تلقي أصوات قصيدة (مديح الظل العالي)، بتكرارها القوي واستخدامها للغة المفعمة بالرموز المتجددة، على ظلها الطويل على ما يحدث في غزة ولبنان اليوم.لتخلق إحساسًا بالصراع المستمر والتحدي الدائم، مما يعكس الواقع المؤلم الذي نشهده اليوم في غزة. النص مليء بالأصوات الحادة والصارخة مثل “ق” و”ص” و”ط”، والتي تبرز صوتيًا مشاعر العنف والألم، مثل الانفجارات والدمار الذي يحدث في غزة حاليًا، وكأن الشاعر كان يستشرف مستقبلًا يستمر فيه الاحتلال والقهر ضد الشعب الفلسطيني.
تتكرر في النص، كلمات “بحر”، “حصار”، و”لا مفر”، تمامًا كما تعيش غزة تحت حصار مستمر، وكأن هذه الكلمات تنبض بأصوات الحياة في مدينة محاصرة تُحرم من أبسط مقومات الحياة الكريمة. تكرار كلمة “بحر” يخلق إيقاعًا صاخبًا، يشبه أصداء الانفجارات التي تتردد في سماء غزة، في الوقت الذي كان يمكن للبحر أن يكون مكانًا للحرية ولكنه صار رمزًا للحصار.
في حين يأتي الصوت “لا… لا مفر” مكررا في النص ليعكس الإصرار على المقاومة، على الرغم من قسوة الحصار الذي يُغلق الأبواب أمام السكان. هذا يتجلى في غزة حاليًا، حيث لا يملك الناس خيارًا سوى الثبات والمقاومة، حتى وإن كانت الظروف مأساوية.
يحمل الصوت في النص دلالة الفوضى، وكأن الأصوات المتداخلة تشبه أصوات الاستغاثات وصيحات الأطفال والعائلات العالقة تحت الأنقاض اليوم. فالإيقاع الفوضوي والتكرار ينعكسان كصدى لصوت حياة المدينة وهي تتعرض لدمار متواصل، كما لو أن الصدى هنا يرمز لاستمرار المقاومة وعدم الاستسلام أمام آلة الحرب.
في معرض الاستماع لقراءة قصيدة (مديح الظل العالي) وقفت عند الموسيقى الشعرية فيها، لتلعب دورًا هامًا في تعزيز المعاني وتأكيد الحالة النفسية والعاطفية لمحمود درويش. ويمكن تحليل المستوى الصوتي من عدة جوانب:
- التكرار: يستخدم درويش التكرار بشكل بارز، كما يظهر في تكرار عبارات مثل “يا أهل لبنان… الوداعا” و”البحر أبيض” و”أو لا تُدَوِّنْ”. التكرار هنا يضفي على النص نغمة إيقاعية تشد الانتباه وتعمق الإحساس بالوداع والحيرة. كما يعزز التكرار الإيقاع الداخلي للقصيدة، ويمنحها بعدًا من الرتابة المتعمَّدة التي تعكس التعب واليأس.
- التنغيم والتقفية: لا تتبع القصيدة وزنًا شعريًا تقليديًا، بل تعتمد على إيقاع حر يتنوع بتنوع الأفكار والمواقف العاطفية. لكن هناك تنغيم داخلي بين الكلمات والجمل من خلال القوافي الجزئية أو المقاطع الصوتية المتشابهة.
وهناك توافق صوتي بين كلمات مثل “البحر” و”الدهشة”، و”الجمر” و”القدر”، مما يعزز الإيقاع الموسيقي الداخلي للقصيدة. - الاستفادة من الأصوات الحادة والمشددة:
تستخدم الأصوات الحادة مثل “ص” و”ق” و”ط” في الكلمات ذات الدلالات الحادة أو العنيفة مثل “القصيدة”، “المأساة”، “المقصلَهْ”، مما يخلق تناغمًا بين المعنى والشكل الصوتي. وتضفي هذه الأصوات توترًا ودراما على النص، خاصة في المقاطع التي تتحدث عن الألم أو الصراع.
- الأصوات الساكنة والممتدة:
يخلق استخدام الأصوات الساكنة والممتدة (مثل “أ” و”و”) في كلمات مثل “البحر”، “السماء”، “الهواء”، يخلق كل ذلك إحساسًا بالهدوء والامتداد اللامتناهي، مما يتماشى مع دلالة البحر كفضاء مفتوح ولا نهائي. هذه الأصوات تساهم في تكوين جو من الاستسلام أو التأمل، خاصة في المقاطع التي تتناول مفاهيم الغربة أو الفناء.
- الإيقاع الداخلي والطباق:
تعتمد القصيدة على إيقاع داخلي قوي يتشكل من خلال التناقضات الصوتية والمعنوية، مثل “ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة”، حيث يعزز الطباق بين “أوسع” و”أضيق” من الإيقاع الموسيقي ويضفي على الجملة نغمة تأملية عميقة.
- الطول والتقطيع:
يساهم الطول المتفاوت للجمل الشعرية في خلق إيقاع مرن. فالجمل القصيرة مثل “والبحر أبيض” و”فاذهب” تأتي كفواصل قوية تضفي على النص شعورًا بالقطع أو الانفصال، بينما تعكس الجمل الطويلة حالة الامتداد التي تتناسب مع موضوع البحر والفضاء اللامتناهي.
إذن، استخدم درويش على المستوى الصوتي مجموعة متنوعة من الأدوات الموسيقية مثل التكرار، التنغيم الداخلي، التنوع في الأصوات الحادة والممتدة، والإيقاع الداخلي لتعزيز تأثير القصيدة. لتعكس هذه الأدوات مشاعر الشاعر من الحيرة، الغربة، والتأمل، وتساعد في إبراز الدلالات الفلسفية العميقة للنص، بما تمّ توظيفه في أصوات النص، ليجسد مشهدًا من الألم والصمود، ويبدو وكأنه صوت الفلسطينيين وهم يقاومون بصوتهم ضد الطغيان، كما يحدث الآن في غزة ولبنان ، إذ أصبحت الأصوات رمزًا للثبات أمام الظروف القاهرة.
جزء من دراسة مطوّلة سأنشرها قريبا.
فهد توفيق الهندال

