
( أبيض يتوحش):معادلةالجهراء وأوتاواناصر الظفيري“الوطن لا يموت” ناصرجاءت العبارة المذكورة أعلاه، ضمن سياق خطاب إحدى الشخصيات في قصة (المقعد الخالي) التي نشرت عام 1992 ضمن المجموعة الثانية (أول الدم) الصادرة 1993، حيث كان السياق كالتالي:”يا إلهي، هذه كلها رسائلها!! إذن، هي لم تمت؟” “الوطن لا يموت، يا صديقتي، يتألم، يجوع، يقهر، ولكنه لا يموت، لا يموت”.جاءت المرأة هنا في هيئة الوطن الذي يراه ناصر، فهو كائن ومكان معا. كائن في شخصية المرأة، الأصدقاء، الأب. ومكان، الوطن، الغربة. جاء الزمن في هذه المجموعة القصصية عبر ذاكرة سردية ممتدة من عام 1991 حتى 2016، لتتقاطع الأحداث من خلال علاقات شكلت هذه الثنائيات: الكائن/المكان، العاشق/المرأة، الفقد/الموت. شكّل المكان الأول ( الوطن) غربة الكائن الأولى وهو حاضر فيه، وشكّل المكان الثاني ( المهجر) الغربة الثانية للكائن نفسه، ليحاول التخلص من الغربتين عبر النسيان والعيش في ذاكرة الحاضر:” منذ عشرين عاما وأكثر قليلا، وأنا أدرب نفسي على النسيان. كلما التقيت بوجه يعرفني، وبالكاد أتذكره، فيسألني هل تعرفني؟ وأقول بصدق “لا” بعضهم يرمقني بحنق، أفهم أنه يتهمني بالانكار والتكبر ووو صفات من هذا النوع المزعج. كنت أشعر بالفرح أنني وبعد مران طويل على النسيان نجحت. استطعت أن أتحكم إراديا بذاكرتي. فأقصي من أريد عن قصد منها، ولكن العيب الذي صاحب هذا المران، انني أقصيت منها من لا أريد إقصاءه ” . برغم المسافة الزمنية بين المكانين/ الكائنين، فإن المرأة في السرد هي التي تذكرته و أشعلت فتيل الذاكرة بين الإثنين. ولهذا فإن المران لم يكن على قدر كبير من الاتقان في تحقيق هذا الانفصال، مهما تظاهر أو ظن بذلك. وكأن المرأة هنا معادل للوطن الذي كان يحاول نسيانه:” لن أنكر أن الذي ساعدني في تغلبي على ذاكرتي هو انفصال المكان والخروج من دائرة الزمن الذي تحيط به. فمنذ النفي الأول وأنا في عزلتي لا ألتقي أحدا من وطني، لا يُكاتبني أحد ولا أكاتب أحد. أغرقت نفسي في تفاصيل المكان الجديد، وانتظام حركتي في مداره الزمني. تعثرت قليلا، تراجعت قليلا، تقدمت، هرولت، مشيت، ركضت، ولكنني انتظمت مستفيدا من أقدمية الزمان وهشاشة المكان في ذاكرتي، المكان الذي تركته وأنا في العشرين من عمري، وكان حينها مكانا مهشما، وزمنا متوقفا” . ولكن، هل رجّح استمرارُ الزمن كفة النسيان دوما، أم كانت هنا رغبة لتوقفه للحظة؟في قصة ( عندما يقف الز…من) نجد ذات البوح الساكن عن ذلك المكان، عندما تصور لوحة لراقصة باليه أنها سيرة حب ما، فاحتار زمنه فيها ما بين الاستمرار والتوقف:” كنا نختلس فرحا صبيانيا و شهوانيا من زمن يبدو ثقيلا كسيرة الموت، نُهذّب من المكان الذي نحب إلى الحب في أي مكان”.فلحظة راهنة بتوقف الزمن، قد تكون كفيلة بأن تُحيي ما أُعتُقد أنه تلاشى أو مُسح أو تم نسيانه، بل يمكن استعادته ثانية عن طريق الحب، الذي تشاركه المكان الأول مع الكائن أينما كان، ووضعه في إطار ثابت كبرواز اللوحة:” الغرفة التي غادرتها منذ ربع قرن – كحساب رياضي صارم – غيّر طبيعتها شابٌّ، تركته في اول العمر. قام بترميم أثلامها، ومسح خربشاتي عن حيطانها. لم يقصد محو ذاكرتي من المكان. مشكورا ترك لي زمنا ساكنا على ظهر كف. زمنا ليس بامكاني