يُشير مفهوم “نهاية العالم” أو ما يُعرف بـ Apocalypse / Post-Apocalyptic Catastrophe إلى نوع من السيناريوهات أو التصورات التي تتخيّل انهيار الحضارة كما نعرفها، إما بفعل كارثة طبيعية أو حرب نووية أو وباء أو تدخل بشري أو خارق. وهو ما جاء ضمنا دون إشارة مباشرة، في أفكار فرويد، نيتشة، هايدجر، سارتر، كامو، كافكا وستيفن كينج.
ما المقصود بـ”كارثة نهاية العالم”؟
هي لحظة تحول جذري في مصير البشرية، تؤدي إلى:
• تدمير البنى التحتية.
• انقراض أغلب البشر أو تحوّلهم.
• اختفاء القانون والدولة.
• ظهور مجتمعات جديدة بدائية، فوضوية، أو ديكتاتورية.
لماذا أصبح هذا النوع من الأفلام مرغوبا؟
تُساهم في تخليص نفسي من الخوف الوجودي، إذ يعيد تخيّل نهاية العالم السيطرة على المجهول. كذلك اختبار للإنسانية، بما الذي يبقى من الأخلاق عندما تنهار الحضارة؟ وهذا تساؤل فلسفي، مرتبط بسؤال آخر: هل الإنسان يستحق النجاة؟ أم هو سبب الكارثة؟
ولعل خيال ومغامرة لدى المتلقي، يجعل هذا النوع من السينما، من أكثر الأنواع السينمائية تشويقًا وبصرية، والأكثر كتابة وإنتاجا.
سينما نهاية العالم
يمكن رصد نهاية العالم في ثلاث أفلام مختارة، أولها فيلم Furiosa حيث نهاية العالم غير مفسرة بشكل مباشر، لكنها خلفية دائمة، إما انهيار سياسي، بيئي، مجتمعي.
في حين، يلقي فيلم Book of Eli اللائمة على الحرب النووية في نهاية العالم، لكن الكارثة تتحول إلى مسألة إيمان وبحث عن المعنى التاريخي لكل ما حدث.
أما فيلم Waterworld ، فالعقاب هنا بيئي، بسبب الاحتباس الحراري المتزايد، وما سببه من ذوبان مستمر للجليد في القارتين القطبيتين.
وليست كارثة نهاية العالم دمارًا بيئيا أو سياسيا أو اقتصاديا، بل تمثل نهاية اليقين بجدوى العالم الحي، وإعادة لضبط أخلاقية العالم، بتقاسم ثروات الأرض بين كل الأحياء نحو توازن طبيعي وبيئي مستمر، بعد عقود من تغيّر المناخ، وتصاعد حدة الحروب وانتشارها، وتفشي فيروس الطمع الرأسمالي والتكنولوجي.
وفيما يلي، تحليل مقارن للأفلام الثلاث:
يشترك فيلم “Furiosa: A Mad Max Saga” من سلسلة Mad Max من حيث الثيمات والعالم السردي بفيلمي “The Book of Eli” و”Waterworld”، في نوع “ما بعد الكارثة” (post-apocalyptic)، لكنها تختلف في بعض النواحي الأسلوبية والرمزية. إليك نقاط المقارنة:
1. العالم السردي والمكان:
Furiosa و Mad Max Saga: تدور أحداث الفيلم في صحراء جافة خالية من الموارد، حيث البنزين والماء نادران. تهيمن عليه العصابات والأنظمة القمعية.
في حين يمثل فيلم The Book of Eli عالم دمرته حرب نووية، قاحل، رملي، حيث يسود العنف وتحكم العصابات القرى، مع احتكار القوة بكل أشكالها، ومنها التاريخ بيد زعيم العصابة بيل كارنيج.
Waterworld على العكس منهما، تدور أحداثه في عالم مغمورو بالماء بسبب ذوبان الجليد، حيث تصبح الأرض الجافة أسطورة، ويصبح الماء مصدر الحياة والصراع.
الربط بين الأفلام الثلاثة:
1.الطبيعة متطرفة (جفاف أو فيضان) و”الموارد الشحيحة” فتصبح رمزية للسلطة، سواء كانت الماء أو الوقود أو المعرفة (كما في كتاب إيلاي).
2. البطل/البطلة بوصفه(ـا) ناجيًا وحاملاً للمعنى:
• Furiosa: البطلة التي تبدأ كضحية وتتحول إلى محاربة، تقاتل لاستعادة أرضها الأصلية، وتمنح الأمل للآخرين.
• Eli: بطل صامت روحاني، يحمل كتابًا مقدسًا يمثل الأمل والبوصلة الأخلاقية لعالم محطم.
• Mariner في Waterworld: كائن متحوّل يتنقل في عالم غارق، يبحث عن معنى، ويحمي طفلة تحمل خريطة للأرض الجافة.
ليجسد الثلاثة نوعًا من “النجاة الوجودية”، فهم ليسوا مجرد مقاتلين بل رموز للرجاء والخلود الثقافي/الروحي.
3. الصراع:
• في Furiosa، الصراع بين الطغاة ومَن يسعون للحرية.
• في Eli، الصراع بين الحافظ الأخلاقي (Eli) والسلطة المتسلطة التي تريد استغلال الدين.
• في Waterworld، الصراع بين المعرفة (الخريطة للأرض) والطمع.
إذن، يصور كل فيلم رحلة الصراع ضد بنية استغلالية تستحوذ على مورد نادر، ويركز على الصراع الرمزي بين “الحياة/المعرفة” و”السلطة/الاستغلال”.
4. الرؤية الجمالية والأسلوب:
• Furiosa: سرعة، تصوير ديناميكي، مشاهد مطاردة متقنة.
• Eli: ألوان باهتة، إيقاع بطيء، تصوير تأملي فلسفي.
• Waterworld: مغامرة سينمائية ضخمة، مشاهد بحرية مبهرة.
وتستخدم قصص الأفلام الثلاث كلها تستخدم البيئة القاسية كعنصر جمالي وشعري يعكس الفراغ الوجودي والبحث عن المعنى.
في ختام هذا المقال، يتضح أن فكرة “نهاية العالم” ليست مجرد خيال سينمائي أو أدب فانتازي، بل مرآة تعكس أعمق مخاوف الإنسان وأسئلته الوجودية: من نكون حين يسقط النظام العالمي؟ ما الذي يبقى حين تغيب القيم؟ وهل يمكن أن تنبت الحياة من تحت أنقاض الفناء؟
لقد عبرت الروايات والأفلام والفلسفات عن هذه اللحظة الفارقة، كلٌ بلغته، لكن القاسم المشترك هو الإيمان بأن ما بعد الكارثة ليس دومًا موتًا، بل احتمال لبداية جديدة، بشرط أن يكون الإنسان على قدر من الوعي، والإرادة، والأخلاق في مواجهة العدم.
وهكذا، لا تنتهي العوالم في الأدب والسينما، بل تبدأ من جديد ـ بروح أكثر صفاء، وبصيرة أكثر نفاذًا.
فالنهاية، في جوهرها، ليست إلا استعارة مكثفة للبداية.
د. فهد توفيق الهندال



