التصنيفات
مدونتي

مُعجم الألم والعدم في سياق أنثوي

 تأتي تجربة الشاعرة مريم العبدلي في ديوانها “أشياء لا حوافّ لها” تجربة شعرية خارجة عن المألوف، تحمل في طياتها دلالات فلسفية ونفسية عميقة. إذ يعبّر الديوان عن حالات من الفوضى الداخلية، الاضطرابات النفسية، والبحث المستمر عن معنى للوجود. من خلال هذه الرؤية، يمكن تحليل الظواهر الدلالية والتداولية في الديوان، مع التوقف عند المفردات الشعرية المستخدمة.

الظواهر الدلالية في الديوان

1- دلالات الألم والعدم

يركز الديوان على دلالات مرتبطة بالألم والعدم، إذ يعبر عن الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان في مواجهة قسوة الحياة وتفاهة الكينونة. مفردات مثل “العدم”، “الوجود”، “الخلاص” و”الجسد” تظهر بشكل متكرر لتعكس التشظي النفسي والاضطراب الوجودي. في قصيدة “ما هو أكثر جحيمية من الجسد”، يظهر الجسد كرمز للمعاناة والعذاب، كأن الشاعرة تحاول أن تعبر عن أن الجسد ذاته ليحمل داخله مأساة الإنسان الأساسية. ويتشكّل العدم في ديوان العبدلي عبر صور شعرية تجسّد الفراغ والغياب التام للمعنى. من الأمثلة البارزة:

• “سننجو… من العدم نفسه” . هذه العبارة بسيطة، لكنها مؤثرة تعبّر عن محاولة البحث عن الخلاص، لكن ليس من الحياة أو الموت، بل من العدم ذاته، لكونها   توحي بأن العدم ليس فقط غيابًا للوجود، بل هو أيضًا تهديد يلاحق الإنسان.

• “أنت الذرّةُ ـ العدمُ اللا- شيئيّةُ”. هنا تتجسّد صورة العدم بشكل ملموس، حيث يتم تصوير الذات كذرة خالية من المعنى والوجود، وهي تتلاشى في الفراغ المطلق، بما يُفيد التلاشي والتفكك التي يشعر بها الفرد في لحظات الضياع.

• “الانطفاء ليس نقيض الاحتراق، لا نقيض من الأصل” . هنا تلخيص لفكرة العدم في الديوان، حيث لا توجد ثنائية واضحة بين الحياة والموت أو بين الوجود والعدم. إنها صورة متشابكة تعبر عن حالة الفوضى التي يعيشها المرء في مواجهة العالم، حيث يختفي النقيض وتصبح الأشياء مجرد تجليّات للعدم.

2- التعبير عن الذات الممزقة

 يُظهر الديوان حالةً من التفكك الداخلي في العديد من النصوص، مثل “أن أكون شاعرة” و”الهالكون”، فيعرض هذا التفكك وضع الذات الأنثوية التي تعيش تحت وطأة العزلة والخوف، فتأتي الذات وكأنها مفككة إلى أجزاء لا يمكن إصلاحها، تُعاني من عدم القدرة على تحقيق خلاص من هذه الحالة.. “أنا التي اختارت بكل فداحة مرارة أن تعيش خائفة من أن يترصدها أصدقاء الموت”، مما يعكس قوة حضور الخوف،  فتظهر الذات الممزقة في الديوان، من خلال صور شعرية تعبر عن تفكك النفس وتحللها، ويكن الوقوف عند هذه الصور:

• “أنا الآنَ أنفرطُ عضواً عضواً” . هنا تعبير عن تجربة التفكك الداخلي، فالذات لم تعد كيانًا متماسكًا، بل مجموعة من الأجزاء التي تتساقط وتتلاشى، كما لو كانت مهددة بالانفصال عن ذاتها وعن العالم من حولها.

• “الظلُّ بأربعةِ رؤوس!” . تصوّر الذات الممزقة، التي تتواجد في أماكن متعددة في نفس الوقت. فالظل الذي عادة ما يكون صورة موحدة، يتحول إلى كيان منفصل يحمل رؤوسًا متعددة، مما يعبر عن الانشطار الداخلي للذات والشعور بالتشتت.

• “الموت بديهيٌّ كالمطلق، مريعٌ كالأبد”. ربطٌ بين الموت والخلود في الأبدية، فتعلق الذات بين الموت والحياة، وهي تتأرجح بين حالة الاحتضار المستمرة والبقاء في حالة من الجمود المميت، وهو ما يعكس التمزق الداخلي للروح.

3- تمثيل المرأة بوصفها كائن هش ومتحدي

 ليست المرأة في هذا الديوان ضحية للظروف فحسب، بل هي كيان يواجه تحديات وجودية صعبة، ويعكس أحيانًا تمردًا على الواقع المادي المحيط. ففي قصيدة “أنا الشجرة التي أنكرت الماء وتحالفت مع الفؤوس”، نجد أن الشاعرة تمثل المرأة ككيان يتمرد على الضرورات الطبيعية والمجتمعية، حيث تعيد تعريف أدوارها الأنثوية بشكل مغاير. وتنعكس هذه الهشاشة في صور شعرية تتحدث عن الجسد والعقل بوصفهما كيانين مهددين بالتفكك والانهيار:

• “أجسادٌ تأثّثتْ رؤوسُها بلغْمٍ أسموهُ العقل”  . ففي هذه الصورة يأتي العقل كقنبلة موقوتة، والجسد كرأس مليء بالألغام. و لا يمثّل العقل هنا الحكمة أو الوعي، بل هو مصدر للتهديد والتدمير الذاتي، مما يعكس هشاشة الإنسان أمام نفسه.

