أصدرت منصة “نتفليكس” في ديسمبر 2024 مسلسل “مائة عام من العزلة”، المقتبس من رواية الكاتب العالمي والكولومبي الأصل غابرييل غارسيا ماركيز، بعد حصول “نتفليكس” على حقوق تحويل الرواية إلى مسلسل عام 2019، بمباركة من ورثة ماركيز، خاصة ابنيه رودريغو وغونزالو، اللذين شاركا كمنتجين منفذين.
تم تصوير المسلسل في كولومبيا، حيث بُنيت أربع نسخ من بلدة ماكوندو المُتخيّلة لتجسيد تطور الزمن عبر الأجيال.
تميّز العمل بميزانية ضخمة، تُعد من أكبر الميزانيات المخصصة لإنتاج غير أمريكي على المنصة. لهذا يُعد هذا العمل من أكثر المشاريع الطموحة للمنصة، حيث تم تصويره بالكامل في كولومبيا وباللغة الإسبانية، مع فريق عمل كولومبي، تماشيًا مع رؤية ماركيز الأصلية.
حصل المسلسل على تقييمات إيجابية من النقاد، حيث نال نسبة 94% على موقع “Rotten Tomatoes” ، إذ أشاد النقاد بالتمثيل، والإخراج، والقدرة على نقل روح الرواية إلى الشاشة، مع الحفاظ على عناصر الواقعية السحرية التي تميزت بها.
كما تميز المسلسل بأداء قوي من الممثلين الكولومبيين، خاصة مارليدا سوتو في دور أورسولا، وكلاوديو كاتانيو في دور أوريليانو بوينديا. ليتولى الإخراج كل من لورا مورا، الحائزة على جائزة “الصدفة الذهبية” في مهرجان سان سيباستيان السينمائي عام 2022، والأرجنتيني أليكس غارسيا لوبيز.
استطاع المسلسل تقديم عناصر الواقعية السحرية بمهارة، معتمدًا على المؤثرات البصرية الحية بدلاً من التكنولوجيا الرقمية، مما أضفى مصداقية وجمالية على المشاهد. على سبيل المثال، في مشهد سقوط الأزهار من السماء، تم استخدام أزهار حقيقية بدلاً من المؤثرات الرقمية.
وكما هو معروف، تعدّ رواية مائة عام من العزلة، التي صدرت عام 1967، من أعظم روائع الأدب العالمي، إذ تمزج بين الواقعية والسحر في سرد ملحمي لحياة عائلة بوينديا في قرية ماكوندو الخيالية. أما مسلسل “نتفليكس”، الذي تم إنتاجه في 2024، فهو محاولة طموحة لتقديم هذه الرواية المعقدة بصريًا إلى جمهور عالمي. فيما يلي مقارنة بين الرواية والمسلسل من عدة جوانب:
1. السرد:
اعتمدت الرواية على أسلوب السرد الشامل، حيث يروي غابرييل غارسيا ماركيز أحداث الرواية بلهجة شبه خرافية، ممزوجة بالواقعية السحرية. وجاء تسلسل أحداث الرواية بشكل دائري وغير خطي، مما يعكس فكرة الحتمية التاريخية والتكرار في حياة العائلة.
في حين اعتمد المسلسل على سرد خطي أكثر وضوحًا، ما يسهل على المشاهدين متابعة تطور الأحداث، خاصة مع تشابك الأجيال. كما حاول المسلسل الحفاظ على الواقعية السحرية، فإنه فقد أحيانًا العمق الفلسفي الذي تميز به السرد الأصلي، مما يبرهن على صعوبة تحويل السرد اللّفظي المكتنز بالمعنى إلى سرد بصري يعتمد الصورة في كثير من الجوانب.
2. الواقعية السحرية :
تعدّ الرواية المثال الأبرز للواقعية السحرية؛ حيث تم تقديم الأحداث الخارقة للطبيعة كجزء طبيعي من حياة الشخصيات. مثل صعود ريميديوس إلى السماء وسقوط الزهور من السماء تعكس السحرية بسلاسة دون تفسيرات.
ونقل المسلسل الواقعية السحرية باستخدام مؤثرات بصرية متقنة، مثل سقوط الأزهار أو المشاهد المرتبطة بشبح برودينثيو أغيلار.
3. الشخصيات:
تتيمز الرواية بكثرة الشخصيات التي تنتمي لعائلة بوينديا، مع تكرار الأسماء مثل أوريليانو وخوسيه أركاديو، مما يعكس موضوع التكرار والقدر. وتم تقديم الشخصيات بطريقة رمزية، بما تمثله من أفكار أو حالات إنسانية.
لذلك، قام المسلسل بتقليل عدد الشخصيات والتعمق في بعضها لتسهيل السرد البصري، مما جعل الشخصيات أكثر “إنسانية” وأقل رمزية. وتم تطوير بعض الشخصيات بشكل يختلف عن الرواية، مثل أورسولا، التي حصلت على دور أكثر تأثيرًا.
4. الحبكة:
جاءت الحبكة معقدة ومليئة بالتشابكات العائلية والأحداث العجائبية التي قد تربك القارئ أحيانًا. لتنتهي الرواية بنبوءة عن نهاية عائلة بوينديا، مما يعكس عبثية الجهد الإنساني.
