التصنيفات
مدونتي

زهور الحرب

من أجمل فرص عطلة نهاية الأسبوع ، قائمة الأفلام العالمية التي تبحث عنها وفقا لبعض الترشيحات التي تأتيك من اصدقاء ، أو أن الصدفة وحدها التي تضعها أمامك ، فيكون حظك سعيدا في متابعتها والتعرف عليها ، ومن ثم البحث عن أصل القصة وظروف انتاجها ، بما قد يضيفه إليك من خبرة جديدة في تذوق الفن العالمي .
من جملة الأفلام المميزة التي شاهدتها مؤخرا ، الفيلم الصيني ” The Flowers of War” زهور الحرب المقتبس عن رواية بعنوان 13 Flowers of Nanjing للروائية الصينية جيلين يان حيث تدور أحداث الرواية في الصين عام 1937 إبان الاجتياح الياباني للصين في الحرب بينهما ، من ضمنها مدينة نانجينغ التي تشهد مذبحة فظيعة شهيرة تتحول بعدها إلى مدينة أشباح بسبب الدمار الهائل الذي لحق بها ، وهروب من تبقى من أهلها بحثا عن فرص النجاة ، في حين تبقى مجموعة من الطالبات الصينيات محاصرات في كنيسة المدينة التي تتحول إلى المكان المسكون الوحيد في العمل ، فيصل أثناء ذلك جون ميلر متعهد دفن الموتى الذي أدى دوره الفنان العبقري كريستيان بيل لدفن كاهن الكنيسة المتوفى ، فيقوم بتقمص شخصيته مضطرا يساعده في ذلك صبي الكاهن السابق ، حتى مجيء مجموعة من مومسات المدينة بعدما هجرن الماخور الذي كن يعملن فيه هربا من جنون وبطش الجنود اليابانيين ، ليجد ميلر نفسه متورطا مسؤولا عن المكان دون إرادته .
حمل الفيلم أبعادا إنسانية أفرزتها ويلات الحروب ، وما يعيشه الناس في ظل انعدام قوانين وحقوق الإنسان ، وكيف يتحول البشر إلى ذئاب تأكل كل ما يسد حاجتها ويشبع غريزتها ، وهو ما ظهر في شخصية ميلر الذي حاول الانتصار لشهواته ، إلا أنه تخلى عنها في سبيل الانتصار لروحه الإنسانية الساكنة في جسده المخمور المعربد . كما ظهرت القسوة والبشاعة في تعامل الجنود الغزاة مع المكان ومن فيه ، لاسيما الطالبات اللاتي كتمن سر وجود الأخريات المومسات فدفعن براءتهن ثمنا عنهن ، مما أوقع الأخيرات”المومسات” في حيرة ما بين واقع عملهن الأساسي كمصادر متعة للآخرين ، وبين إنسانيتهن في تعاطفهن مع الطالبات وما حدث لهن بسببهن . أو ذلك الضابط الياباني الذي فرض حماية على الكنيسة ومنع التعدي على من فيها ، مقابل أن يستمع لغناء الطالبات بشكل دوري ، قبل أن ينقل ويأتي آخر لا يفكر خلاف جنوده المغتصبين لكل منابت البراءة . لنضيف أيضا شخصية المرشد الياباني في المنطقة عندما أوكل ابنته إلى ميلر لتكون في عهدته بجانب الطالبات ، فيكتشف حقيقة وجود المومسات لاحقا ، ويصمت ولا يفضح المكان ، ليموت والسر معه .
لهذا جاء الفيلم متضمنا جملة من التناقضات حفل بها المكان الواحد ، تنوعت بين شخصيات العمل الذين عاشوا صراعا بين البحث عن فرصة النجاة على حساب الآخرين ، أو الانتصار للروح الإنسانية ولو كان على حساب حقها في الحياة ، فتأتي رسالة الرواية / الفيلم بأن الشرف ليس في أن يحفظ الإنسان نقاءه وطهارته ، بقدر ما أن يحفظ أيضا إنسانيته في تضحيته من أجل الآخرين .
العمل قد لا يتطرق للجانب العقائدي ، إلا أن المكان المستعار في الرواية / الفيلم ، وما يمكننا أن نستبدله بأمثلة أخرى قرينة له بالرمزية ، يجعلنا نتساءل .. هل يكتسب المكان رمزيته ودلالته بما يشكله الظاهر أم بما يضمنه من جوهر ؟
من هنا ، كان المكان دائما في حالة تفاضل بين منزلته ووظيفته ، فالأماكن ليست سواء في رتبتها وتأثيرها وكثافتها الروحية . فوجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر روحانية وفضلا من وجودها في أمكنة أخرى – كما يرى ابن عربي – حيث تتحقق للمكان منزلته ، وتنمو في ضفافه الموحشة زهوره التي لا تذبل أبدا !

فهد توفيق الهندال

أضف تعليق