• “أُتقنُ قراءةَ هذا العبثِ اللعيِن… الذي يبني في العقلِ أعشاشاً للغبار!”.  وتصوّر السريالية العقل كمساحة عبثية يمتلئ بالغبار والفوضى، لتعكس حالة الانهيار الداخلي التي يعيشها الإنسان. ولعل الفكرة هنا، أن العقل نفسه قد يصبح مكانًا للفوضى والهشاشة، بدلاً من أن يكون مصدرًا للاستقرار والتوجيه.

• “جسدي مِسبحةٌ آيلةٌ للانفراط” . وتعبّر هذه الصورة المتداولة ذهنيا عن هشاشة الجسد البشري، الذي يوصف بأنه مِسبحة، أي شيء مقدس، لكنه مهدد بالانفراط والتلاشي. وهي رمزية عن الشعور بالضعف أمام قوى الحياة والموت.

  تستند مريم العبدلي على لغة مفتوحة للتأويل، فتترك قارئها الأنموذج أمام أسئلة وتحديات حول معنى الحياة والوجود. لتدعو هذه الأسئلة هذا القارئ للدخول في عملية تبادل المعنى مع النص، إذ يعتمد فهم النصوص على التجربة الذاتية لهذا القارئ. ولا تقدّم النصوص في الديوان إجابات مباشرة، بل تسعى للتواصل مع متلقيها عبر تركيبة تجريدية غامضة تتطلب منه فك شفراتها. ليتقاطع الخطاب الشعري في هذا الديوان مع تجربة المرأة، ويستحضر الألم النفسي بوصفه جزءاً من الهوية الأنثوية. وتعكس النصوص تجربة الشاعرة كشخص يعيش في حالة من التوتر والاضطراب النفسي الدائم. ولعل الإهداء الذي يتصدر الديوان:

 “إلى المصابين بنوبات الهلع 

وإلى الأسماء المكتوبة في سجلات الطب النفسي

إلى كل الذين ليسوا على ما يرام

سننجو”.

 يعكس التأثير النفسي الواضح على النصوص، وقد يمثل تواصلاً مع فئة معينة من المجتمع تعيش تجارب مشابهة، لكن النجاة هي النهاية المفترضة، مهما طالت، باي شكل كانت!

 من هنا، تسهم السياقات النفسية والاجتماعية في تشكيل المعاني المختلفة للنصوص. فتُشير اللغة في النصوص إلى علاقة حوارية بين الشاعرة وقارئها، إذ تتجسد الأفكار المتعلقة بالقلق والخوف والوجود ضمن سياقات اجتماعية تعبر عن المرأة المعاصرة.

المعجم الشعري للديوان

1. المفردات الفلسفية والوجودية: تأتي المفردات المستخدمة في الديوان مثل “العدم”، “الجحيم”، “الخلاص” و”الجسد”، لتمثّل تداخلاً فلسفياً عميقاً مع الأسئلة الوجودية. تحمل هذه المفردات دلالات مرتبطة بالألم والمعاناة، وتشير إلى أزمة وجودية مستمرة. لتنقل هذه اللغة تأملات الشاعرة حول الوجود في عالم يبدو عبثياً ولا يقدم حلولاً.

2. المفردات النفسية: جاءت النصوص مليئة بمفردات تعكس الحالة النفسية مثل “الاكتئاب”، “الهلع”، و”اليأس”. فتعبر هذه المفردات عن حالة دائمة من الصراع النفسي، وكأن النصوص تعبر عن مواجهة لا نهائية مع قوى نفسية غامضة وصعبة السيطرة.

3. المفردات الطبيعية والكونية: يأخذ استخدام الشاعرة لمفردات الطبيعة مثل “الظلال”، “النجوم”، “الأرض” طابعاً سريالياً. لتخرج هذه المفردات عن معانيها التقليدية، فتصبح تجسيداً لحالات نفسية أو فلسفية، كما في تصوير النجوم على أنها “سمكة محنطة”.

4. المفردات الجسدية:  تعبّر مفردات مثل “الأحشاء”، “الدم”، “العظام” عن هشاشة الإنسان وأزمته النفسية. فليس الجسد هنا جسم مادي فحسب، بل هو ساحة للصراع الداخلي، وهو ما يعكسه الديوان بشكل متكرر.

يقدّم ديوان “أشياءٌ لا حوافّ لها” لمريم العبدلي تجربة شعرية غنية عميقة، تجمع بين الطابع الفلسفي والوجودي والتعبير النفسي، ويعكس استخدام الشاعرة للمفردات النفسية والفلسفية والطبيعية روحاً متمردة تحاول إيجاد معاني جديدة للحياة ووجودها، في عالم تتفشى فيه الفوضى والاضطراب. وذلك بتوظيف لغة مفتوحة للتأويل، تفتح الشاعرة باباً جديداً للتفاعل مع قارئها الأنموذج، مما يجعل النصوص المكوّنة له، مساحة حوارية غنية معه، منغلقة مع غيره من القراء. ولكن بالنهاية، هي تجربة ورسالة موجه من الذات نحو من يشبهها. يمثل الديوان (أشياءٌ لا حوافّ لها) قفزة شعرية طويلة بعد ديوانها الأول السابق “رواه عقل”، ليمنحها طابعاً مميزاً ضمن الشعر المعاصر.

فهد توفيق الهندال

مريم العبدلي، أشياء لا حوافّ لها، دار عرب، لندن 2023

أضف تعليق