في حين اختصر المسلسل بعض الأحداث وتجنب التكرار المبالغ فيه، لجعل القصة أكثر جاذبية للمشاهدين.
لتكون النهاية جاءت مشابهة للرواية، لكنها أقل حدة في التأكيد على الحتمية والزوال.
ولأن الرواية تعالج موضوعات كبرى مثل القدر، العزلة، الحتمية التاريخية، والاغتراب الإنساني وما طرحته من تساؤلات عميقة عن معنى الحياة ودورة الزمن، ركّز المسلسل على الشخصيات الرئيسية في الرواية متمثلة أولا بخوسيه أركاديو بوينديا مؤسس ماكوندو، القرية الخيالية التي تدور فيها أحداث الرواية. يمثل الطموح البشري والرغبة في الابتكار والاكتشاف. ولعل قراره بتأسيس القرية في منطقة مجهولة يعكس الروح الريادية التي تحاول تحدي المجهول. كذلك اهتمامه بالعلوم والخيمياء، بالتعاون مع الغجري ميليسيديس، يظهر بحثه المستمر عن الحقيقة والخلود، رغم أنه يقوده إلى الجنون في النهاية.
ولعل خوسيه أركاديو يمثل الحلم الإنساني الطموح الذي ينهار تحت وطأة العزلة والهوس. عزلته الجسدية والعقلية في نهاية حياته تجسد فشل الإنسان في مواجهة عبثية العالم.
أما شخصية الأم أورسولا إيغواران، فقد مثلت رمز الثبات والحكمة في دورها كعمود للعائلة، وهي الشخصية الأكثر ثباتًا واستمرارية في الرواية، حيث تعيش عبر أجيال متعددة. كرمز للقيم التقليدية والأخلاقية التي تحاول توجيه العائلة وحمايتها من الانهيار. ولعل دورها في إدارة شؤون الأسرة والاقتصاد يجعلها القوة الحقيقية وراء استمرار عائلة بوينديا، رغم كونها أمية، إلا أنها تتميز ببصيرة عميقة وقدرة على استشراف مصير عائلتها. تحذر من تكرار الأخطاء، لكنها ترى تلك الأخطاء تتكرر جيلاً بعد جيل. لتمثل أورسولا الحكمة التقليدية والصمود الإنساني في مواجهة الحتمية التاريخية. حياتها الطويلة تعكس محاولتها عبثًا كسر دورة الزمن والقدر.
الشخصية الثالثة، الابن الثاني أوريليانو بوينديا، رمز الصراع والانعزال، ويُعد أحد أكثر الشخصيات تعقيدًا في الرواية.
ليتحول من شاب حالم إلى قائد عسكري يخوض 32 حربًا أهلية، لكنه يفشل في تحقيق أهدافه.ليمثل الوجه السياسي للرواية، حيث يعكس الصراعات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها أمريكا اللاتينية. وبالرغم
من شهرته كقائد، يعيش أوريليانو عزلة داخلية عميقة. فهو دائمًا بعيد عن عائلته ومجتمعه، ويبدو وكأنه يسعى للهرب من ذاته. وكأن أوريليانو رمز العبثية في السعي وراء السلطة والمعرفة. يصنع أسماكًا ذهبية خلال عزله، في إشارة إلى عدم جدوى جهوده وخيبات أمله.
تكمن العزلة في رواية مائة عام من العزلة في عدة مستويات، وهي ليست مجرد حالة فيزيائية أو اجتماعية، بل تمتد إلى عمق نفسي وفلسفي يشمل الشخصيات، العائلة، والمجتمع ككل. غابرييل غارسيا ماركيز يعالج مفهوم العزلة باعتباره جزءًا أساسيًا من الطبيعة الإنسانية والحياة. فماكوندو تمثلت رمزا للعزلة الاجتماعية والجغرافية والتاريخية. إذ بقيت معزولة عن العالم الخارجي في بدايتها، ولا تتواصل مع الحضارة إلا من خلال الغجر والتجار. ومع مرور الزمن، أصبحت القرية مرهونة للصراعات السياسية والأزمات، لكنها تفقد هويتها وتُنسى في النهاية، حيث تصل العزلة الاجتماعية ذروتها عندما تفقد القرية سكانها وتتلاشى تدريجيًا، معبرة عن انهيار المجتمع. وأن العزلة ليست فقط حالة شخصية أو اجتماعية، بل هي مصير محتوم لكل من يحاول كسر قيود الزمن والقدر، مما يجعل الرواية تأملًا عميقًا في عبثية السعي الإنساني كما صوّرها ماركيز. من أجل ذلك، جاءت رؤية المخرج البصرية للرواية معتمدة على المزج بين الواقعية والسحر، مع احترام العناصر الرمزية للرواية. فاستُخدمت تقنيات سينمائية متطورة لتقديم ماكوندو كعالم نابض بالحياة، لكن في نفس الوقت يكتنفه الغموض والقدرية. وربما نجح المسلسل في تقديم تجربة بصرية غنية تُبرز روح الرواية، مع الحفاظ على توازن دقيق بين العناصر الأدبية والمرئية. وهو ما يشكّل تحديا كبيرا للمشاريع الروائية المطروحة على طاولة التجريب الدرامي، إن كانت ستمثّل الرواية المُختارة ساحةً خصبة للتخييل الدرامي أم صدمة على سطحية العمل الروائي نفسه!
فهد توفيق الهندال




