التصنيفات
مدونتي

بصيرة بورخيس

في كتابه الشهير ” صنعة الشعر ” يُقدم الأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس ست محاضرات عن الشعر ألقاها في جامعة هارفرد خلال الفترة ما بين عامي1967 – 1968 ضمن برنامج نورتون لكتشرز . حيث تناول المواضيع التالية ( لغز الشعر ، الاستعارة ، فن حكاية القصص عبر الشعر الملحمي ، موسيقى الكلمات ، الفكر والشعر ، ومعتقد الشاعر ) . ليضيف اسهاما كبيرا منه في تغذية الوعي الأكاديمي قبل المتلقي العادي في عمق هذه المحاضرات التي تعتمد الفكر الإنساني وسيلة للتواصل ونقل الخبرة ، وليس مجرد أستاذ أو محاضر يجلس خلف منصة ، متحدثا عبر موجات الميكرفون المتذبذبة متسلحا بلوائح المكان في فرض رهبته . لم هكذا بورخيس ، هذا الشاعر المتكامل في كل مجال، وهو الذي فقد البصر في منتصف عمره ، نتيجة مرض ما أصاب والده قبله . لقد وجد بورخيس العمل كمحاضر عام ، يلقي المحاضرات كأستاذ زائر في عدد من الجامعات ، وجد ضالته في توعية الآخرين لتذوق الفن والجمال في العالم المختلف المدعو بالشعر. وهنا تكمن أهمية الكرسي الجامعي في تقديرهؤلاء الأدباء في استضافتهم وتقديم محاضرات ترتكز على نقل الخبرة والحواربينه وبين جيل الشباب ، ليكتسب الكرسي بهم هيبة وعلما، فمتى يبقى هذا الكرسي شاغرا في جامعاتنا العربية ؟

في هذا الكتاب الصادر عن دار المدى عام 2007 و ترجمه باقتدار وأمانة صالح علماني ، أقف عند فصل ( معتقد الشاعر ) الذي فصّل بورخيس فيه القول ، لدرجة أنه يعتبر شهادة أدبية منه ، فذكر أنه يرى نفسه قارئا بالدرجة الأولى قبل أن يكون كاتبا ، وأن ما قرأه أهم بكثير مما كتبه ، معللا ذلك : ” فالمرء يقرأ ما يرغب فيه ، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه ، وإنما ما يستطيعه ” . ليعود بذاكرته إلى ما قبل ستين عاما ، إلى مكتبة والده في بوينس آيرس ، وقراءة ألف ليلة وليلة التي يعود إليها دائما شأنها في ذلك شأن قصيدة جون كيتس المسماة ( أغنية إلى عندليب ) التي كان يرددها والده على مسامعه ، ليتذكر هذه الأبيات منها :

أنت لم تولد للموت، أيها العصفورُ الخالدْ

يجب ألا يدوسك أناس آخرون جائعون

الصوتُ الذى أسمعه عابراً هذه الليلة، هو الذىسمعه

فى الأيام القديمة، الفلاحُ والملكْ

ربما هذا الغناءُ نفسه، قد شقّ طريقاً

إلى قلب “روث” الحزين، عندما، بحنينٍ إلى المنزل

توقَّفتْ باكيةً فى حقل قمحٍ غريب .

عندما يصرّح أديب عالمي مثل بورخيس عن أهمية قراءة ما قرأه سابقا ، بل ويتذكر ما كان يسمعه ويردده مرارا وتكرارا ، فلأنه أراد البوح بما كان يعتقده بأن اللغة مثلا ، هي لقول أشياء للشكوى أو للتذمر من عدم السعادة ، إلا أنه بعد سماع هذه الأبيات أيقن أن اللغة أيضا موسيقى وعاطفة ، وهنا تكشّف له الشعر ، وتبصّر فيه . لهذا يستمتع بورخيس في كونه قارئا أكثر من كونه كاتبا ، فالقارئ غير مضطر إلى الإحساس بالقلق والغم ، إنه يتطلع إلى السعادة وحسب .

لاشك ان عودة بورخيس إلى كتب سبق له قراءتها تختلف عن غيره ، وهو بمكانته الأدبية التي وصل إليها ، هو تجديد المعنى لهذه القراءات . إلا أن هناك من تعود على مرجعية محدودة ، لا يتقبل فكرة تجاوزها مع ذاته ، لضعف ما أو عجز في استيعاب معنى الشعر أولا قبل القراءة ، وانشغال تام بما خارج الشعر وعالمه الشفيف. وفي هذه الحالة المناقضة شكلا ومضمونا لحالة بورخيس يعيش هذا البعض وهما عبّر عنه الكاتب السعودي محمد الرطيان في خاطرة مذهلة :

” يقولون لك : قراءة كتاب واحد 3 مرات خير من قراءة 3 كتب مرة واحدة . لا تصدقهم، فهذا ما يروجه ” الحفظة ” ! والأكيد أن قراءة 3 كتب مرة واحدة أفضل . لست مطالباً بحفظها ولا حتى بفهمها الفهم الكامل . هي بالنهاية ستتراكم بداخلك بشكل لا تعيه .وتقوم بتشكيلك بشكل مختلف . ” مع الكتاب الواحد ” بقراءاته الثلاث ستكون نفس الكتاب . مع قراءة 3 كتب ستكون : أنت”. هنا تكون القراءة بصيرة أكثر .

لذلك عزيزي الشاعر الشاب، عندما تجلس بقرب شاعر صاحب تجربة، ابحث عن بصيرته في القراءة وتقبله الاختلاف مع الآخر شعرا وفنا. ولا تنجرف بعواطفك نحوه دون نقده، فإن الشعر تجدد وثورة في المعنى ، لا يستكين في ظل واحد.

فهد توفيق الهندال

أضف تعليق