يعد كتاب “ساعات ديكارت رديئة الصنع .. لماذا نمرض؟ ” للدكتور نادر كاظم والصادر عن دار ومكتبة صوفيا، آخر اصداراته التي تضيف للمكتبة العربية بما احتواه من تحليل إنساني إجتماعي للمرض وفلسفته المكتسبة. تكمن أهمية الكتاب في الطريقة التي يعيد بها الدكتور نادر كاظم تعريف المرض، ليس فقط كحالة جسدية أو اضطراب صحي، بل كظاهرة وجودية وإنسانية تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية واجتماعية ونفسية.
يعكس عنوان “ساعات ديكارت رديئة الصنع” جوهر الفكرة الفلسفية التي يستند إليها الكتاب، وهي رؤية الجسد البشري والعلاقة بين المرض والصحة من منظور ديكارت الفلسفي والميكانيكي الذي كان يؤمن أن الجسد البشري يشبه الآلة أو الساعة الميكانيكية الدقيقة التي تعمل بانسجام وتنظيم. وفق فلسفته، أي خلل أو عطل في هذه الآلة يؤدي إلى المرض.
واستعار الكاتب هذا المجاز ليبني عليه رؤيته للمرض كخلل في نظام الجسد، ولكنه يتجاوز ذلك لاستكشاف أبعاد المرض النفسية والوجودية. وهي على النحو التالي:
1. معالجة المرض من زاوية فلسفية وجودية:
يطرح الكتاب المرض كجزء أساسي من التجربة الإنسانية، لا كشيء يجب التخلص منه أو الهروب منه فحسب. كما يناقش كيف أن المرض يعيد تشكيل فهمنا للحياة والموت، إذ يقدم المرض فرصة للتأمل في هشاشة الإنسان وفي حدود قوته الجسدية والنفسية.
ومن خلال تأملات فلسفية عميقة، يضع المرض في إطار دورة الحياة الطبيعية، مما يثير تساؤلات عن الغاية من الألم والمعاناة، ويقدم منظورًا جديدًا حول القيمة الخفية للمرض كجزء من التجربة الإنسانية.
2. استعراض العلاقة بين المرض والمجتمع:
يبرز الكتاب كيفية تعامل المجتمع مع المرضى كأفراد ضعفاء أو عاجزين، وفي المقابل كيف أن المرض يغيّر ديناميكيات العلاقة بين الفرد والمجتمع. كما يعكس الكتاب طبيعة التفاعل البشري مع المرض، سواء على مستوى التضامن أو الوصم الاجتماعي.
3. إسقاطات على تجارب فلاسفة ومفكرين:
أحد الجوانب الأكثر إثارة هو استعراض الكتاب لتجارب عدد من المفكرين والفلاسفة مع المرض وتأثيره على أفكارهم ورؤاهم.
على سبيل المثال:
جان بول سارتر، وكيف أثر المرض على فلسفته الوجودية. ولوي ألتوسير: كيف استخدم المرض كأداة للبحث والتفكير. وإدوارد سعيد في انعكاس المرض على إبداعه الأدبي ورؤيته النقدية.
وفي هذا الجانب، يظهر أن المرض ليس عائقًا للإبداع، بل يمكن أن يكون محفزًا لإعادة التفكير والابتكار.
4. دمج الطب بالفلسفة:
يناقش الكتاب كيف أن الطب لا يمكن أن ينفصل عن الفلسفة عند محاولة فهم المرض. يقدم مقارنة بين نظرتين:
نظرة ديكارت الميكانيكية التي ترى الجسم كآلة معقدة.
ونظرة مونتاني التي ترى أن المرض جزء طبيعي من دورة الحياة. وهذا التناول يجذب القارئ لفهم الجسد والمرض من منظور شمولي يجمع بين العلوم الإنسانية والطبية.
5. تحدي المفاهيم السائدة عن الصحة والمرض:
يشكك الكتاب في رؤية الصحة كحالة “مثالية” والمرض كحالة “استثنائية”، بل يعيد تعريف المرض كجزء أصيل من وجودنا.
ويتساءل: هل يمكن أن يعيش البشر بدون المرض؟ وما الذي قد يحدث لو اختفى المرض تمامًا؟
ويبرز هذا الطرح الدور الإيجابي للمرض في جعلنا نقدر الصحة، ويدفعنا إلى استغلال تجاربنا المرضية كفرص لفهم الذات والحياة.
6. أهمية الكتاب في السياق الثقافي:
إذ يفتح الكتاب النقاش حول كيفية تعامل الثقافة الإنسانية، خاصة في المجتمعات العربية، مع المرض والمرضى. كما يعالج التصورات الاجتماعية والدينية عن الألم والمعاناة، ويدعو للتفكير النقدي في هذه القضايا. كما يكسر الكتاب بعض التابوهات المرتبطة بالموت والمرض، ويجعل النقاش حولهما أكثر انفتاحًا وعمقًا.
7. لغة وأسلوب الكتاب:
يتميز الكتاب بلغة سرديّة فلسفية عميقة، لكنها في الوقت نفسه موجهة للجمهور العام، مما يجعله مناسبًا للقراء المهتمين بالفلسفة والطب والإنسانية على حد سواء. وجاء الأسلوب جامعا بين السرد القصصي والتحليل الأكاديمي، مما يجعل القراءة ممتعة ومثرية.
8. قيمة الكتاب الأكاديمية والفكرية:
يضيف الكتاب إلى الأدب العربي المعاصر كتابًا نادرًا في نوعه، حيث يتناول قضايا الوجود والمرض والموت بجرأة وعمق.
