التصنيفات
مدونتي

الصهد والسرد

عندما تقرأ عملا روائيا بُعيد نشره بفترة طويلة، فإنك تتحرر كثيرا في قراءته والكتابة عنه، متلمسا عوالم العمل ذاته لا أصداءه، ملغيا أي تأثير مسبق قد يخيم عليك، لتحقق معنى الاحتفاء به كاصدار جديد وجدير بالكتابة عنه.

الصهد، عنوان العمل الروائي الأخير للروائي الصديق ناصر الظفيري، الذي صدر عن الزميلة مسعى للنشر والتوزيع شتاء 2013، بعد أعمال روائية وقصصية عدة، قـدّم من خلالها الظفيري هويته السردية التي تتشابك في حبكتها مع التاريخ عبر المكان باعتباره الشاهد بمحركي صراعه (الثابت والمتحول) في رصد جانب ما من جوانب مجتمع ما، لتدور حولها مفردات الخطاب وتتشكل معها عوالم السرد. ولأن الرواية مشروع في الكتابة الملحمية- كما يذكر الظفيري في أحد لقاءاته- أو قراءة في تاريخ الكويت، توقعت أن تكون ملمة بجوانب كثيرة وأماكن مختلفة ترصد متغيرات عامة وتحولاته على مختلف الأصعدة كما في عدد من الروايات العربية كرباعية إسماعيل فهد إسماعيل أو ثلاثيته عن النيل أو أرض السواد ومدن الملح لعبدالرحمن منيف وثلاثية تركي الحمد. إلا أن الظفيري اكتفى في الصهد في تركيز عدسته على مدينته «الجهراء» كمكان متخيل عن الكويت عموما، وهو ما كان في روايته السابقة (سماء مقلوبة)، وهـو قد يصح للروائي من دون المـؤرخ على اعتبار أن العمل الروائي بمجمله متخـيل ولو قـام على أسس واقـعية، إلا أنني أردت الوقوف عند فكرة الملحمة والرواية التاريخية.

جاء العمل مقسما على فصلين/ كتابين، عُنون الأول بـ (تأريخ) وجاء سردا لتاريخ المكان/ الجهراء عبر شخصيتين أساسيتن:

– ابن فضل، التاجر القادم من الشمال، الباحث عن فرص جديدة.

– شومان البدوي، عاشق الفضاء الذي اعترك الصحراء بكل ما فيها.

إضافة إلى شخصيات ثانوية، تناسلت منها معالم السرد اللاحق في الفصل الثاني الذي عُنون بـ (الرواية) الذي يفترض أنه امتداد السرد والتخييل، ليفتتح السرد فيه عبر تكنيك الاسترجاع في قراءة علي بن شومان – الشخصية الأساسية هنا – لمخطوط ليال التي شكل معها وربما بقية السرد في الفصل الثاني الذي كانت الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن العشرين لوحته الزمنية في رسم المعالم السياسية والاجتماعية لبعض شخصيات العمل. لينتهي الزمن بُعيد تحرير الكويت من الغزو العراقي الغاشم فيتوقف زمن السرد عند من ابتدأ به أصلا «شومان» الذي اقتبس اسمه من الشؤم كما جاء في أول فصل (شؤمان) فتمثل الأول بموت أبيه وهو جنين ببطن والدته، والآخر عودته إلى الواقع بعدما تحول لخرافة. وكأن ثمة ثأرا قديما بين الشؤم وشومان، فاستمر معه بعد معرفته بابن فضل وموت أمه وتركه الصحراء/ الفضاء، انتهاء إلى ما وصل إليه من حال… كائن غريب في أرض مولده و محله وترحاله.

وكما كان السرد كثيفا/ متماسكا في الكتاب الأول وشيقا في الحفر والحكايا التي خبئت في ذاكرة المكان الذي كان شحيحا/ انتقائيا ليهب دفئه إلا لمن يملك فقط، برغم أنه بات موطن من هاجروا إليه بحثا عن حياة أخرى. تمنيت لو كان كذلك السرد في الثاني، خصوصا في الفصول الساردة عن جغرافيا جديدة في السرد الخليجي والكويتي حيث الغربة بين كندا ونيويورك، حيث اكتفى الروائي ببعض المشاهد التي برغم قلتها إلا أنها كانت الأكثر إثارة للفضول وحراكا للسرد الذي كان يسحب ياقتنا للتعرف أكثر على تلك الزوايا المنعطفة في رحلة الغربة إلى بلد آخر تجمعت فيه أيضا نفوس من مشارب مختلفة لتبني وطنا منوعا بالثقافات، ساكنا بالأمل، فيكونوا زاد الدفء في أرض مسكونة بالبرد. ولعلي هنا أسترجع ذات الملاحظة التي اشتركت فيها مع كثيرين حول رواية (ساق البامبو) للروائي سعود السنعوسي، حيث كان الجزء الخاص المتعمق بالفلبين الأكثر غنى وتشويقا من الآخر الخاص عن الكويت.

كذلك فإن تناوب السرد بين المكان الأول «الكويت»/ المكان الثاني «الغربة» في هذا الجزء من الصهد كان كفيلا لتشظي السرد بين علي/ ليال/ ريما، وإن كان علي هو سارده الطاغي بانفراد، النقطة التي تعطي الأفضلية لسرد الجزء الأول الذي جاء على لسان سارد خارجي كلي المعرفة، يركز بؤرة الحدث في ذات المكان/ الجهراء. إضافة إلى المرور الزمني السريع على فترة الغزو والاحتلال العراقي في فصل (ذات خميس من آب) فجاء زمن الحكاية قصيرا وخاضعا لزمن السرد العابر.

أختم المقال بأن الصهد كرواية تستحق الاحتفاء بها، برغم ما أثرناه هنا من باب محبتنا للصديق ناصر الظفيري الذي أتمنى أن يكون الصهد بداية استرجاع نَفَسِ المكان عبر أعمال روائية قادمة أراهن دائما عليها في حرفية كاتبها واشتغاله السردي الجاد والفكري المتميز.

فهد توفيق الهندال

نشر المقال في تاريخ 17 سبتمبر 2014

توفي الروائي ناصر الظفيري في مارس 2019

One reply on “الصهد والسرد”

أضف تعليق