على مَن تقع مسؤولية تراجع الوظيفة التوصيلية في الرواية؟ هل تقع على عاتق المبدع (الروائي)، أم (المتلقي)، أم النص (الرواية)؟ بهذا السؤال انطلقت الناقدة السورية أسماء معيكل في كتابها ( الأفق المفتوح – نظريّة التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر ) الصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيث أنها وصلت لنتيجة شبه نهائية ، أنه ومع ثورة المعلوماتية في عصر التكنولوجيا المتقدمة ، بدأ المبدع يحسّ بتراجع دور القراءة مما جعله يهمل القارئ عموما ، ويجنح إلى تغليب الجانب الذاتي في إبداعه على الجانب الموضوعي ، وهذا أدّى إلى تراجع الوظيفة التواصلية ، برغم أنها الأساسية للرواية . لأنّ المبد ع – كما ترى معيكل – لم يعد يهتم بمتلقيه ، بقدر ما هو مهتم بالتعبير عن قناعاته ورؤاه بعيداً من الموضوعية ، وهو ما انعكس سلبا على المتلقي الذي بدأ يشعر بإهمال المبدع له وربما تعاليه عليه ، مما جعل عدد القراء الذين ما زالوا يقرأون له في تراجع مستمر من جهة . ومن جهة ثانية، أخذ القارئ يتّهم المبدع بالغموض والإغراب وصعوبة فهمه . وبدوره رفض المبدع الاتهامات الموجهة اليه ، وراح يحض القارئ على ضرورة تسلّحه بالأدوات المعرفيّة اللازمة لفتح أبواب النص، والدخول إلى عالمه. كما بدأ يطالب بوجود قارئ خارق أو نموذجي لنصه ! خلاصة ما تحاول أن تصل إليه معيكل أنه بات بعض الكتاب يخلق لنفسه قراء خاصين به ربما بشروط معرفته وثقافته ، لا يقبل من غيرهم أي أسئلة أو ملاحظات مادام أنهم خارج حظيرته . وهو ما يعني انغلاق أعماله عليه وعلى من حوله فقط ! في حين ، يكون الأمر مغايرا للروائي الباحث عن العالمية ، الذي يرى في أعماله – وترجمتها خاصة – وسيلة للحوار مع الآخر المختلف معه ، متجاوزا لغته ومدارك ثقافته ومعرفته ، دون مواربة أو خوف من اتساع أفق الآخر . لعل هذا ما يمكن تلمسه مع روائي عالمي مثل جابرييل غارسيا ماركيز الذي يصرح وهو في مجده الأدبي العالمي أنه بدأ الكتابة بمحض الصدفة ، فقط ليبرهن لأحد أصدقائه أن جيله قادر على أنجاب كتّاب ، ليسقط في شرك الكتابة ويجد فيها المتعة ، ثم في الشرك التالي وهو اكتشاف أن عشقه للكتابة يفوق حبه لأي شيء آخر في الدنيا . لأسرد موقفا عنه ذكره الصحافي الكولومبي أليساندرو دوكي ، الذي زار ماركيز بينما كان يكتب رواية ( الجنرال في متاهته) ، ولاحظ كيف توقف ماركيز عن الكتابة فجأة وأجرى مكالمة هاتفية صدمت دوكي نفسه ، حيث اتصل ليسأل أحد علماء الفلك إن كان قد تحقّق من أن القمر كان بدراً في 10 يونيو 1813 ، فجاءت الإجابة مخيّبة لآماله ، لأن ماركيز تغيّر وجهه وطلب من متحدّثه التأكد من هذه المعلومة في أقرب وقت ممكن لأمر مهم وعاجل وخاص بفصل كامل بالرواية . فسأله دوكي ( أي قارئ سيهتم بهذه المعلومة، ومن سيبحث إن كان القمر يوم 10 يونيو 1813 كاملاً أم لا ؟) فأجابه ماركيز بأهمية وجود قارئ أسطوري للروائي ، مستشهدا باسم فرناندو غارابيتو الذي كان يمسك بأخطاء ماركيز في روايات سابقة ، وبناء على ذلك يعتبره أصعب قارئ له ، ورغم أنه لم يكن يعرفه شخصياً . وعندما صدرت رواية ( الجنرال في متاهته) لم يجد دوكي الفصل الذي يحتوي على ليلة العاشر من يونيو 1813 في غرناطة الجديدة ، حيث لم يكن قمرها بدراً كما تمنى ماركيز . ليكمل دوكي أنه بعد ثلاث أو أربع سنوات تعرّف إلى غارابيتو شخصيا وأخبره بلقائه بماركيز وما حدث . حينها قال غارابيتو: ( من المؤسف أن نُحرم من فصل بهذا الجمال بسببي). هنا تتحقق موضوعية الروائي والقارئ معا .
التصنيفات