تحريكه إلى الأمام قدر إمكانية تحفيزه باغماضة عين للعودة إلى الوراء، ولكنني أجد نفسي كصاحبة اللوحة أضع رأسي فوق يدي، وأنا أجلس على الكرسي قبالة اللوحة تاركا كفي تُنبئ عن توقف الزمن، في إطار لوحة، علّقها الشاب، ليذكر أنني كنت هنا يوما ما”. وهنا يخوننا النسيان، عندما نظن أننا استطعنا بذلك المران أن ننسى، فتأتي الذاكرة من توقف الزمن حميميا، مهما كانت قسوته، شدته، رغبته، فهو ثابت غير متحول:” كل شيء يشكّل زمنه الخاص.. أما زمني في مستطيل اللوحة، فثابت لا يتغيّر، ثابت ومؤلم كهذا الزمان على ظهر كف راقصة” . ماهو معادل الثبات هنا، الذي قد يكون معادل المكان؟ إنها المرأة.فقد جاءت معادلا ثابتا في قصص المجموعة باختلاف صورها، الحبيبة، الأم، ابنة الجيران. فمهما غابت، فإنها تحضر ثانية، وإن رحلت، تعود أدراجها. فقد تكون ابنة الجيران التي التقاها صدفة في الغربة، فاقدا كل ذاكرة التفاصيل بينهما، مهما حاولت تذكيره في ليلة عابرة:” وحين ركبت سيارتي إلى المدينة، حاولت أن أتذكر إسمها. لو تذكرت اسمها، لعرفت بأن كل ما قالته قد حدث فعلا. لو. ” أو المرأة المنتظرة لعودته من رحلة العلاج، بقلب جديد، ولكنها بمجرد أن احتضنته ضغطت على الجهاز، ليتوقف عن العمل فمات سريعا، أو كما خُمِّن في النص:” لم يكن لقلبه أن يتحمل رائحتها” .كذلك هي القصص الأخرى، حملت ذات الثنائية المُرهَقَة بين الكائن/ المكان، العاشق/المرأة، ولعل النتيجة الحتمية للفراق، الانفصال، النسيان ما بينهما هي فقد مؤلم، شديد، يكون للحنين دور في أن يتحول إلى أقسى صورهذا الفقد ..الموت.حيث يتغلب البياض القاتل في صراع الألوان في “قلب جديد لأبيض” عندما كانت الخطوة الأولى باتجاه الرحلة إلى هناك خيانةً عظمى لكل شيء هنا. أو في “اشتهاءات الموت” الذي يرتب بمزاجية عنيدة معاناة ضحاياه غير عابئ بالأولوية لذلك: ” كأن الموت يريدني، لكنه لم يتعرف علي، وكنت أريده. أبي.. ماذا تركت لي؟ أعذرني يا أبي . إنني لا أحبك. …..اعذرني يا أبي،. ليس لأنني أحبك ولكنني أريد أن أرتاح معك ولا أعذّب أحدا بعدي. ” حتى ألحقه الموت في راحة أبيه:” هكذا أفضل يا أبي.. من سيذكرنا؟؟؟” . برغم ذلك، فإن الوطن لا يموت، يرحل الإنسان من مكان إلى مكان، قد يتبدل مما كان إلى كائن، لكن الوطن يبقى جميلا، أجمل هناك، برغم الفضاء الجديد، واللغة الجديدة:” ولا أنكر أن علاقتي بالحرف العربي الذي تركتُه لا يضاهي علاقتي بالحرف الأجنبي الذي أعيشه. لم أتآلف مع المكتبة الجديدة، والتي بدأتُ أُضيف لها الكتب العربية، لأستعيد الشعور الحقيقي بوجودها، وللإيمان بالعلاقة التي تربطني بها. وما يزال حنيني لمكتبتي الضخمة جزءا من نوستالجيا الوطن” . نعم، كان الحنين/الهوية أصل المعادلة بين ثنائيات الكائن/ المكان، العاشق/المرأة. وقد شكلته قصص مجموعة (أبيض يتوحش) في بنائها على قصص المجموعة الأصل (أول الدم) الصادرة في الكويت، فليس اعتباطيا أن تأتي قصة (مكتبة) في خاتمة الكتاب، وقد وثّقت المكان والزمان، أوتاوا 2016، وقد ختمت بآخر أمنية:” سأعود قريبا لأحتضن هذه الأسماء التي علمتني. سأعود إذا لم ينطبق الجدار على الجدار. ” . فهد توفيق الهندالباحث وناقدالمصدر: – ناصر الظفيري: أبيض يتوحش، قصص، منشورات المتوسط، ميلانو،الطبعة الأولى 2017
