
يذكر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بأن أجهزة المجتمع الأيديوليجة تقوم بوظيفتين أساسيتين: الأولى هي إضفاءالمشروعية على ممارسة السلطة والجماعة المهيمنة،والأخرى هي “تشكيل هويات” الأفراد وصياغة الوعي الجماعي والذوق العام، أو ما يسميها ريكور بوظيفة”إدماج” الأفراد في أيديولوجيا الجماعة ، هدفها إضفاءالمشروعية السابقة. ويوضح أن هذه الوظيفة من خلالالطقوس الاحتفالية التخليدية التي تحيّن بواسطتها جماعةما الأحداث المعتبرة في نظرها والمؤسسة لهويتها مثل يومالاستقلال ويوم الثورة. إن وظيفة الأيديولوجيا في هذه اللحظة هي : “نشر الاقتناع بأن تلك الأحداث المؤسسة هي عناصر مكونة للذاكرة الاجتماعية، ومن خلالها للهوية نفسها” . ويعتقد ريكور أنه من الهوية الذي لا يتحقق إلا بالتأليف السردي وحده، حيث يتشكل الفرد والجماعة معاًفي هويتهما من خلال الاستغراق في السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة لهما بمثابة تاريخهما الفعلي. ولعل الهوية القومية هنا خير مثال على تحكمها في مصير الأمة ، فإما الولاء التام أو تواجه تهمة العمالة للإعداء حتى لو دخلت الأمة في حروب طاحنة ، تهلك الحرث والنسل ، كما دخلتها البشرية في القرن العشرين ، حتى نكون واقعيين زمنيا مطلعين ما لآثارها حتى اليوم . على الجانب الآخر ، في كتابه المذهل ( مهزلة العقل البشري ) ، ينطلق المفكر العراقي علي الوردي من فكرة ضرورة البحث و فهم الحقيقة قبل فوات الأوان، إذ أن العالم الإسلامي يمر بمرحلة انتقال قاسية، يعاني منها آلاماً تشبه آلام المخاض، ففي كل بيت من بيوت المسلمين عراكاً وجدالاً بين الجيل القديم والجيل الجديد، ذلك ينظر في الحياة بمنظار القرن العاشر، وهذا يريد أن ينظر إليها بمنظار القرن العشرين . يضيف الوردي بأنه كان ينتظر من المفكرين من رجال الدين وغيرهم، أن يساعدوا قومهم من أزمة المخاض هذه، لكنهم كانوا على العكس . وهو ما نجده اليوم في التقاتل ليس بين المذاهب وإنما في البيت الواحد ، كما ذكر الوردي . من واقع الفكرتين ، نجد أننا نعتاش منذ عقود على سرد اجتماعي متوحّد منفرد في مرجعيته و أثره ، ورثنا قوالبه الجاهزة لكل عصر ، كما هي اختلافات الأجيال السابقة ، وهو ما كان يعرّف بصراع الأجيال ، في حين أجد أنها صراع الأفكار في مدى تقبلها من العقل البشري ، ولا يكون ذلك إلا في إعادة تفكيك ذاكرة المجتمع ، وربما في بعض الأحيان نحتاج لتدمير قوالبه الجاهزة لموروثات الماضي التي تعرقل التفكير الإيجابي نحو المستقبل. معولنا في ذلك العقل ، الذي اجتمعت الأديان والفلسفات على أنه الكائن الأكثر حيوية و تحولا و قابلية في النقد والتحليل ، وتدعو لتحكيمه مقابل النقل في كل عصر . قصص كثيرة وردت على لسان الوردي في الكتاب الآخر الذي كتب عنه ( علي الوردي في ملفه الأمني ) الذي أعده سعدون هليل ، كيف أن الغرب أخذ عن المسلمين علومهم ، مقابل الخرافات التي سيطرت على تفكير العامة منهم حول كيفية نشوء الكهرباء ، وهو ما يعني سبب التفوق الفكري للغرب اليوم على العرب ، بيد العرب أنفسهم . مقابل ذلك ، ألا يدعونا ذلك لإعادة تفكيك السرد الاجتماعي إن لم يكن تدميره ؟!
