للمسرح العراقي دور مهم جدا في دعم الحركة المسرحية العربية والعالمية بما أنجبه من نجوم كبار أثروا الوعي الفني لدى المبدع والمتلقي ، ومنهم الأستاذ الراحل قاسم محمد صاحب البصمة المؤثرة في المسرح العربي قاطبة ، عبر سيرته الفنية الخالدة ، نختار منها العرض المسرحي ( مكاشفات ).
المعروف أن العرض مُعد عن مسرحية (مكاشفات عائشة بنت طلحة) للأديب الشاعر السوري خالد محي الدين البرادعي التي كتبها عام 1993 ، مع مقاطع من مسرحية (ابن جلا) للشاعر والروائي والمسرحي المصري محمود تيمور التي قدمت عام 1962 وأخرجها المسرحي الكبير زكي طليمات . والمقال سيتناول العرض الذي قدّم في الكويت خلال مهرجان هيئة المسرح العربي في فبراير 2016 ومن اخراج غانم حميد.
طرح العمل فكرة ديكتاتورية / طغيان الإنسان في كل مجال و زمان ، بدءا من العصر المحكي عنه وهو زمن الدولة الأموية ، إلى الوقت الراهن . وجاء اختيار الحجاج الثقفي في العمل كنموذج جدلي وليس تاريخي ، مع اسقاطات الديكتاتورية التي عرفت عنه شخصيته على مناحي الحياة المختلفة ( السياسية ، المجتمعية ، الدينية ، الثقافية ) .
فالحجاج شخصية تتمتع بوجوه عدة للسلطة :
* سلطة اللغة / الخطاب لكونها من الشخصيات العربية الفصيحة بالبيان .
* سلطة الدين ، لكونها وظّفت الدين في قمع المعارضين / الخارجين عن ولي الأمر .
* سلطة النظام ، فهو أول من أسس الدواوين وأنظمة الجند وغيرها .
* سلطة عسكرية في اضطهاد الثائرين على الدولة ، مع امتداد دوره المهم في الفتوحات الإسلامية .
إلا أن السلطة الضعيفة في سيرة الحجاج ، سلطة العاشق ، لعجزه عن امتلاك مفاتيح الحب لقلب المرأة ( عائشة بنت طلحة نموذجا ) ، مما كشف هنا عن الشخصية الأضعف له ، شخصية الإنسان .
أما شخصية عائشة ، فقد مثلت سلطة لوحدها ، ففي صراعها مع الحجاج شكلت جانبي التاريخ حيث سلطة المحاسبة ، كما شكلت المرآة للحجاج في المكاشفة ، عبر الحوارات الثنائية والمونولوج لكل منهما على حده ، في صراع درامي بين الحب والديكتاتورية.
اعتمد نص العمل على الحوارات بين عائشة والحجاج في جانب ، وعلى المونولوج الخاص بهما في جانب آخر ، في بناء درامي يعتمد على فنية الإعداد في المقابلة بين الشخصيتين لكشف التناقضات المختلفة بين الشخصيتين من جهة ، والصراع النفسي داخل كل شخصية من جهة أخرى ، في تقاطع زمني مستمر بين الحاضر والماضي . والعرض جاء مختلفا عن النص في بعض نواحيه ، بما يعزز إعادة النظر المستمرة للمخرج في رؤيته للعمل ، وهو دليل التحول نحو ما يمكن أن يكون أكثر تأثيرا للعمل فنيا ، وعلى متلقي المسرح تاليا .
بالمجمل ، فرض النص ببلاغته الشعرية الخطابية على العرض ، وأعتقد أن المخرج استعان بقدرات الممثلين القديرين شذا سالم وميمون الخالدي لضمان هذا الارتقاء بمستوى الأداء والعرض عموما ، مع مداخلات موظفة فنيا للفنان فاضل عباس وتوظيفه للعامية العراقية في العمل.
كانت السينوغرافيا النجم الأول للعرض ، وابتعد المخرج في توظيفها عن الدقة التاريخية ، مكتفيا ببساطة الديكور والأزياء بما يدل على الزمن المحكي عن الحجاج وعائشة ، وبالوقت نفسه تحرر من قبضة التاريخ بإدخال الواقعية المعاصرة في بعض فترات العرض بما يؤكد اتصاله بالواقع المعاش . كما اعتمد على الشاشات البيضاء في الجهات الثلاث ، مع الأرضية المفروشة بقطن متناثر، وقد تم توظيفها بصريا بانعكاسات الإضاءة المختلفة بحسب حبكة الحدث والزمن و لهجة الحوار المرافق . إضافة للحروف المعلقة التي أعطت انعكاسات ضوئية مختلفة ، علها تفيد تغير ثبات المعني في سياقات الزمن المختلفة ، وحملت جملة ( الإنسان بنيان الله على هذه الأرض ملعون من هدمه ، وملعون من تستر على هادمه ) .
وجاء بيت عائشة بنت طلحة ، غرفتها الخاصة مع وجود منبر في أقصى يمين المسرح ، دون أي فاصل مكاني برغم التنقلات الزمنية بينهما ، مستفيدا من فضاء المسرح المفتوح المعتمد على ديكور قليل بما يعمق الفرجة البصرية ، لكونها قادمة من عمق التاريخ ، وتتجه إلى ما هو أعمق من الخطاب . وكان للموسيقى التصويرية حضور مواز مع تبدل الحدث والحوار. كذلك الأزياء المتعددة طوال العرض بما تفيد تداخل زمن الخطاب .
ثمة رمزية أخرى العمل تجسدت في المنبر ، الذي شكّل عدة هوّيات في الحياة العربية ، فهو منبر السياسة التي تعلن خطابها المتعدد للعامة ، منبر الدين حيث الأمر والنهي ، منبر الثقافة في كونها لسان السلطة أو المعارض لها ، منبر الحب في ارتفاع وتيرته أو هبوطها .
فهد توفيق الهندال