ويمكن استخدامه كمرجع أكاديمي في مجالات متعددة مثل الفلسفة، العلوم الإنسانية، الطب النفسي، والدراسات الثقافية.
استعرض كتاب “ساعات ديكارت” شخصيات بارزة من الفلاسفة والمفكرين الذين كان للمرض دور كبير في تشكيل حياتهم وفلسفاتهم. هؤلاء الشخصيات ليسوا مجرد موضوعات للنقاش، بل يشكلون محورًا لفهم العلاقة بين الجسد، النفس، والمرض. فيما يلي أبرز الشخصيات التي تم ذكرها في الكتاب:
1. رينيه ديكارت (1596-1650):
يعد ديكارت شخصية مركزية في الكتاب، حيث يناقش الكاتب رؤيته للجسد كآلة أو ساعة ميكانيكية دقيقة الصنع.
يبرز الكتاب تناقض ديكارت الذي كان يرى أن المرض خلل في “الآلة البشرية” لكنه عاش حياة صحية إلى حد كبير ومات بنزلة برد تطورت إلى التهاب رئوي.
يناقش الكاتب علاقة ديكارت بالطب ورؤيته للمرض كجزء من الطبيعة البشرية.
2. ميشيل دي مونتاني (1533-1592):
يقدم الكاتب مونتاني كنموذج مضاد لديكارت، حيث يرى أن المرض جزء من دورة الحياة الطبيعية وليس خللًا يجب إصلاحه.
عانى مونتاني من مرض حصوات الكلى، وهو ما أثر بوضوح على فلسفته ونظرته للحياة.
يتناول الكاتب كيف تعامل مونتاني مع مرضه بروح فلسفية وتأملية، ورأى في الألم فرصة لفهم الحياة والموت بشكل أعمق.
3. جان بول سارتر (1905-1980):
يعرض الكتاب تجربة سارتر مع المرض، خاصة مشاكله الصحية المتعلقة بالجهاز العصبي.
يناقش كيف أثرت هذه التجارب على فلسفته الوجودية، وخاصة فكرة “الإنسان يصنع نفسه”.
المرض في حياة سارتر كان أداة فلسفية للتأمل حول الحرية والمسؤولية.
4. لوي ألتوسير (1918-1990):
شخصية مثيرة في الكتاب، إذ يناقش الكاتب كيف استخدم ألتوسير مرضه النفسي كأداة للتفكير والتعبير.
يظهر الكتاب كيف أن ألتوسير، رغم معاناته من الاكتئاب والمرض النفسي، ظل قادرًا على إنتاج أعمال فلسفية كبرى.
5. فرانز فانون (1925-1961):
يظهر فانون في الكتاب كشخصية فلسفية مهمة ربطت المرض بالاستعمار والعنصرية.
يناقش الكاتب كيف وصف فانون الاستعمار كـ”مرض مزمن” وتأثير العنصرية على الجسد والنفس.
المرض بالنسبة لفانون لم يكن شخصيًا فقط، بل كان مجازًا للحالة الاجتماعية والسياسية للمستعمرين.
6. إدوارد سعيد (1935-2003):
يعرض الكاتب تجربة إدوارد سعيد مع مرض اللوكيميا، وكيف أثر ذلك على أعماله الفكرية والنقدية.
يناقش الكتاب كيف تداخل المرض مع اهتمام سعيد بفكرة الاستعمار والثقافة، خاصة في كتابه “الاستشراق”.
7. شخصيات تاريخية وطبية أخرى:
ماركوس أوريليوس: يقتبس الكاتب أفكاره حول المرض كخذلان الجسد للروح.
بليني الأكبر (23-79 م): يظهر في مناقشة الألم الجسدي من منظور الطبيعة.
تيبيريوس قيصر: يُستشهد به في سياق العلاقة بين العمر والصحة، حيث قال إنه لا يجب على الشخص بعد الثلاثين أن يحتاج إلى طبيب.
8. شخصيات رمزية أو مجازية:
“سيف ديموقليس”: يستخدم كرمز للتوتر الدائم الذي يعيشه الإنسان تحت تهديد المرض.
الحصان الجامح: استعارة مجازية للجسد الذي يخرج عن السيطرة أثناء المرض.
ولعل استحضار هذه الشخصيات يساعد الكاتب على تقديم نظرة شمولية عن المرض، حيث يتنقل بين التجارب الشخصية لهؤلاء المفكرين والرؤى الفلسفية التي صاغوها. هذا التنوع يمنح الكتاب طابعًا فكريًا وإنسانيًا، حيث يظهر المرض كعنصر يربط بين التجارب الفردية والأسئلة الفلسفية الكبرى.
أخيرا وليس آخرا، كتاب “ساعات ديكارت رديئة الصنع” ليس مجرد تأملات فلسفية عن المرض، بل هو دعوة لفهم أنفسنا كبشر بشكل أعمق. ويعكس كيف يمكن للمرض أن يكون تجربة تحريرية وإبداعية، وكيف أنه جزء لا يتجزأ من دورة الحياة كسيف ديموقليس المسلط على رؤوسنا. وبفضل طرح الكتاب الفلسفي العميق والأسئلة التي يثيرها، يفتح بابًا جديدًا للتأمل في جوانب الحياة التي نميل إلى تجنبها، مما يجعله من الأعمال المهمة في المكتبة العربي الحديثة.
د. فهد توفيق الهندال

نشر المقال في جريدة أخبار الأدب المصرية 2 فبراير 2025
