كانت القضية الفلسطينية أكثر حضورا في القصة من الرواية، لكون القصة هي الأسبق وجودا وكثافة في الفن السردي الكويتي منذ خمسينيات القرن العشرين، حيث شكّلت فلسطين مبدأ والتزاما لدى الكثير من كتّاب القصة في الكويت، فانتشرت عشرات القصص عنها في مجاميع قصصية عديدة لهم.
ولأن الأستاذ الراحل إسماعيل فهد إسماعيل المؤسس يعدّ المؤسس الفعلي والفني للرواية في الكويت مطلع السبعينيات، كان أكثر من حرص على حضور فلسطين إنسانيا في أعماله، عبر شخصيات فلسطينية، إما واقعية كناجي العلي في روايتي ( في حضرة العنقاء والخل الوفي ) و ( على عهدة حنظلة) ، أو شخصيات متخيلة مشاركة في رواية ( الشيّاح ) و رواية ( الحادثة 67) بما تعبّر عن الإنسان الفلسطيني الواقع تحت مطرقة الشتات وسندان السلطة مما يعبّر عن واقع عربي حتمي ومستحق ، يستظل به الكاتب العربي نشر قضاياه ، مخاطبا الجيل الآتي من الكتاب والقراء في أهمية تمركز هذا الجرح العربي في كتاباتهم .
في رواية ( ملف الحادثة 67 ) ، وقد قدمت كمسرحية من جانبالفرقة القومية التونسية لتنال جائزة مهرجان قرطاج قبل سنوات . يدوّن فيها إسماعيل تفاصيل التحقيق الذي أُجري لبطل روايته وهو خباز من أصل فلسطيني، حيث يتهم بجريمة قتل لشخص فلسطيني أيضا في سرد اعتمد خطي استجواب الحاضر واسترجاع الماضي. ليحاول التحقيق المنشغل بصخب المذياع المرسل لمختلف أنواع الأخبار اثبات تهمة الجريمة على شخص لم يرتكبها في يوم من الأيام فقط لأنه فلسطيني. والمتلقي لهذه الرواية يسبر أغوار عمق الرواية في ما يراه الكاتب من محاولة التاريخ الصاق تهمة الجريمة/ الهزيمة بضحايا الحرب أنفسهم، من شرّدوا و قتلوا وأسروا ودفعوا ثمن التهجير وفاتورة الحرب دون غيرهم. وما رفض المتهم من الاعتراف بالجريمة، إنما شريعة المحقق ليستمر عليه العذاب. ” استمرار الرفض هو استمرار التعذيب”. حتى يصل فيها التحقيق إلى نهايته حيث اعترف آخر تحت التعذيب بأنه الجاني للحادثة 67 ليصرخ الخباز: “أنا لم أكذب يا سيدي.. القاتل.. النيابة.. هو الذي يكذب.. القاتل هو الذي يكذب”.
في رواية (الشيّاح)، يرسم لنا إسماعيل ملامح الإنسان الفلسطيني بأجيال مختلفة لشخصيات أربع هم ( بولص، حنا، إبراهيم، أسعد) ، حيث لجأوا إلى بيروت بعدما نجوا من مذابح العصابات الصهيونية والتهجير القسري، ليقعوا في طاحونة الحرب الأهلية اللبنانية، وما كان السرداب الذي اختبأت فيه شخصيات الرواية، سوى مكان ليرصدوا العالم من أسفل، تتقاطع بين شوارعه نوازع حرب الإنسان ضد أخيه الإنسان، إبن وطنه و أرضه، وسط قناصة الحصار و قصف الصراع الداخلي بين الشخصيات فيمن يخرك كل مرة حتى يجلب المؤونة، مع تقصي الخبر من أعلى خارج خبر المذياع من أسفل، حتى تحين لحظة تنفيذ الأربعة لخطة الانقضاض على المسلحين، فيسقط بولصقتيلا دون فائدة من خبرته القتالية، ويُجرح حنا الذي يحمله إبراهيم لاسعافه عند المقاومة، ليبقى أسعد الذي كان تائه بأفكاره في عتمة السرداب ، يرعى وحيدا أربع نساء ومراهقة وطفل، حتى يسقط أخيرا هو الآخر على الأرض مضرجا بدمه. ” الخدر يزحف من أطرافه صعودا إلى الجذع. مع الخدر تملكه إحساس جديد بالسكينة، فصفا ذهنه. ” الملحمة الشعرية بحاجة لاعادة نظر جذرية !” وشعر للمرة الأولى بأنه فلسطيني، ليس كما كان في نابلس أو عمّان أو بيروت” .
