التصنيفات
مدونتي

النص الروائي ومتاهته!

لاشك عند تحوّل الرواية التفاعلية إلى رواية منشورة أي مطبوعة، يعني انتفاء صفتها التفاعلية، لكونها باتت في صورة نهائية لا تقبل التعديل لاحقا، كما يظن. ولكن ألا يمكن أن تنشر منها طبعات لاحقة، قد تكون فيها استدراكات أو تعديلات عليها بعد تفاعل المتلقين معها كمطبوعة؟

من المعروف أن هناك طبعات معدّلة أو منقحة لروايات سبق لها أن صدرت في طبعات أولى، وجد الكاتب أو الناشر ضرورة في اصدار طبعات جديدة مَزيدة أو منقحة بناء على ردة فعل من القراء وآرائهم، أو أنها صدرت كأجزاء متفرقة، ثم صدرت جميعها في مجلد واحد. إذن كان هناك بالأصل تفاعل مع المتلقي، ولكنه تفاعل لاحق وليس متزامن.

ثمة أسئلة تحتاج مرانا كبيرا واطلاعا واسعا على مزاجية وانتقائية المتلقي، لأنه في الحالتين سلطة لا مناص منها و إليها.

والرواية التقليدية عانت من هذه السلطة لطبيعة التواصل اللاحق مع العمل دون أدنى فرصة للتفاعل مع النص والكاتب. وقد أتساءل هنا .. على مَن تقع مسؤولية تراجع الوظيفة التوصيلية في الرواية؟ هل تقع على عاتق المبدع (الروائي)، أم (المتلقي)، أم النص (الرواية)؟ 

بهذا السؤال انطلقت الناقدة السورية أسماء معيكل في كتابها ( الأفق المفتوح – نظريّة التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر ) حيث أنها وصلت لنتيجة شبه نهائية ، أنه ومع ثورة المعلوماتية في عصر التكنولوجيا المتقدمة، بدأ المبدع يحسّ بتراجع دور القراءة مما جعله يهمل القارئ عموما، ويجنح إلى تغليب الجانب الذاتي في إبداعه على الجانب الموضوعي، وهذا أدّى إلى تراجع الوظيفة التواصلية ، برغم أنها الأساسية للرواية. لأنّ المبد ع – كما ترى معيكل – لم يعد يهتم بمتلقيه ، بقدر ما هو مهتم بالتعبير عن قناعاته ورؤاه بعيداً من الموضوعية، وهو ما انعكس سلبا على المتلقي الذي بدأ يشعر بإهمال المبدع له وربما تعاليه عليه ، مما جعل عدد القراء الذين ما زالوا يقرأون له في تراجع مستمر من جهة. ومن جهة ثانية، أخذ القارئ يتّهم المبدع بالغموض والإغراب وصعوبة فهمه. وبدوره رفض المبدع الاتهامات الموجهة اليه ، وراح يحض القارئ على ضرورة تسلّحه بالأدوات المعرفيّة اللازمة لفتح أبواب النص، والدخول إلى عالمه. كما بدأ يطالب بوجود قارئ خارق أو نموذجي لنصه.

خلاصة ما تحاول أن تصل إليه معيكل أنه بات بعض الكتاب يخلق لنفسه قراء خاصين به ربما بشروط معرفته وثقافته، لا يقبل  من غيرهم أي أسئلة أو ملاحظات مادام أنهم خارج حظيرته.  وهو ما يعني انغلاق أعماله عليه وعلى من حوله فقط. هل يمكن أن ننفي صفة التفاعلية مع الرواية التقليدية بهذه الحال؟ 

في حين ، يكون الأمر مغايرا للروائي الباحث عن العالمية ، الذي يرى في أعماله – وترجمتها خاصة – وسيلة للحوار مع الآخر المختلف معه ، متجاوزا لغته ومدارك ثقافته ومعرفته،  دون مواربة أو خوف من اتساع أفق الآخر . 

لعل هذا ما يمكن تلمسه مع روائي عالمي مثل جابرييل غارسيا ماركيز الذي يصرح وهو في مجده الأدبي العالمي أنه بدأ الكتابة بمحض الصدفة ، فقط ليبرهن لأحد أصدقائه أن جيله قادر على أنجاب كتّاب ، ليسقط في شرك الكتابة ويجد فيها المتعة، ثم في الشرك التالي وهو اكتشاف أن عشقه للكتابة يفوق حبه لأي شيء آخر في الدنيا. لأسرد موقفا عنه ذكره الصحافي الكولومبي أليساندرو دوكي ، الذي زار  ماركيز بينما  كان يكتب رواية ( الجنرال في متاهته) ، ولاحظ كيف توقف ماركيز عن الكتابة فجأة وأجرى مكالمة هاتفية، صدمت دوكي نفسه ، حيث اتصل ليسأل أحد علماء الفلك إن كان قد تحقّق من أن القمر كان بدراً في 10 يونيو 1813 ، فجاءت الإجابة مخيّبة لآماله ، لأن ماركيز تغيّر وجهه وطلب من متحدّثه التأكد من هذه المعلومة  في  أقرب وقت ممكن لأمر مهم وعاجل وخاص بفصل كامل  بالرواية . فسأله دوكي ( أي قارئ سيهتم بهذه المعلومة، ومن سيبحث إن كان القمر يوم 10 يونيو 1813 كاملاً أم لا ؟) فأجابه ماركيز بأهمية وجود قارئ متابع للروائي، مستشهدا باسم فرناندو غارابيتو الذي كان يمسك بأخطاء ماركيز في روايات سابقة ، وبناء على ذلك يعتبره أصعب قارئ له ، ورغم أنه لم يكن يعرفه شخصياً.  

وعندما صدرت رواية ( الجنرال في متاهته) لم يجد دوكي الفصل الذي يحتوي على ليلة العاشر من يونيو 1813 في غرناطة الجديدة ، حيث لم يكن قمرها بدراً كما تمنى ماركيز. ليكمل دوكي أنه بعد ثلاث أو أربع سنوات تعرّف إلى غارابيتو شخصيا وأخبره بلقائه بماركيز وما حدث. حينها قال غارابيتو: ( من المؤسف أن نُحرم من فصل بهذا الجمال بسببي). 

بالمقابل، كان هناك تفاعل بين الروائي امبرتو ايكو وقرائه حول بعض أعمتاله الروائية، كتغييره لاسم شخصية روائية حتى لا يكون هناك ترابط نصي سهل المعاينة والادراك مع حياة روائي يحمل ذات الإسم. فللقارئ الحق في الربط بينهما. أو عندم سأله أحد أصدقائه عن اسم امبارو في رواية (بندول فوكو)، بأنه بالأصل اسم لجبل مذكور في بعض الأغاني الشعبية، مما سبب مفاجأة لايكو، وغيرها من الحكايات التي ذكرها عن تفاعل القراء معه، فلنتخيّل لو كان هناك تفاعل بالأصل قائم بين الروائي وقراءه عبر روابط متاحة للتواصل والتعليق؟

وهذا ما نحاول الوصول إليه، بأن أثر الرواية التفاعلية من الممكن أن يكون حميدا ومنجزا للنص في حال اتصاله مع المتلقي في لحظة الخلق والتكوين للنص. 

فهد توفيق الهندال

أضف تعليق