا أن نسبر أعماقها لنكشف ما تُخفيه من سلطات ومعانٍ خفية. وهنا يأتي دور النقد الثقافي كما يُعرّفه الدكتور عبد الله الغذامي، بوصفه أداة لكشف البُنى الفكرية والسلطوية الكامنة وراء المنتجات الثقافية، سواء كانت نصوصًا أدبية أو مظاهر اجتماعية أو حتى أنماطًا استهلاكية.
لا يرى الغذامي في النقد مجرد تحليل جمالي أو لغوي، بل يرى فيه تفكيكًا للخطاب وكشفًا للعلاقات غير المرئية بين النص والمجتمع، بين اللغة والسلطة، بين الهوية والتمثيل. إنه يحرّكنا من سؤال “كيف كُتب النص؟” إلى سؤال “لماذا كُتب بهذا الشكل؟ ولصالح من؟”.
من هذا المنظور، تصبح كل ظاهرة ثقافية قابلة للقراءة بوصفها نصًا اجتماعيًا، يحمل في طياته تمثيلات طبقية، جندرية، أيديولوجية. سواء كانت إعلانًا تجاريًا، أو مهرجانًا، أو حتى لبسًا شائعًا، فإنها تحوي في داخلها خطابًا يُشكّل وعينا ويعيد إنتاج النظام الرمزي للمجتمع.
لذا، فدراسة الظاهرة من منظور النقد الثقافي لا تهدف إلى إدخالها في قوالب جامدة، بل إلى تحرير وعينا منها، وفهم كيف نُشكَّل نحن من خلالها. وكما يؤكد الغذامي، فإن هذا النوع من النقد ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة لفهم أنفسنا والواقع الذي نعيشه، بعيدًا عن الانبهار الساذج أو الرفض الغاضب.
إن ظاهرة “الجزر الثقافية”، بحسب توصيف الغذامي، تُشير إلى تَشظّي الخطاب الثقافي إلى دوائر مغلقة، كل منها تتكلم مع ذاتها وتُعيد إنتاج قيمها، دون انفتاح فعلي على الآخر. وهي ظاهرة تتفاقم في المجتمعات التي تُهيمن فيها الهويات الضيقة، سواء كانت فئوية أو مناطقية أو أيديولوجية.
هذا التشظي يُفضي إلى انحسار الثقافة العامة بوصفها فضاءً مشتركًا للحوار والتفاعل. إذ لم تَعُد الثقافة في هذا السياق مشروعًا جامعًا أو حوارًا نقديًا يطمح إلى تشكيل وعي جماعي، بل تحوّلت إلى أرخبيل من الخطابات المتوازية، لاسيما المفرّغة، التي لا تتقاطع إلا لتصطدم.
وتكمن خطورة هذه الظاهرة في أمرين:
1. تفريغ الثقافة من بعدها الجدلي: إذ تضعف قيم الحوار والنقاش المفتوح، ويتم استبدالها بالتكرار داخل الدائرة المغلقة، مما يؤدي إلى جمود الفكرة وركود الذائقة.
2. تراجع دور المثقف النقدي: لأن المثقف الذي يخرج من نسقه الضيق يُتَّهم غالبًا بالتخلي عن “الهوية”، فيُقصى أو يُشكك في دوافعه، فتخسر الثقافة صوتًا حيويًا كان يمكن أن يُحدث الأثر المطلوب.
وهكذا، فإن الجزر الثقافية لا تنعزل فقط عن بعضها، بل تُعزل الثقافة ذاتها عن أفقها الأوسع، وتحاصرها داخل قوالب الهويات الفرعية. وبمرور الزمن، تُصبح الثقافة هامشية في حياة المجتمع، غير قادرة على التأثير أو التغيير، لأن سلطة الانتماء تتغلب على سلطة السؤال، وسلطة العُرف تتغلب على حرية النقد.
إن تفكيك هذه الجزر وإعادة وصل الحقول الثقافية ببعضها، هو أحد أهم أهداف النقد الثقافي. لأنه لا يدافع عن ثقافة “موحَّدة” بل عن ثقافة متداولة، حرة، ومتقاطعة، تُنتج ذاتها من خلال الاختلاف لا الانعزال.
في هذا الإطار، يصبح النقد الثقافي ضرورة لفهم هذه الظواهر لا كمشكلات طارئة، بل كبُنى مترسّخة تُعيد إنتاج نفسها داخل المنظومة الثقافية. فالنقد هنا لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يُسائل علاقتها بالهوية، والتاريخ، والخطاب السائد، في محاولة لتفكيك أسباب تشكّل هذه الجزر، وتحليل آليات اشتغالها ضمن النسيج الاجتماعي الأشمل.
د. فهد توفيق الهندال


