التصنيفات
مقالات

انقلاب الكتابة!

لا نعرف عن شخصية كازانوفا سوى عشقه للنساء ومغامراته الطويلة معهن ، ولكن مؤخرا وبعد شراء المكتبة الوطنية فرانسوا ميتران بباريس لسيرة حياته المخطوطة بيده بمبلغ 7 ملايين يورو ، ظهر أنه أحد أهم مؤرخي القرن الثامن عشر، ومن كتابه أدبه الرفيع . إضافة لدوره في الترجمة وأبحاثه في الرياضيات ، فهو رحالة مدهش نجح عبر كتاباته في نقل لوحة شاملة ووافية عن المجتمع الأوروبي خلال القرن الثامن العشر الميلادي .

هذا ما كشف عنه آخر مخطوطاته ( مذكرات حياتي ) التي وقع عليه باسم ” جاك كازانوفا دو سنغال “، حيث تتألف من عشرة أجزاء و3700 صفحة ، وصفتها صحيفة الإكسبريس بأنها ” أحسن عمل موسوعي عن القرن الثامن عشر” ، وقد استغرق العمل فيها تسع سنوات جاءت كلها بخط يده .

المعروف أن كازانوفا ولد في عائلة فنانين وأدباء ، ما جعله محبا للفن والأدب ، ولا يحل ببلد إلا ويزور أولا مكتباته ويمكث فيها طويلا. ولعل شغفه بالأدب ، جعله ذا أسلوب مؤثر في رسائله التي كتبها لعشيقاته ، لكن معظمها أُحرق خشية الفضائح التي قد تسببها لهن . وغير المعروف أن لكازانوفا كتب أيضا ، أربع مسرحيات وقصة ، وأنجز عدة ترجمات لمؤلفات فولتير وهوميروس ، مع مجموعة أبحاث في التاريخ والرياضيات.

إلا أن مذكراته كانت أكثر انتاجاته ثراء ، حيث بدأ كتابتها وبطلب من صديق ثري منذ 1789 م وهو ابن الرابعة والستين ، وكان يكتب بمعدل ثلاث عشرة ساعة يوميا ليتوقف في 1792 لمدة 18 شهرا بسبب إصابته بكآبة شديدة ، استمر بعدها في الكتابة حتى وفاته عام 1798 م ، وكان يوقع في أسفل كل صفحة بأول حروف اسمه ما عدا الصفحة الأخيرة التي بدت شبه فارغة ، كتبت بيد ضعيفة ، ما يدل على أنه ظل يكتب حتى وافته المنية.

وبرغم أن كازانوفا إيطاليا ، فإن مذكراته كتبها باللغة الفرنسية الفصيحة التي لم يتعلمها إلا بعد ولعه بلغة موليير ، ساعده في ذلك ثقافته ورهافة ذوقه و مستواه الأكاديمي لكونه حاصلا على الدكتوراه في القانون ، ساعده كل ذلك على الوصول والتقرب من أوساط المثقفين والنبلاء الفرنسيين ، وأحب لغتهم الرقيقة ، وهو ما كان واضحا في الأسلوب الجميل الذي استعمله المغامر الإيطالي والذي فجر فيه طاقاته الإبداعية في الكتابة بكثير من الإيحائية ، حاول فيها أن يبتعد عن الإباحية التي كان يستعملها بعض كتاب عصره . وهنا كانت الدهشة حول ذلك ، برغم مغامراته النسائية الكثيرة التي اعترف حولها في مذكراته أنها وصلت إلى 122 مغامرة . حول هذا العدد المهول من المغامرات ، يقول ماكسيم روفر صاحب كتاب (كازانوفا قصة هروبي من سجن البندقية ) : ” العدد في حد ذاته ليس قياسيا ، فرجال ممن عايشوا عصره عرفوا ربما عددا أكبر من النساء ، لكن ما ميز كازانوفا هو حبه الصادق لهؤلاء النساء ، فهو لا يرتبط بعلاقة إلا إذا خفق قلبه بقوة ، ولا يتركهن إلا بعد عذاب شديد” .

ما يهمنا ليس فيما تحاول المذكرات أن تصلحه لصورة كازانوفا التي اشتهر بها كزير للنساء ولكن ما قد تتضمنه هذه الشخصية من جانب خفي لا يُعرف الكثير عنه كإنسان ولعه الشديد بالكتابة بمختلف فنونها ، وهو ما قد يكون مناقضا لما هو معلوما عنه .

وكيف أن الكتابة يمكن أن تقدم الإنسان بشكل آخر و مناسب للآخرين ، يتحدث فيها عن عصره .. وعن نفسه ، متى ما تمكن من ناصية اللغة و أسرارها فيقلب الواقع عنه ، كما تمكن من أسر قلوب الفاتنات ، وأوقعهن في عذوبة كلماته .

فالكتابة ، فعل انقلابي ، والحديث هنا لنزار قباني : ” يستهدف تغيير هندسة الكون وهندسة الإنسان. وعندما يغيب الشرط الانقلابي في الكتابة ينتهي مبرر وجودها. لا كتابة بغير تحريض . وكل قصيدة يكتبها شاعر هي تحريض لغوي على السمو والتمدن ، والانعتاق والحرية .

الكتابة هي الجلوس على حافة الهاوية ، لا على فراش حرير، ولا على سجادة تبريزية، ولا على كرسي هزاز … إنها الإبحار في فضاء من الأسئلة دون أن يكون معك تذكرة للعودة .”

فهد توفيق الهندال

أضف تعليق