التصنيفات
مدونتي

صمت Mute

عندما تشاهد لوحة صرخة مونش، فإنك تعيش مشاعر ذلك الكائن الذي يصرخ بملء فمه، ويغلق أذنيه عن صخب العالم في الآن ذاته. تخيّل معي، أنك تغلق فمك الكبير للحظة، وتفسح المجال لأذنيك لتستمعان لصخب العالم لبرهة، كيف يكون شعورك؟
ربما هذا ما حاولت ربطه بين لوحة مونش الصارخة ولوحة الفنان العالمي سليمان البسام “صمت Mute” وهو عمله المسرحي الأخير الذي قدمه مؤخرا ضمن مشروعه المسرحي المستمر منذ اشتغاله بالفن المسرحي.
يأتي عنوان العمل صمت Mute مبنيا على اللحظة الإنسانية الراهنة في تحولات عنيفة نحو جشع المادية والمرتهنة في انكسارات الإنسان العاجز أمامها، وهو القابض على جمر انتظار طويل رازح تحت عقارب الزمن البطيء في المعاناة والمتسارع في سحق ما تبقى من إنسانية في إطار دموي مستمر دون نهاية واضحة. ولعل الصمت حاليا هو المساحة التي “يُصادِرُ” فيها الإنسان قدرته على التعبير، في كسر متواصل لدوال اللفظ دون معناه المتداول.
احتوى العمل على أداء مسرحي متمكن متنوع للفنانة السورية حلا عمران وأداء موسيقي متنوع التأثيرات لكل من الموسيقيين علي حوت وعبد الرضا قبيسي من لبنان، أضافوا للنص المنسوج بعناية عبثية فائقة، متأرجحة بين الكوميديا السوداء والسخرية اللفظية بما تصنعه من مفارقات، والسخرية الظرفية من الحدث الخلفي (انفجار مرفأ بيروت أغسطس 2020) الفصل قبل الأخير من المعاناة المستمرة لطواحين الصمت!
في كتابه “الصمت في عصر الصخب” للرحالة النرويجي إيرلنغ كيج الذي يسرد فيه رحلته نحو القطب الشمالي مشيا على الأقدام وقد استغرقت 50 يوما ودون أجهزة تواصل، حاكى فيه تفكيك التدرج الحسي والنفسي والحاجة التفاعلية بين الصمت والوجود والكون والطبيعة، ليجد أن الصمت حاجة بقاء فعليّة، لما يهبه من حسيّة الفكرة التي تبدأ من الفنان وتنتهي عند المتلقي وتخلّد اللحظة الصامتة في العمل الفني على مدى عصور، وبالتالي تخلق تلك السكونات حالة وعي لاواعية بين الفن كأثر والفن كفكرة. وهذا نوع من الصمت في مواجهة صخب العالم.
وهناك صمت آخر، تمثّل يوما في مارينا أبراموفيتش التي سمحت للعالم أن يجسّد وحشيته فيها، فانكشف القبح الساكن فينا، وهي ملتزمة بالصمت!
فالصمت إذن، ثقيل على أذن نائمة كفعل دقات الزمن المعلّق، ومؤلم بعمق، عندما نفقد القدرة على الكلام جراء صدمة الحياة فينا.
أخيرا.. وبرغم خبرتي المهنية في عملي الإذاعي، كنت وما زلت، أتهيّب من اللحظة التي يصمت فيها الجميع بانتظار صوتي، لأني بت أفكر بكل احتمالات هذا الصمت المرعب من حولي.
وربما قد يكون هذا ما أراده سليمان البسام أن يخلقه في عمله صمت.

فهد توفيق الهندال

فهد توفيق الهندال

أضف تعليق