التصنيفات
مدونتي

الطارئون في الكتابة للسياسة

أصبح العالم خلال فترة وجيزة أكبر منصة لتناول السياسة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، بصرف النظر عن الهوية والعمق التي تحتمها هذه الكتابات، ولكن أن تتصفح بعض الحسابات بشكل يومي، يصيبك العجب والملل في نفس الوقت من هذه المساحة الواسعة من المهتمين بالشأن السياسي، لتكون المنشورات والتغريدات مقياسك الحساس لفكرة صاحبها ومضمونها. وربما تعجبك تغريدات ومنشورات كثيرة ، في حين يصيبك مضمون بعضها بنوع من المغص المزعج . وقد ينطبق الأمر أيضا عند الآخر / القارئ !

في كتابه المختلف ، يقدم الإنجليزي جورج أورويل جملة من أفكاره وتأملاته وقراءاته التي تدور حول عالم الكتابة، وهو الروائي العتيد صاحب الأعمال المميزة والمؤثرة بقضاياها ورؤاها حتى اليوم – كرواية 1984 – لا يجد في كتابة المقال سوى رغبة ذاتية في التعبير عن بهجته عن شغفه المستمر تجاه الأسلوب النثري ، بعيدا عن التنظير السمج والرياء الفارغ . لذا ، فإن الجمهور الذي اختاره لم يكن من الطبقة الأرستقراطية بل الوسطى الدنيا غير المهنية التي لم تحظ بتعليم ثانوي والطبقة العاملة التي علّمت نفسها ذاتيا . ذلك مرده إلى أن أدب أورويل كان شعبيا في توجهه وليس نخبويا متعاليا .

في كتاب أورويل ( لماذا أكتب ) والذي ترجمه للعربية بكل اقتدار البحريني علي مدن وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ووزارة الثقافة البحرينية ، تم اختيار جملة من مقالاته التي عبّر عنها أورويل في أمنيته بأن يجعل الكتابة السياسية فناً ، برغم أن مقالاته هنا ليست منشورات سياسية وإنما تركيزها أدبي ، إلا أنه يرى أن كل كاتب هو بشكل ما داعية سياسي ، وأن مواضيعه محكومة بالرسالة التي يحاول نشرها . ولذلك كانت مقالاته نصيب دراسات محدودة لدراسة الفن الشعبي على اعتبار أنها تعبر بطريقة أو بأخرى عن المزاج العام غير الرسمي . وهنا جوهر أصل وفكرة المقال أنه تعبير عن رأي عام وفق نظرة شخصية قابلة للنقاش ومجبرة بالموضوعية مع الآخر ، على أساس أن كاتب المقال هو كاتب حقيقي متى ما فكّر باستقلالية وحرية أكثر من الأقلام المأجورة أو المروجة لأفكار حزبية ما . وهو ما قال عنه أورويل مرة : ” الكاتب ليس بامكانه أن يكون عضوا مخلصا في حزب سياسي ” . يقول ذلك وهو اليساري النشط والمؤيد لحزب العمال ، وقد يراه البعض تناقضا بقدر ما أراه شفافية ومصداقية لكاتب حقيقي ، يكتب عن واقع ملموس عليه أن يستمر في دورة حياته وأن لا تتوقف لأي سبب ، خاصة لو كان سياسيا ، لأن الحياة أشمل وأعم من هستيريا سياسية عابرة . لأختم المقال بهذا الاقتباس من مقاله ( بعض الأفكار حول العلجوم الشائع ) ليكون نصيحةلبعض المحسوبين على المقال السياسي شكلا وسطحا لا عمقا وفهما :” كم مرة وقفت وأنا أرى العلاجيم تتكاثر ، أو أرنبين بريين يقومان بمباراة ملاكمة في حقل قمح ناشئ ، وفكرت بكل الأشخاص المهمين الذين سوف يمنعونني من الاستمتاع بهذا لو أمكنهم ، لكن لحسن الحظ ليس بوسعهم عمل ذلك ، طالما أنك لست مريضا فعليا أو جائعا أو خائفا أو محبوسا في سجن أو مخيم عطلة ، الربيع ما يزال هو الربيع . القنابل النووية تتراكم في المصانع ، وافراد الشرطة يطوفون عبر المدن ، والأكاذيب تتدفق من مكبرات الصوت ، لكن الأرض ماتزال تدور حول الشمس ، لا الدكتاتوريون ولا البيروقراطيون – مهما اعترضوا بعمق على العملية – قادرون على ايقافها ” .

ما يود قوله أورويل في هذا الكتاب وأحاول اسقاطه في هذا المقال، أن من أهم أسباب تردي الكتابة للسياسة، هو هذا الزخم الكبير ممن يعتقدون أنهم كتّاب أو محللي سياسة، عبر حساباتهم الشخصية، ثم يتحولوا لضيوف دائمين في برامج سياسة وهم لا يملكون رصيدا وافرا من القراءات والمعرفة التي تؤهلهم لذلك، وهو ما تكتشفه في تعميم السطحية أو افتعال المعارك الكلامية دون أدنى قدرة على التحليل المنطقي والاقناع.

ولعل هذا ينسحب على الشأن الثقافي، فكثرة من يطلقون على أنفسهم كتّاب جعل الناس يضعون التفاح السليم مع الفاسد في نفس السلة.

فهد توفيق الهندال

أضف تعليق