يذكر فيليب دوفور حول فكر اللغة الروائي ، بأنه ليس مجموعة من المنطوقات التي يمكن تجميعها كفقرات الوصف أو رسم الشخصيات فقط ، وليس سلسلة من التأكيدات ومجموعة من الأقوال المأثورة أو الاستطرادات التي يقوم بها الراوي ، بل هو شكل الفكرة الجمالية التي تصبح محسوسة عبر اللغة وتظهر للعيان ، لكون الشكل هو المفكّر .
وتملك هذه الفكرة الجمالية علّة وجود تاريخية . يحمل الفكر الروائي تأريخية ما لأنه ينتج عن اتصاله بالتاريخ الذي يطالب به . تشكّل المعرفة الموجودة في الرواية حاجة وتنبع من القلق .
قد تتشكل اللغة ثانية بذاكرة مثقوبة ، في مكان يمتلك ثقوبا في هويات شخصياته ، وهذا ما يمكن أن نلحظه في رواية ( كاليسكا ) للروائي الكويتي الراحل ناصر الظفيري ، حيث تشكّل هذه الرواية حجر زاوية ثلاثية الجهراء التي بدأت السرد مع العمل السابق ( الصهد ) ، حيث شكل المكان ذاكرة وهوية لأبنائه المغتربين في مهجرهم أو منفاهم . تكمل كاليسكا الرواية سبر التاريخ الاجتماعي للبدون في الكويت ، ولكن في حكاية مختلفة ، قد تكون من أصل حكايات كثيرة يمكن أن تسرد عن هذه الفئة وهي في غربة المهجر . بطل العمل (العوّاد) الذي دفعته الظروف قسرا للهجرة لكندا بعد ابعاد إداري بحجة أنه بدون ولا يملك وثائق رسمية تمكنه من الإقامة القانونية في الكويت ، بسبب علاقة حب جمعته مع أخت أحد المتنفذين بالبلد .
الرواية تقع في 340 صفحة ، ولكن يهمنا الجزء الثاني منها الخاص في المهجر ، حيث جاءت اللغة كمحور حوار بين شخصيتي ( العواّد ) و ( ستيفاني ) ، وقد حمل الأول في المهجر اسم صاحبه الكويتي ( فهد غانم ) ، حيث يتم منحه الجنسية الكندية بعد هجرته . وهذا الحوار جرى بين شخصيتين عانتا من محاولات تهجير من الهوية الأصلية ، فستيفاني تمثل نسل الهنود الحمر في كندا ، الذي باتوا مواطنين من الدرجة الثانية في موطنهم . ولعل الحوار التالي يكشف نوع هذا التهجير :
( قالت له فجأة : ” لماذا تركت وطنك ؟ ” . ” لم أتركه ، هو تركني ” . ” ولماذا تركك ، آسفة لا أريد أن أجرحك ” . ” لن تجدي في جسدي مكانا لجرح جديد ” . قال وكأنها لاحظت دمعة سقطت مسرعة ، توقعت أنها سقطت في كأسه القريب من شفتيه ) .
وفي حوار آخر بين الاثنين ، أدارته هذه المرة ستيفاني عن كندا في إحدى المستعمرات التي بقيت للهنود الحمر في الشمال ، وكيف أن الأمهات شكلن الأحلام كلغة جديدة للصغار :
( لا تتوقع أن هذه الأرض أكثر رحمة من أرضك ، كنا بسطاء نعيش لغتنا وديننا وإيماننا وزراعتنا وصيدنا وعاداتنا . كان والدي في السادسة في الفضاء الوحيد الذي دفعه إليه البيض ببنادقهم ، حين جاءت الشرطة بطائرات مروحية هبطت في الساحات وشاحنات شرطة وسيارات كطيور جارحة وضوار زاحفة جمعوا الأطفال فوق السادسة وأركبوهم الشاحنة التي انطلقت بهم إلى مكان لا يعرفه أحد . علموهم أن يتحولوا إلى سكان بيض مثلهم ولم يعد إلى أهله . تزوج امرأة بيضاء ونسي اللغة والدين وكل ما يمت لقبيلته بصلة . صنعوا منه إنسانا كما يصنعون منك . يجب أن تهرب من هنا . أن لا تتحول إلى نسخة من الجميع فلا تعرف من أنت ” ) .
وفي مهجره ، تعرف هناك على رجل مثله مهاجر وصفه برجل يتكلم لهجته ، أي من المنطقة أو الكويت بالتحديد . حيث دارت بينهما مصلحة العمل رابطا غير اللغة الأصلية ، فمهما غدا المكان الأول ماضيا ، إلا أن له بصمته :
( هكذا تبدو بصمة المكان الأول هي البصمة الحقيقية الدائمة على المصائر . بصمة لا يمكن لعوالم أخرى أن تزيلها ، هكذا تبدو كوحمة الولادة تعرف بها الأمهات أطفالهن وخرافة أسبابها . )
نجد في الرواية أن اللغة الأم عندما تهاجر أو تهجّر ولو في موطنها الأصلي ، لا تغادر جسد أبنائها ولو في أحلك الظروف ، لكونها الذاكرة ، مهما ازدادت فيها الثقوب بفعل الزمن ، والندوب بفعل الإنسان ، ربما قد لا يكون الآخر ، ربما الأنا ذاتها ، عندما تحاول التخلص من الماضي المشكّل لحقيقة واقعها . كما شخصية العقيد عبدالرحمن اليزاز ، الذي رفض أي زواج شقيقته رشا و العوّاد أو أي شكل من أشكال العلاقة بحجة أنه أقل منهم اجتماعيا ، في حين الأصل الواحد يجمع الاثنان ، وحدها الصدفة التي فرّقت بينهما اجتماعيا في الكاف الأولى ، الكويت .
كذلك على الضفة الأخرى ، كاف أو الكف الثانية على وجه الهوية، كندا ، مهما صوّرت للجميع أنها الحلم للمنفيين لغة وهوية ، إلا أنها بالحقيقة فخ ، لو تم تجميله ببعض الخرافات أو الأساطير ، بفخ أحلام . ومع ذلك ، هي حلم افتراضي ، في ذكرة اللغة المنسية / الأصلية ، كما جاء في وصف الطبيعة هناك على لسان ستيفاني للآخر الذي معها من هناك ، العوّاد أو فهد غانم ، أيا كانا فهما واحد ولو أنه اسم لشخصين : ( كلما جئت هنا جلست لوحدي أصنع عالمي السابق والذي لم أعشه كاملا هنا أرى قبيلتي وأطفالها وأسمع لغتهم وأعتقد أنني أجيدها ، أرى جدي يدخل البايب كطقس ديني للخالق الذي منحنا الأرض ) .
يحسب للراحل ناصر الظفيري حيلته السردية في الفصول الخاصة بالطارئين على الحكاية، مما يمثل عمقا فنيا في التركيب الروائي، يجعل المتلقي في رباط مع النص. لنفتقد برحيل ناصر الظفيري قامة أدبية روائية، لها فكرها الخاص بلغة وفن الرواية.
فهد توفيق الهندال