وعن سباعية (إحداثيات زمن العزلة)، يذكر إسماعيل فهد إسماعيل في عدد مجلة العربي 497 تحت عنوان ( الغزو والرسم بالكلمات) شهادة للتاريخ ومنصفة عن الفنان الفلسطيني إسماعيل شمّوط الذي كان مقيما في الكويت:
” حدث الاحتلال. الانشداه والذهول، وكان أن تداعت أصوات طيبة.. فلسطينية وأخرى كويتية لتشكيل لجنة تهدف للتنسيق والتعاون ما بين الكويتيين والفلسطينيين من أجل تحقيق وحدة صف ناس الداخل لمواجهة العدو المشترك. شاءت المصادفة أن أكون أحد أعضاء اللجنة، وشاءت أن يكون الاجتماع الأول في منزل الرسام الفلسطيني العالمي.. عضو المجلس الوطني الفلسطيني: إسماعيل شموط، في منطقة الجابرية.. كان ذلك في اليوم الثامن للاحتلال، وعندما انفض الاجتماع استبقاني إسماعيل لدقائق. أخذني من يدي لإحدى صالات منزله حيث مرسمه. أراني لوحة زيتية قيد العمل.
قال والأسى يغلف صوته: “أنا عاجز عن مواصلة الرسم” صمت برهة. أضاف: “لعل السبب يكمن في توالي هذه الأحداث الجسام التي يعجز العقل السليم عن استيعابها” كانت زوجته الفنانة السيدة تمام قد التحقت بنا حاملة صينية الشاي.. خلال جلسة الشاي انفرجت أسارير إسماعيل قليلاً. قال بما يقرب من الدعابة: “ما رأيك والغزو قائم أن تتحول أنت إلى الرسم، وأتحول أنا إلى الكتابة؟!” لم أر مانعاً عن الاستجابة وقتها: “وهو كذلك”.. اللجنة باجتماعاتها المتواصلة. وما عن لأحدنا أن يسأل بهذا الخصوص.. أشهر الاحتلال، ومن ثم الحرب الجوية، فالبرية.. صبيحة اليوم الثاني للتحرير دخل علي إسماعيل شموط حاملاً مجلداً ضخما من الأوراق المطبوعة على الكمبيوتر. قال ضاحكاً: “وفيت بوعدي وكتبت”.. فوجئت بالوزن الثقيل للأوراق التي جاوز عددها أربعمائة. تذكرت اتفاقنا الذي هو أشبه بالدعابة. قلت: “لكني لم أرسم!” ضحك ثانية. قال “أدري!”، أضاف: “لعل جهدي هذا يفيدك كروائي”.
تصفحت الأوراق بعد ذهابه. وجدتها كنزاً لا مثيل له. كان قد حرص على تسجيل أهم الأحداث والأخبار المتعلقة بالاحتلال والحرب يوماً بيوم، سواء منها ما يخص الداخل أوالخارج، لم يترك شاردة ولا واردة.. لحظتها راودتني فكرة أن أكتب رواية تدور بأحداثها حول الاحتلال.. انكببت على حالي أكتب لأعوام ستة دون أن تفارقني أوراق إسماعيل شموط. كانت مصدراً أساسياً فريدا لإلهامي، ورفدي بما يلزمني من معلومات، ريثما تحققت رواية “إحداثيات زمن العزلة”. “
أما ( على عهدة حنظلة)، حيث يبدأ السرد بصوت ناجي العلي في غيبوبته بعد حادثة الإغتيال، وهو يصارع الموت في رحلة تعيده للخلف، مع تاريخه، سيرته، رفاقه، أفكاره، ويدخل في حوارات متخيّلة مع الذات والآخر، في عالم حليبي ضبابي، حيث المكان، لندن، مدينة ضباب المنفى، والزمان، ضباب المرحلة الفاصلة في مسيرة الحياة والنضال، مع رفاقه، إميل حبيبي ورسائله المتوالية، وحنظلة الصغير الذي يسبق حلمه بحاضره الهارب منه. لتتشكل لديه شخصية استوحى اسمها من ثمرة الحنظل، حيث المرارة التي لا تغتفر، كما هو حال مهنته كرسّام كاريكاتير يعيش واقعا مريرا ساخرا، على هيئة طفل/ مستقبل يحدق في عبر لحظة ما من تاريخ أمته العربية. ليتنقل ناجي الغارق في غيبوبته الجسدية، الحاضر في غيبوبة جسد أمته، بين مراحل مختلفة من حياته، ما بين الاسترجاع والعودة للحظة فقدان الوعي : “غبت عن الوعي أو غبت فيه .. أشبهني كمن رحل غفلة في عدم غير محدد ليعود منه”.
وبعد، هذه بعض النماذج من روايات إسماعيل فهد إسماعيل، وهي الأغنى في حضور فلسطين سردا وجرحا عربيا وإنسانيا، لعلنا نوفي إستاذنا بعضا من حقه علينا، مؤكدين حرصنا على تشجيع الشباب العربي في استحضار فلسطين إبداعا وهوية وتاريخا في ضمائرنا وكتاباتنا وإبداعاتنا.
فهد توفيق الهندال
معرض عمّان الدولي للكتاب
5 سبتمبر 2022


One reply on “الرسم بالكلمات مع إسماعيل فهد إسماعيل”
للأسف ابدعات اسماعيل فهد اسماعيل ظلمت إعلاميا ولم تأخذ حقها في الترويج و التسويق.
القضية الفلسطينية أصبح على ارفف مكتبة النسيان العربية ولم يعد لها ذكر، و اتمنى أن تكون حاضرة كما أشرت في آخر المقال في الرواية العربية
إعجابإعجاب